كلنا يعلم أنَّه لا وجود في الحياة لراحة مطلقة ولا صحة مطلقة ولا لذة مطلقة، والسعادة ليست استثناءً من كل ذلك، صحيحٌ أنَّ الإنسان يتوق إلى المطلق ويرغب في امتلاك كل ما يخطر على باله من أسباب السعادة ولكن من الأفضل أن يستعيض عن البحث عن السعادة المطلقة بالأمل المطلق، وفي هذا الصدد يقول أحد الشعراء:
أُعــــلِّل النفس بالآمـــال أرقبـــــها ... المزید ما أضيقَ العيش لولا فسحة الأملِ
ويقول شاعر آخر:
على الرجـــــــاء يعيش الناس كُلُّــهُمُ... فالدَّهر كالبحرِ والآمــالُ كالسفن
إذ إنَّ الأمل بيومٍ أفضل من يومك وحياةٍ أكرم من حياتك ليس مجرد وقود للحركة والنشاط بل هو أيضاً سبب رئيسي للسعادة، وفي ذلك يقول أحد العلماء: «ينبغي لك أن تؤمن بالسعادة وتأملها وإلّا فإنَّ السعادة لن تأتيكَ أبداً، إنَّ العصفور لن تَقِلَّ زقزقته ومرحه عندما لا يعثر على غير كسرة خبزٍ فينبغي أن يتأمل الإنسان هبوب الرياح حتى وإن بدت ساكنة الآن وأن يتأمل نمو الأعشاب في أيام الثلج والمطر وهذا هو السبب الذي يدفع العصفور إلى أن يزقزق في أحلك أيامه يأمل بالربيع ويحلم بالأعشاب تحركها الرياح»، فالسعادة هي أملٌ بالأفضل كما أنَّ السعادة تُعَدُّ رحلة وليست محطة، وهذا يعني أنَّه ليس هناك وقتٌ محدد أو عمر محدد أو مكان محدد أو حتى سببٌ محدد للسعادة فلا تنتظرها أيُّها الإنسان في أهداف محددة بل ارحل معها من مكانٍ لمكانٍ ومن زمانٍ لزمانٍ آخر، فأنتَ أيُّها الإنسان يمكن أن تكون سعيداً في كل الأوقات وفي كل الحالات وفي كل الأماكن؛ إذ أنَّ كلَّ شيءٍ مهما كان صغيراً إذا منحك الشعور بالسعادة فهو سبب كبير لها فكذلك الأمر بالنسبة إلى المكان فلَرُبَّ غرفة صغيرة في بيتٍ ريفي يمنحك من السعادة أكثر مما يمنحك إيّاها قصر منيف على ضفاف البحر، ولنتعلم من الأطفال فهم يُسعَدون بأمور صغيرة نعتبرها نحن الكبار بسيطة ولكنهم يعتبرونها كبيرة بمقدار ما تمنحهم من الشعور بالسعادة وكما يقول أحد الحكماء: «إنَّ الطريق هو دائماً أفضل من المنزل»، ويقصد الحركة خارج البيت هي خير من الجلوس فيه؛ ويجب على الإنسان أن يعلم أنَّه في مرحلة المقدِّمات حيث يعيش الشوق والرغبة والتطلع إلى المستقبل البعيد وهكذا يترحل مع السعادة، أمّا في مرحلة النتائج فإنَّ الإنسان سيفقد كل ذلك لأنَّه سيصل إلى المحطة فالشوق يتبدد والرغبة تنتهي والتطلع يخبو، فالإنسان يجد كل المتعة أثناء الرحلة؛ لأنَّها تمثل الإبداع والحركة والشوق ومثال على ذلك فرح الرسام باللوحات التي يرسمها كذلك الأمر بالنسبة إلى المخترع والعالم ومما يُروى عن أحد العلماء أنَّه كان كلما سهر الليل لحل مسألة من المسائل يصرخ في نهاية حل المسألة: «أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة»؟
إنَّ السعادة هي مثل الكرة التي نجري خلفها حين تتدحرج ونركلها بأقدامنا حينما تقف فلا تكتمل السعادة لأي إنسان إلّا إذا توافرت له ثلاثة أشياء وهي شيء يعمله وشيء يحبه وشيء يطمح إليه ومع فقدانه لأي واحدٍ منها يفقد السعادة، فسعادة الإنسان تكمن فيما يبحث عنه وليس فيما يحصل عليه فهي تلك اللذة التي يريد الحصول عليها أمّا التي ينالها الإنسان وقضى منها وطراً فقد انتهى أمرها، فالسعادة هي الشوق نحو تحقيق ما تصبو إليه النفس أكثر مما هي الحصول عليه ويقول أحد الشعراء في ذلك:
وما السعادة في الدُّنيا سوى أملٌ... يُرجى فإنَّ صار جسماً ملَّهُ البشرُ
لم يُســعَد الناس إلّا في تشــوِّقهم...إلى المنيــــعِ فإنَّ صـــاروا به فتروا
إنَّ السعادة تسري في خطٍ دائري وليس في خط مستقيم وهذا يعني أنَّك لا تستطيع أن تحصل على السعادة إلّا إذا أعطيتها لغيرك، فالسعادة كالودِّ لا تأخذه إلّا إذا أعطيته والإنسان لا يمكنه أن يحب من يبغضه كما لا يمكنه أن يبغض من يحبه فلا يمكنك أن تصبح سعيداً إن لم تُسعِد الآخرين ومن هنا قيل أنَّ الشخص الذي يمنح السعادة بسخاءٍ يبقى لديه مخزون كبير منها فهي مصدر من مصادر القوة التي تتضاعف عندما تمنحها، يقول الإمام علي(ع): «إنَّ أحسنَ الناس عيشاً من حَسَّنَ عيش الناس في عيشِه»، فبوسع الإنسان مضاعفة السعادة بمشاطرتها الآخرين من دون أن ينقص منها شيء وهكذا فإنَّ السعادة ترفض الإحتكار وهي تزدهر بالعطاء وبهذا الصدد يقول أحد الكتاب: «سقيتُ زهرة في حديقتي كان قد بَرِحَ بها العطش فلم تقل لي شكراً ولكنها انتعشت فانتعشَت معها روحي».
من ذلك نتعلم أنَّه لا سعادة إلّا إذا اشترك فيها أكثر من شخص وفي واقع الحال فإنَّ سعادتك أيُّها الإنسان هو انعكاس لسعادة الآخرين؛ ولذلك فإنَّ الإنسان يشعر بالتعاسة إذا كان وحيداً ويهنأ بسعادةٍ وحبور إذا رافق غيره فيما يسعد به، وإنَّ هناك ثمة سعادة أكبر يشعر بها أولئك الذين يقومون بعملٍ طيّبٍ تجاه الآخرين سواء تلقّوا الشكر عليه أم لم يتلقّوا، وهناك ثمة سعادة أكبر يشعر بها أولئك الذين يقومون بعملٍ طيّب ويُبقونه سراً وقد بَشَّرَ كل الإنبياء بالعمل الصالح الذي لا يتم الإعلان عنه وجعلوه إلى جنب العمل الصالح المعلن على أساس قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، ومن هنا فمن أراد أن يُسعَد فعليه أن يسعِد الآخرين فالعمل يفقد الكثير من قيمته إذا كان الدافع إليه الرغبة في الحصول على التقدير، ومن هنا فإنَّ إسعاد الآخرين بصمت هو أكثر مردوداً في إسعاد النفس من النوع المعلن عنه، فليس مهماً أن يعرف الآخرون أنَّك سبب إسعادهم بل المهم أن تعرف أنت ذلك وهذا أكبر سبب لسعادتك، إذ يقول الإمام علي(ع): «من السعادة التوفيق لصالح الأعمال»، كما يقول(ع): «الكتمان طَرَفٌ من السعادة»، فالسعادة مخزون من الفيض الإلهي وحصتك منه هو بمقدار ما تحمله لغيرك فإذا لم تقم بنقله لغيرك فلن تحصل منه على شيء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: كنز لا يبيد - الحلقة الثالثة -الدورة البرامجية 27