( 21 سنة ) - العراق
منذ سنتين

تفسير آية

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) ماتفسير الاية القرآنية وما الموعظة المستفادة منها؟


السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، مرحبًا بك أيها السائل الكريم ، نشكر تواصلك معنا نجيب عن سؤالكم بعدة نقاط: ١- جاء في تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١٣ - الصفحة ٣٩٩: قوله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ظاهر السياق أن الخطاب للمشركين وهو مسوق سوق الكناية وهم المعنيون بالتوصيف وسيقترب من التصريح في قوله: " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه " فالمنكرون للنبوة والمعاد هم المشركون. قيل: ولم يقل: بالأخسرين عملا، مع أن الأصل في التمييز أن يأتي مفردا والمصدر شامل للقليل والكثير للايذان بتنوع أعمالهم وقصد شمول الخسران لجميعها. قوله تعالى: " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " إنباء بالأخسرين أعمالا وهم الذين عرض في الآية السابقة على المشركين أن ينبئهم بهم ويعرفهم إياهم فعرفهم بأنهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وضلال السعي خسران ثم عقبه بقوله: " وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وبذلك تم كونهم أخسرين. ٢-إِنَّ من أفضل أساليب تنبيه المخاطب وجذبه هو طرح الاستفهام المباشر عن شيء لا يعرفه، خصوصاً وأنَّ الآية الشريفة صدّرت السؤال بـ ﴿هَلْ نُنَبِّئُكُمْ﴾، حيث إِنَّ النبأ لا يكون إلا للإخبار بما لا يعلمه المخبر، مع كون المخبَر به أمراً عظيماً بليغاً، ويجوز أن يكون المخبَر بما يعلمه وبما لا يعلمه، ولهذا يقال: (تخبرني عن نفسي)، ولا يقال: (تنبئني عن نفسي)، وكذلك تقول: (تخبرني عما عندي)، ولا تقول: (تنبئني عما عندي)، وفي القرآن: ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾. هذا، والآمر بالسؤال هو اللهُ تعالى، والمأمورُ هو النبيُّ المصطفى محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، والمعلومة التي يُراد الإنباء عنها صادرةٌ مِمّن وصف نفسه في كتابه: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾. و﴿الْأَخْسَرِينَ﴾ الواقعة بعد الاستفهام مباشرةً والمنبأ عنهم، يشوّق السامع لمعرفة الأمر والبحث عنه، خصوصاً وأنّ المنبئ هو الله عزّ وجل، وينبئ عن الأخسرين في الآخرة، فقد يكون الأخسر في الدنيا من الفائزين في الآخرة، وقد يكون العكس، فالله عزّ وجل صرّح بأنَّ ﴿الْأَخْسَرِينَ﴾ هم الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم لا يعلمون بذلك، بل يعلمون العكس، ويحسبون أنّهم يحسنون صنعاً. ما هي حقيقةُ الخسارة؟! ومَنْ هو الخاسِرُ؟! بل مَنْ هو أخسَرُ الناس؟! وهل هو مَن خسِرَ تجارتَهُ؟! هل هو من خسِرَ مالَهُ؟! مَن اعتاد على عالم الدُّنيا، ولم ينظر إِلَى ما وراء عالم الماديات قد يظنُّ ولا يُفكِّر إلا بما يرتبط بالخسارة الدنيويّة... لكن هل هذه هي الخسارة الحقيقيَّة التي يتكفّل الجبّار بأنْ يخبرنا عنها؟! قطعاً الأمر ليس كذلك،وذلك لأنَّ خسائرَ الدنيا تتّصف بأنَّها: محدودة. قابلة للتعويض والزوال. وليتعظ الإنسان بما يراه من تجارب يومية، بل قد يعيش هو نفسه بعض هذه التجارب، فكم من مرّةٍ نخسر ونفقد كلّ ما لدينا، ثم نقوم من جديد. وعليه، فما كان شأنه محدوداً وقابلاً للتعويض، ليس هو الخسارة الحقيقية. بل قد تكون نتيجةُ هذه الخسارة الدنيويَّة نعمةً من نِعَمِ الله تعالى على الإنسان، فيما لو تلقّاها بصبر، قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾5، ومع الصبر على هذه الابتلاءات يأتي وعد الله وبشارته قائلاً: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾، فبشّرهم بالخير الكثير: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾. فليست الابتلاءات الدنيوية والخسائر التي تحصل فيها هي المقصودة من الآية الكريمة... فما هي هذه الخسائر المشار إليها إذن؟!! من هم الأخسرون أعمالاً؟ الأخسرونَ أعمالاً بحسب هذه الآية الشريفة هم الذين اتصفوا بصفتين: الصفة الأولى ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾: وليعلم أَنَّ ضلالَ السعيِ في الحياة الدنيا سبَبُهُ ضلالٌ وخللٌ كبيرٌ في العقيدة، ونفوذٌ من الشيطان إلى صلبِها، فلو لم تكن العقيدةُ فاسدةً ولم يعترِها خَلَلٌ، لما ضلَّ سعيُهُم في الحياة الدنيا، لأنَّ العقيدةَ الفاسدةَ تجعلُ صاحبَها في ضلالٍ كبير. والضلال والخلل في العقيدة على مراتب: أ- فتارة يكون ذلك باختلال العقيدة من أساسها، وأصحاب هذه المرتبة ليس لهم قيمة عند الله تبارك وتعالى، كما نصّ على ذلك في كتابه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنً﴾. ب- وأُخرى يكون بضلال السعي عملياً، وهذا ناشئٌ كما أسلفت من نقصٍ في العقيدة ولو على سبيل الشرك والرياء، فيحبط الله عمله أيضاً، لأنّ الآتي إنما أتى به لغيرالله تعالى، يقول تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾. ج- وثالثة يكون ضلال السعي عملياً متأخّراً عن العمل، فيحبطه بعد الإتيان به، وفي هذا ضل قومٌ كثيرون، وذلك بأنْ يكمِل العبادةَ على الإخلاصِ المحضِ والنية الصالحة ويكتبها الله في ديوانِ المخلصينَ، لكن يعرضُ له بعدَ ذلك ما يدفعُهُ لإظهارها، ليحصل له بعضُ الأغراضِ الدّنيويّةِ الرخيصةِ، فينضمُّ إلى ما حصّله بها من الخير الآجلِ خيراً آخرَ عاجلاً قد زيّنه له الشيطانُ، فيحدِّث به ويُظهره لذلك، فهذا أيضاً مفسدٌ للعمل وإن سبق، كما يفسده العجب المتأخر. وقد روي أَنَّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: صُمتُ الدهرَ يا رسولَ الله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَا صُمتَ وَلَا أَفْطَرْتَ"، فهذا من زمرة الأخسرين أعمالاً. الصفة الثانية ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعً﴾: فهم يحسبونَ أنَّهم يُحسنونَ صنعاً وما ظنُّوا حسنَ أعمالهم وأفعالهم المخالفةِ للشرع إلَّا لجهلهم بحقوق الله عز وجل وعظمته، ولضعف بصيرتهم، وهم أصناف: الأول: الكفار بالله، واليوم الآخر، والأنبياء، فإنَّ الله زيّن لكلّ أمة عملها، إنفاذاً لمشيئته، وحكماً بقضائه، وتصديقاً لكلامه. الثاني: أهل التأويلِ الفاسدِ الذين أخبر الله عنهم بقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ﴾، كأهل حروراء والنهروان، ومن عمل بعملهم في يومنا هذا، وخطرهم الآن على المسلمين أشدّ من أعداء الدين، فهم مثلهم وشرٌّ منهم. ورد في كتاب الاحتجاج عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ قَالَ: "خَطَبَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي...، فَقَامَ إِلَيْهِ ابْنُ الْكَوَّاءِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا الذَّارِيَاتُ ذَرْواً؟ قَالَ الرِّيَاحُ قَالَ فَمَا الْحَامِلَاتُ وِقْراً؟ قَالَ السَّحَابُ قَالَ فَمَا الْجَارِيَاتُ يُسْراً؟ قَالَ السُّفُنُ قَالَ فَمَا الْمُقَسِّمَاتُ أَمْراً؟ قَالَ الْمَلَائِكَةُ... قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالً﴾ قَالَ كَفَرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ فَابْتَدَعُوا فِي أَدْيَانِهِمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ثُمَّ نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِ ابْنِ الْكَوَّاءِ ثُمَّ قَالَ يَا ابْنَ الْكَوَّاءِ وَمَا أَهْلُ النَّهْرَوَانِ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أُرِيدُ غَيْرَكَ وَلَا أَسْأَلُ سِوَاكَ قَالَ فَرَأَيْنَا ابْنَ الْكَوَّاءِ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ فَقِيلَ لَهُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ بِالْأَمْسِ تَسْأَلُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا سَأَلْتَهُ َ أَنْتَ الْيَوْمَ تُقَاتِلُهُ؟ فَرَأَيْنَا رَجُلًا حَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ". الثالث: وهم الذين أفسدوا أعمالهم بالرياء، وضيّعوا أحوالهم بالإعجاب، ويلحق بهؤلاء أصناف كثيرة، وهم الذين أفنوا زمانهم النفيس في طلب الخسيس. وقد نبّه الباري تعالى على هذا بقوله: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً). والمهمّ في المقام أَنَّه حتى نتجنب الخسران المبين علينا أن نعرف حقيقة الأعمال التي تؤدّي إليه، وحقيقة الأعمال التي تجنبنا الوقوع في الخسران والندم. دمتم في رعاية الله

1