سلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
إن من طبيعة الحياة الدنيا كثرة الهموم والغموم التي تصيب الإنسان فيها، فهي دار اللأواء والشدة والضنك، ولهذا كان مما تميزت الجنة به عن الدنيا أنه ليس فيها هم ولا غم " لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين"، وأهلها لا تتكدر خواطرهم ولا بكلمة " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاماً سلاماً " وطبيعة الحياة الدنيا المعاناة والمقاساة التي يواجهها الإنسان في ظروفه المختلفة وأحواله المتنوعة، كما دل عليه قول الحق تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في كبد "، فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل، مغموم في الحال، والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم، والقلوب تتفاوت في الهم والغمّ كثرة واستمراراً بحسب ما فيها من الإيمان أو الفسوق والعصيان فهي على قلبين: قلب هو عرش الرحمن، ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم، والناس يتفاوتون في الهموم بتفاوت بواعثهم وأحوالهم وما يحمله كل واحد منهم من المسئوليات، فمن الهموم هموم سامية، ذات دلالات طيبة، كهموم العالم في حلّ المعضلات التي يحتاج المسلمون فيها إلى جواب وخصوصاً إذا استعصت المسألة واستغلقت، وكذلك همّ إمام المسلمين بمشكلات رعيته، وكلما كان القرار أكثر تعلقاً بمصير المسلمين كان الهمّ أعظم، ومن الهموم الشريفة همّ الداعية في نشر الدين وحمل الرسالة والأخذ بيد المدعو إلى طريق الهداية، وهموم العابد في تصحيح عبادته في القصد والأداء، وهم المسلم بما يصيب إخوانه في أقطار الأرض، ومن الهموم ما يكون ناشئاً عن المعاصي، كالهموم التي تصيب المذنب بعد ذنبه كما يحدث في هم من أصاب دماً حراماً، ومن الغموم ما يكون بسبب ظلم الآخرين كظلم الأقرباء كما قال الشاعر:
وظلم ذوى القربى أشد مضاضة ... المزید.. على النفس من وقع الحسام المهند
وكذلك الغموم الحاصلة بسبب مصائب الدنيا أختي الطيبة، كالأمراض المزمنة والخطيرة ، وعقوق الأبناء وما شابه ذلك، ومن الهموم ما يكون بسبب الخوف من المستقبل وما يخبئه الزمان كهموم الأب بذريته من بعده وخاصة إذا كانوا ضعفاء وليس لديه ما يخلفه لهم، وهكذا تتنوع الغموم والهموم، وفيما يلي شيء من البيان والتفصيل:
الهم الذي يعتري الداعية أثناء دعوته لقومه، وقد نال منه الأنبياء النصيب الأوفى، ومن الهموم هم العبادات ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهمه أمر إعلام الناس بالصلاة، ومنها همّ الصادق بتكذيبه ،ومنها هم البريء بسبب التهمة الباطلة ومنها الهم بما قد يحصل للزوجة والذرية بعد الموت , ومنها الهمّ بسبب الدَّيْن وما إلى ذلك من هموم الدنيا، وليس المهم أن نستعرض سبب الهموم بقدر ما نبين لك مستمعتي الفاضلة ما في الشريعة من علاجات للهمّ الحاصل فبعد هذا العرض الذي عرضناه لك لطائفة من أنواع هموم الدنيا فقد آن الأوان لأتحدث وإياك عن علاج تلك الهموم.
لا شك أن العقيدة تؤثر في المعالجة، فنحن نرى ونسمع عن كثير من ضعفاء الإيمان يُصابون بالانهيار أو يُقدمون على الانتحار للتخلص من الكآبة والإحباط واليأس إذا ما وقعوا في ورطة أو أصابتهم مصيبة وكم ملئت المستشفيات من مرضى الانهيارات العصبية والصدمات النفسية وكم أثرت هذه الأمور على كثير من الأقوياء ، فضلاً عن الضعفاء ، وكم أدت إلى العجز التام أو فقدان العقل والجنون، وأما من اهتدى بهدي الإسلام فإنه يجد العلاج فيما أتى من لدن العليم الخبير الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " ، فلنستعرض سوية شيئاً من أنواع تلك العلاجات التي جاءت بها شريعتنا المقدسة، فمنها: أولاً : التسلّح بالإيمان المقرون بالعمل الصالح فقد قال الله تعالى: "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"، وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، معهم أصول وأسس يتعاملون بها مع كلّ ما يرد عليهم من أنواع المسرات والأحزان. فإنهم يتلقون النّعم والمسارّ بقبول لها، وشكر عليها، ويستعملونها فيما ينفع، فإذا فعلوا ذلك أحسوا ببهجتها وطمعوا في بقائها وبركتها ورجاء ثواب شكرها وغير ذلك من الأمور العظيمة التي تفوق بخيراتها وبركاتها تلك المسرات، ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لِما يمكنهم مقاومته وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه ، والصبر الجميل لما ليس لهم عنه بد ، فيحصّلون منافع كثيرة من جراء حصول المكاره، ومن ذلك: المقاومات النافعة ، والتجارب المفيدة ، وقوة النفس ، وأيضا الصبر واحتساب الأجر والثواب وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله وثوابه، كما عبّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا المعنى في الحديث الصحيح بقوله: (عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَه)، وهكذا يكون النظر الإيجابي إلى الابتلاء ، ومن العلاجات أيضا أختي المؤمنة : النظر فيما يحصل للمسلم من تكفير الذنوب وتمحيص القلب ورفع الدرجة ، إذا أصابته غموم الدنيا وهمومها:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ )، وفي رواية أخرى: (مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلا نَصَبٍ وَلا سَقَمٍ وَلا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ)، فليعلم المهموم أن ما يصيبه من الأذى النفسي نتيجة للهمّ لا يذهب سدى بل هو مفيد في تكثير حسناته وتكفير سيئاته، وأن يعلم المسلم أنه لولا المصائب لوردنا يوم القيامة مفلسين، ولذلك قيل إن البعض يفرح بالبلاء كما يفرح بالرخاء، وإذا علم العبد أن ما يصيبه من المصائب يكفّر عنه سيئاته فرح واستبشر، وخصوصاً إذا عوجل بشيء بعد الذنب مباشرة، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبد شراً أمسك عنه حتى يوافى يوم القيامة بذنبه )، وأيضا مستمعتي الفاضلة من العلاجات معرفة حقيقة الدنيا فإذا علم المؤمن أن الدنيا فانية، ومتاعها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدّرة ولا تصفو لأحد، إن أضحكت قليلاً أبكت طويلاً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، والمؤمن فيها محبوس كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ): ( الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ )، وهي كذلك نصب وأذى وشقاء وعناء ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها، وموت المؤمن راحة له من غموم دار الدنيا وهمومها وآلامها، أختي الفاضلة إن هذا المعنى الذي يدركه المؤمن لحقيقة الدنيا يهوّن عليه كثيراً من وقع المصاب وألم الغمّ ونكد الهمّ لأنه يعلم أنه أمر لا بدّ منه فهو من طبيعة هذه الحياة الدنيا، لذلك نقول لك ولكل المؤمنين فلتطمئن القلوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: برنامج فلتطمئن القلوب- الحلقة الأولى-الدورة البرامجية32