صلح الإمام الحسن (عليه السلام):
ماهي الظروف ما قبل صُلح الإمام الحسن (عليه السلام) ؟
صُلح الإمام الحسن (عليه السلام) ظروف ما قبل الصُلح: بعد إستلام الإمام الحسن (عليه السلام) لمنصب الإمامة، فُرضت عليه مسؤولية حَسْم الخلاف بين معسكري الكفار ومعاوية، الذي كان في طريقه إلى هَدِّ ركن الإسلام هَدّاً. حيث إن الكفار في أطراف البلاد الإسلامية كانوا يتربَّصون بها الدوائر، حتى إذا رأوا ضعفاً أو ثغرة سَدَّدُوا ضربةً مؤلمةً عليها. هذا من جانب، ومن جانب آخر كانت أنباء جيش الشام تذاع في الكوفة والبصرة وسائر البلاد، مع شيء من المبالغة، وكان الجميع يعلم أن حرباً وشيكة تنتظرهم. وعندما حشّد معاوية جيشه الجرّار الذي انتهى عدده إلى ستين ألفاً، وقاده هو بنفسه بعد ما استخلف مكانه الضحاك، كان على الإمام (عليه السلام) أن يحشد قوة الحق أيضاً لتقابل جولة الباطل. بيد أنه (عليه السلام) رأى أن يراسله قبل ذلك، إتماماً للحجة وقطعاً للعذر. فأرسل إليه كتاباً، هذا بعضه: (فَلمَّا تُوفي - رسول الله (صلى الله عليه وآله) - تنازَعَتْ سلطانه العربُ، فقالت قريش نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه. فرأت أن القول ما قالت قريش، وأن الحجة في ذلك لهم على مَن نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم وسلَّمت إليهم، ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها. إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والإحتجاج، فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياءه إلى محاججتهم وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا بالاجتماع على ظُلمنا، ومراغمتنا، والعنت منهم لنا، فالموعد الله وهو الولي النصير). ثم قال (عليه السلام): (فاليومُ فليتعجب من تَوَثُّبِك يا معاوية على أمر لستَ من أهله، لا بفضل في الدِّين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود. وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكتابه، والله خصيمك، فَسَتَرِدُ وتَعلم لمن عقبى الدار، وبالله لَتَلقينَّ عن قليل ربك ثم ليجزينَّك بما قدَّمت يداك وما الله بظلاَّم للعبيد). وقال (عليه السلام) أيضاً: (وإنما حملني إلى الكتابة إليك، الإعذار فيما بيني وبين الله عزَّ وجلَّ في أمرك، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم، والصلاح للمسلمين، فَدَعِ التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي. فإنك تعلم أنِّي أحَقُّ بهذا الأمر منك عند الله، وعند كلّ أوَّابٍ حفيظ، ومن له قلب منيب، واتَّقِ الله ودَع البغي، واحقن دماء المسلمين. فوالله مَا لَكَ خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخل في السِّلمِ والطاعة، ولا تُنازع الأمرَ أهلَه ومَن هو أحق به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلاَّ التمادي في غَيِّك، سِرتُ إليك بالمسلمين، فَحَاكمتُك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين). وبعد ما تُبودلت الرسائل بين القيادتين، ومنها رسائل الحسن (عليه السلام) تقوم بالحجة الدامغة التي ملاكها النقد والتجربة. ورسائل معاوية التي تقوم على المراوغة، وإعطاء العهود والمواثيق على تقسيم بيت المال على حساب الوجاهات، والمراتب القبلية الزائفة. بعد ذلك وردت الأنباء بخبر احتشاد الجيش الأموي وابتدائه بالمسير إلى الكوفة. وكان على الإمام (عليه السلام) أن يتصدَّى لمقابلته، ولكنَّ طريقة تعبئة الجند عند الإمام (عليه السلام) كانت تختلف كثيراً عن طريقة معاوية في ذلك. فمعاوية كان ينتقي ذوي الضمائر الميتة، والقلوب السود، فيشتريها بأموال المسلمين. وكان يستدعي بعض النصارى فيغريهم بالأموال الطائلة لمحاربة الإمام (عليه السلام). وهم آنذاك لايرون فصيلاً من ذلك لأنهم كانوا يرون في شخص الإمام (عليه السلام) المثال الكامل للإسلام، ذلك الدين الذي يبغضونه ويعادونه. أما الإمام (عليه السلام)، فإنه كان يلاحظ في الجند أشياء كثيرة، فلم يكن يطعم أصحاب الوجاهة، ويترك السواد يتضورون جوعاً. ولم يكن يعد الناس بالوعود الفارغة ثم يخلفها بعد أن يستتب له الأمر، ولم يكن يهب ولاية البلاد المختلفة بغير حساب لهذا أو ذاك. ولا كان يحمل الناس على الحرب حملاً قاسياً وهم لها منكرون، ولم يكن يبيح للجند الفتك، وهتك الحرمات، وابتياع الأسرى. وهو (عليه السلام) يعتبر عدوه فئة باغية من المسلمين، يجب أن تُردع بأحسن طريقة ممكنة، ولكن معاوية وحزبه كانوا يرون مقابليهم عدواً سياسيّاً يجب أن يُمزق بأي أسلوب. ولذلك فقد كان جمع الجيش ميسراً عند معاوية، وعلى عكس الأمر عند الإمام (عليه السلام)، حيث كان ذلك من الصعوبة بمكان. ولطالما أشار عليه بعض أصحابه بأن يتَّبع منهج معاوية في ذلك، فأبى (عليه السلام) وأنكر عليهم الميل إلى الباطل، والإنحراف عن الحق. وقد كتب إليه عبيد الله بن العباس واليه على البصرة يقول: أما بعد، فإن المسلمين ولَّوك أمرهم بعد علي (عليه السلام)، فَشَمِّر للحرب، وجاهد عدوَّك، وقارب أصحابك. واشترِ من الظنين دينَه بما لا يلثم لك دنياه، وولِّ أهل البيوت والشرف تستصلح به عشائرهم، حتى يكون الناس جماعة. فإن بعض ما يكره الناس مالم يتعد الحق، وكانت عواقبه تؤدِّي إلى ظهور العدل وعزِّ الدين، خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور، وذل المؤمنين وعزّ الفاجرين. واقتدِ بما جاء عن أئمة العدل، فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلاَّ في حرب أو إصلاح بين الناس، فإن الحرب خُدعة، ولك في ذلك سعة إذا كنت محارباً مالم تبطل حقّاً. وإعلم أن عليّاً أباك، إنما رغب الناس عنه إلى معاوية أنه آسى بينهم في الفيء، وسوَّى بينهم في العطاء فثقل عليهم. واعلم أنك تحارب مَن حارب الله وَرسوله في ابتداء الإسلام، حتى ظهر أمر الله. فلما وُحِّدَ الربُّ، ومُحق الشِّرك، وعَزَّ الدِّينُ، أظهروا الإيمان، وقرأوا القرآن، مستهزئين بآياته، وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى، وآتوا الفرائض وهم لها كارهون. ثم راح ابن العباس يستعرض الوضع الإجتماعي والمساوئ التي فيه، وبيَّن طبيعة البيت الأموي وماضيه وحاضره هذا. ولكن الإمام (عليه السلام) أبى إلاَّ أن يلزم الحقَّ شرعةً ومنهاجاً، ويتَّبع السبيل القويم، أبداً ودائماً. ومع ذلك فقد حشَّد من أهل الكوفة عدداً كبيراً، ولم يهمنا تحديده وضبطه، ولكن الذي يهمنا تحليل نفوس المنتسبين إليه، ومَن كانوا؟، ولِمَ جاؤوا؟، وماذا كانت النتيجة؟. جيش الإمام (عليه السلام) لقد قسَّم المؤرخون جيش الإمام الحسن (عليه السلام) إلى الأقسام التالية: الأول: الشيعة المخلصون الذين اتَّبعوه (عليه السلام) لأداء واجبهم الديني، وإنجاز مهمتهم الإنسانية، وهم قِلَّة. الثاني: الخوارج الذين كانوا يريدون محاربة معاوية والحسن (عليه السلام)، فالآن وقد سنَحَت الظروف فليحاربوا معاوية حتى يأتي دَور الحسن (عليه السلام). الثالث: أصحاب الفتن والمطامع، الذين يبتغون من الحرب مَغنَماً لدنياهم. الرابع: شكَّاكون لم يعرفوا حقيقة الأمر من هذه الحرب، فجاؤوا يلتمسون الحُجَّة لأيٍّ تكون، يكونون معه. الخامس: أصحاب العصبية، الذين اتبعوا رؤساء القبائل، على استفزازهم لهم على حساب القبيلة، والنوازع الشخصية. هذه هي العناصر الأساسية للجيش، وهي طبعاً لا تفي لإنجاز المهمة التي تكون من أجلها، حيث إن الحرب تريد الإيمان، والوحدة، والطاعة. ثم بعث بأول سريَّة لتشكِّل مقدَّمة الجيش تحت إمرة عبيد الله بن العباس، الذي فُضِّل لهذه المهمة من جهات شَتَّى: أولها: لأنه كان الدَّاعية الأول للحرب. ثانيها: لأنه كان ذا سُمْعة طيبة في الأوساط. ثالثها: لأنه كان موتوراً بولديه العزيزين الذين قتلهما جنود معاوية. رابعها: كانت له قرابة مع الإمام (عليه السلام). وزحف ابن العباس بالجيش إلى مسكنٍ على نَهر دِجْلة، التقى بمعسكر معاوية، ينتظر تلاحق السريَّات الأخرى من الكوفة. وفي الكوفة، خليط من الناس مختلفون، فهناك من أنصار معاوية الذين أفسدتهم هدايا الحزب الأموي ومواعيده. وهناك بعض الخوارج القشريين، وهناك من يثبط الناس عن الجهاد، وهناك أهل البصائر يُلهبون حماس الشعب، ويحرضونهم لقتال أهل البغي بِشَتَّى أساليب الاستنهاض. والإمام الحسن (عليه السلام) لا يزال يبعث الخطباء المفوَّهين، والوجهاء البارزين إلى الأطراف، يدعوهم إلى نصرته، ولا يزال أيضاً يُلهب أفئدة الكوفيين بالخطبة إثر الأخرى. ولكن أهل الكوفة كانوا باردين كالثلج أمام هذه الدعوة، لأن الحروب الطاحنة التي سبقت عهد الإمام (عليه السلام) - من الجمل إلى صِفِّين والنهروان - قد أنهكتهم. وقد أعرب الإمام الحسن (عليه السلام) نفسه في مناسبة عن هذه العلة التي تثبط عزيمة أهل الكوفة عن الخروج معه، فقال: (وكُنتُم في مسيركم إلى صفِّين ودينُكم أَمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أَمام دينِكم، وأنتم بين قتيلَين، قتيلٍ بصِفِّين تبكون عليه، وقتيلٍ بالنهروان تطلبون بثأره، فأما الباقي فخاذل، وأما الباكي فثائر). وبالرغم من معاكسة كل الظروف، فإن أصحاب الحَقِّ قرَّروا اقتحام غمار الجهاد المقدس، علَّهم يكونون الفاتحين. الحرب النفسية فعلَتِ المكائد التي حاكَها معاوية فِعلَها، حيث كان قد سخَّر طائفةً غير قليلة من ذوي الأطماع، يدبرون له مؤامراته، فيبثون الشائعات عن قوة جيش الشام، وقلة جند الكوفة، وضعفه، وعدم القدرة على مقاومته. وعملت الدنانير والدراهم عملها الخبيث، فإذا بالعدة المعتمد عليها من قُوَّاد جيش الإمام الحسن (عليه السلام) ينهارون أمام قوة إعلام معاوية، أو قوة إغرائه. ورغم أن قيادة السريَّة من جيش الإمام (عليه السلام) كانت حكيمة تحت لواء عبيد الله بن العباس فقد ذهبت ضحية مكر معاوية، وتغرير القائد. وإليك القصة: أرسل الإمام (عليه السلام) ابن عَمِّه لملاقاة جيش معاوية وكتب إليه هذه الوصية: (يا ابن العم، إني باعث إليك اثنَي عشر ألفاً، من فرسان العرب، وقَرَّاء مصر، الرجل منهم يريد الكتيبة، فِسِرْ بهم، وأَلِنْ لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وافرش لهم جناحك، وأَدْنِهم من مجالسك، فإنهم بقية ثقاة أمير المؤمنين. وَسِرْ بهم على شَطِّ الفرات، ثم امضِ حتى تستقبل معاوية، فإن أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك، فاني على أثرك وشيكاً، وليكن خبرك عندي كلَّ يوم، وشاور هذَين - يعني قيس بن سعد، وسعيد بن قيس -، فإذا لقيت معاوية فلا تقاتله، حتى يقاتلك، فإن فعل فقاتله، وإن أُصبتَ فقيس بن سعد على الناس، فإن أُصيب فسعيد بن قيس على الناس). ثم سار بنفسه - بعد أيام - في عدد هائل من الجيش، لعلَّه كان ثلاثين ألفاً أو يزيدون، حتى بلغ مظلم ساباط، التي كانت قريبة من (المدائن). فعملت دَسَائس معاوية في مقدمة جيش الإمام (عليه السلام)، فأذيع بين الناس نبأ كان له أثر عميق في صفوف الجيش، وكان النبأ يقول: إنَّ الحسن يكاتب معاوية على الصُلح، فَلِمَ تقتلون أنفسكم؟ ثم أخذ معاوية يستميل قادة الجيش بالمال والوعود، فإذا هم يتسلَّلون إليه في خفاء، ويكتب عبيد الله نبأ ذلك إلى الإمام (عليه السلام). ولكنَّ مؤامرته تلك لم تكن بذات أهمية، حتى اشترى ضمير القائد الأعلى، فكتب إليه يقول: إن الحسن قد راسلني في الصلح، وهو مسلِّم الأمر إليَّ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً، وإلاَّ دخلت وأنت تابع. ولك إن أجبتني الآن أعطيك ألف ألف درهم أعجِّل لك في هذا الوقت نصفها، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر. فمعاوية مَكر بعبيد الله بن العباس بثلاثة أساليب، يمكن تلخيصها: الأول: أنَّ الإمام الحسن (عليه السلام) يراسله في الصلح، وهذه أول ما هَدَّت أركان عبيد الله. فقال في نفسه: إذن فلم أُسيء سمعتي في التاريخ، وأحمل خطيئة الدماء التي تُهرَاق تحت لوائي. الثاني: قول معاوية له: (كُنْ متبوعاً)، فَغَرَّه بالرئاسة. الثالث: وعده بمليون درهم، وهذا الأسلوب كان أهم الثلاثة، في شخص ألزمه إمامه بالعدل، والمساواة مع أقَلِّ الناس. فانسلَّ عبيد الله القائد العام دون أن يخبر أحداً، فأصبح الجيش يبحث عن القائد ليقيم بهم صلاة الصبح فلا يجده. فقام قيس الثاني للجيش يصلي بالناس الصبح، ثم لما انتهى خطب فيهم يهدئ روع الناس، ويُطمْئن قلوبهم، ويقول: إن هذا وأباه لم يأتوا بيوم خيراً قط، إن أباه عمُّ رسول الله، خرج يقاتله ببدر، فأسَّره كعب بن عمرو الأنصاري. فأُتي به رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخذ فداءه، فقسَّمه بين المسلمين. وإنَّ أخاه وَلاَّه عليٌّ على البصرة، فَسَرَق ماله، ومال المسلمين، فاشترى به الجواري، وزعم أن ذلك له حلال. وإنَّ هذا ولاَّه عليٌ على اليمن، فهرب من بسر بن أرطاة وترك ولده، حتى قتلوا، وصنع الآن هذا الذي صنع. فإذا بالجيش يصبح مؤيداً (الحمد لله الذي أخرجه من بيننا)، إلاَّ أنَّ هذا الجيش الذي هرب قائده إلى معسكر العدو، لم يكن في وضع يقاوم جيش معاوية، لذلك تفرَّق أكثره ولم يبقَ منه إلاَّ ربع عدده، أي: أربعة آلاف فقط. وهذا العدد الهائل الذي انتقص من اثني عشر ألف، بعث الخيبة في نفوس الجند في المقدمة. كما بعث الخيبة في نفوس سائر الجيش الثاوي في مظلم ساباط، حيث كان الإمام (عليه السلام)، وحيث كان الجيش الذي انتشرت فيه دعايات معاوية، التي لا زالت تُبث فيه عَبر جواسيسه. وبدأ بعضهم يتسلَّلون إلى معاوية، وكتب بعضهم إليه أنْ لو شئت جئنا بالحسن إليك أسيراً، ولو شئت قتلناه. وجاءت عطايا معاوية التي زادت على مئة ألف غالباً، ووعوده بتزويج بناته لهذا القائد أو ذاك. وهكذا نستطيع أن نعرف مدى ضغط الظروف التي أجبرت الإمام (عليه السلام) على الصلح من هذه الخطبة اللاَّهبة، التي ألقاها على مسامع المساومين بالضمائر، الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة من جيشه (عليه السلام). ويظهر من هذه الخطبة أنهم كانوا متأثِّرين بدعايات معاوية إلى حَدٍّ بعيد، حيث كانوا يلحُّون على الإمام (عليه السلام) بالتنازل عن حَقِّه، ومبايعة معاوية، والإمام (عليه السلام) يأبى عليهم ذلك. كما يظهر أنه كان من الوجهاء مَنْ فَكَّرَ في اغتيال الإمام (عليه السلام)، كما اغتال صاحبُه أباه (عليه السلام). صُلح الإمام أكرهت الظروف الصعبة التي مَرَّ بها الإمام (عليه السلام) على الصُلح مع معاوية إلى أجل هم بالغوه. فكتب إلى معاوية أو كتب إليه معاوية، على اختلاف بين المؤرخين في شأن الصلح، ورضي الطرفان بذلك بعد أن اتفقا على بنوده، التي لم تكن ترجع إلى الإمام (عليه السلام) إلاَّ بالخير، وعلى الأمَّة إلاَّ بالصلاح. ومن راجع كلمات الإمام الحسن (عليه السلام) التي قالها بعد الصلح لأصحابه بعد أن أنكروا عليه ذلك، يعرف مَدَى تأثر قضيته بالظروف المعاكسة التي لم تزل ترفع إليهم بالفتنة إثر الفتنة. فقد قال (عليه السلام) لأحدهم إذ ذاك: (لستُ مُذِلاًّ للمؤمنين، ولكني مُعِزُّهم، ما أردتُ بِمُصَالَحَتي إلاَّ أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت تَباطُؤَ أصحابي ونُكولَهم عن القتال). وقال (عليه السلام) للآخر في هذا الشأن - وقد كان من الخوارج الذين لم يكن بغضهم للحسن (عليه السلام) وشيعته بأقلِّ عن بغضهم لمعاوية وأصحابه -: (وَيحَك أيها الخارجي!!، لا تقضِ، فإن الذي أحوَجَني إلى ما فعلتُ قَتلُكُم أبي، وطعنكم إيَّاي، وانتهابكم متاعي، وإنكم لما سِرْتم إلى صِفِّين، كان دينُكُم أمامَ دنياكم، وقد أصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. ويحك أيها الخارجي!!، إني رأيت أهل الكوفة قوماً لا يوثق بهم، وما اغْتُرَّ بهم إلاَّ من ذُلَّ، وليس أحدٌ منهم يوافق رأيَ الآخر، ولقد لقي أبي منهم أموراً صعبة، وشدائد مُرَّة، وهي أسرع البلاد خراباً، وأهلها هم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً). بنود الصُلح لذلك ولغيره من الأسباب صالح الإمام (عليه السلام) معاوية، وكتب إليه هذه الوثيقة التالية: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما صَالَح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب، معاوية بن أبي سفيان، صَالَحَه على أن يسلِّم إليه ولاية الأمر على: 1 - أن يعمل فيهم بكتاب الله وسُنَّة رسوله، وسيرة الخلفاء الصالحين. 2 - ليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهدَ إلى أحدٍ من بعده عهداً، بل يكون الأمر بعده للحسن ثم لأخيه الحسين. 3 - الناس آمنون حيث كانوا في شَامِهم، وعِرَاقهم، وحِجَازهم، ويَمَنِهم. 4 - إن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم، ونسائهم، وأولادهم. وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه، وما أخذ الله على أحدٍ من خلقه بالوفاء وبما أعطى الله من نفسه. 5 - على معاوية أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لأخيه الحسين، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله، غائلةً، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أُفُق من الآفاق. تَعَهَّد عليه فُلان بن فلان، بذلك وكفى بالله تعهيداً). والموثوق أن مَحَلَّ الصُلح كان مَسكَن ساباط، قريباً من موقع مدينة (بغداد) اليوم، حيث كان معسكر الإمام الحسن (عليه السلام). فلما أن تمَّ ذلك رجع الإمام (عليه السلام) بمن معه إلى (الكوفة).