السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، مرحبًا بك أيها السائل الكريم ، نشكر تواصلك معنا
إنّ من الفضائل الأخلاقية التي لا يصل الإنسان إلى مراتب الكمال دونها، هي صفة العفو عن زلّات الآخرين وهفواتهم، وترك الانتقام منهم.
وهي من الصفات الإلهية والإنسانية، وعكسها أي الانتقام من الصفات الحيوانية، لذلك نجد أنبياء الله وأوليائه المتّقين الذين يمثّلون بصدق معاني الإنسانية يتّصفون بها. ومن هنا نرى أنّ القرآن الكريم يجعلها من صفات المحسنين، يقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وعلى العكس من ذلك نجد أنّ الكافرين والمنافقين والفسّاق الجهلة والحكّام الظلمة يتّسمون بصفة الانتقام.
هذا والآيات القرآنية والروايات الإسلامية زاخرة في بيان فضيلة العفو والصفح وذمّ روح الانتقام والثأر، وفي سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام في هذا الباب الكثير من النماذج الراقية.
يقول سبحانه: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾.
﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾.
يظهر من الآيتين المباركتين الحثّ على فضيلة العفو وأرجحيّته على المعاقبة بالمثل، فإنّ العفو قد يكون له إيجابيّات أكثر من المعاقبة بالمثل، وذلك حسب اختلاف الأشخاص والحالات. فعلى الإنسان الحكيم أن يُعْمِل حكمته لكي يعرف متى يعاقب بالمثل ومتى يعفو.
نعم هناك موارد يكون العفو والصفح فيها سبباً لجرأة المجرمين والمنحرفين، ولا شكّ أنّه لا أحد يرى في العفو في مثل هذه الموارد فضيلة أخلاقية، بل إنّ حفظ نظام المجتمع والنهي عن المنكر والتصدّي لمنع وقوع الجريمة تقتضي عدم التساهل مع المجرم، وترك العفو في مثل هذه الموارد، بل العمل بمقتضى العدل وما يفرضه من العقاب على المجرم.
ونجد في الأحاديث الإسلامية أيضاً إشارة إلى هذا الاستثناء، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "العَفوُ يُفسِدُ مِنَ اللَّئِيمِ بِقَدَرِ إِصلاحِهِ مِنَ الكَرِيمِ".
ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله: "العَفوُ عَنِ المُقِرِّ لا عَنِ المُصِرِّ عَفو".
وأيضاً ورد في الحديث الشريف عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً قوله: "جـازِ بِالحَسَنَةِ، وَتَجـاوَزَ عَنِ السَّيئَةِ مـا لَم يَكُن ثَلماً فِي الدِّينِ أَو وَهناً فِي سُلطـانِ الإسلامِ".
ففي مثل هذه الموارد يجب التحرّك على مستوى إلحاق الجزاء العادل بالمسيء.
وجاء في حديث آخر عن الإمام زين العابدين عليه السلام في تأييد هذا المعنى، حيث قال: "حَقُ مَنْ أَسـاءَكَ أَنْ تَعفُوَ عَنهُ، وَإِنْ عَلِمتَ أَنَّ العَفوَ عَنهُ يضِرُّ انتصرت، قـالَ اللهُ تَبـارَكَ وَتَعـالَى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾.
ولكن لا ينبغي أن يكون وجود هذا الاستثناء سبباً لسوء التصرّف في بعض الموارد، وأن يجعلها بعض الناس ذريعة للانتقام في مورد العفو، بحجّة أنّ العفو هنا يتسبب في زيادة الجرأة لدى المذنب والمجرم، بل ينبغي النظر بإخلاص، وبعيداً عن حالات التعصّب، إلى أصل العفو والصفح وموارد الاستثناء بدقّة كبيرة، والعمل طبق هذه الموارد والاستثناءات.
دمتم في رعاية الله