السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
ذكر الباحثون في علوم القرآن والمفسّرون أدلّة عدّة على صيانة القرآن من التحريف، أبرزها التالي:
أولا-الدليل القرآني:
1. قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. من أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنّه ذِكْر لله، فإنّه يذكِّر به تعالى، بما أنّه آية دالّة عليه، حيّة خالدة. وتفيد هذه الآية أنّ الله تعالى هو حافظ هذا القرآن في مرحلتي التنزيل والبقاء، حيث أُطلِقَ الذِكْر وأُطلِقَ الحِفظ، فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كلّ زيادة ونقيصة وتغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذِكريّة ويُبطِل كونه ذكراً لله سبحانه بوجه. وقد وُضِعَت كلّ عوامل التأكيد بعضها إلى جانب بعضها الآخر، لبيان هذه الحقيقة المهمّة والخالدة.
2. قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾. العزيز: عديم النظير أو المنيع الممتنع من أن يُغلَب، والمعنى الثاني أنسب، لما يتعقّبه من قوله تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ... المزید﴾. والمدلول هو: أنّه لا تناقض في بياناته، ولا كذب في أخباره، ولا بطلان يتطرّق إلى معارفه وحكمه وشرائعه، ولا يُعارَض ولا يُغيَّر، بإدخال ما ليس منه فيه، أو بتحريف آية من وجه إلى وجه. وكيف لا يكون كذلك؟! وهو منزَّل من حكيم متقِن في فعله، لا يشوب فعله وهن، محمود على الإطلاق. فهذه الآية تنفي أيّ احتمال للتحريف بالزيادة أو التحريف بالنقصان، وتشير إلى أنّ خاصّيّة الحفظ جاءت من داخل القرآن، بفعل تماسك بنيانه.
وغيرهما آيات كثيرة تدلّ على صيانة القرآن عن التحريف.
في جدوى الاستدلال بالقرآن الكريم على عدم تحريفه
لقائل أن يقول: إنّ الاستدلال بالقرآن الكريم على عدم حصول تحريف فيه، لا يصحّ إلا إذا ثبت أنّ ما يُستدلّ به من آيات هي من القرآن، فمن أين نعلم أنّها من القرآن، وأنّها ليست محرّفة؟
والجواب عنه:
إنّ مدّعي التحريف لا يذهب إلى القول بالتحريف بالزيادة. وعليه، فإنّ عدم الزيادة في القرآن أمر متّفق عليه، فيمكن عندها الاستدلال بالقرآن نفسه على صيانته عن التحريف.
عدم ورود هذه الآيات في النصوص التي ادّعي دلالتها على التحريف.
إنّ الآيات الدالّة على صيانة القرآن عن التحريف تثبت عدم وجود نقص في القرآن أيضاً - بعد التسليم بعدم الزيادة في القرآن الكريم- ولازم ذلك صيانة القرآن عن التحريف مطلقاً.
ثانيا-الدليل الروائي:
روايات الثقلين: ومفاد هذه الروايات: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما، لن تضلّوا بعدي أبداً، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض". ووجه الاستدلال بها:
أنّ القول بالتحريف يستلزم عدم وجوب التمسّك بالكتاب المنزل، لضياعه على الأمّة، بسبب وقوع التحريف، ولكن وجوب التمسّك بالكتاب باقٍ إلى يوم القيام، لصريح حديث الثقلين، فيكون القول بالتحريف باطلاً جزماً. وقد دلّت هذه الروايات على اقتران العترة بالكتاب، وعلى أنّهما باقيان في الناس إلى يوم القيامة، فلا بدّ من وجود شخص يكون قريناً للكتاب، ولا بدّ من وجود الكتاب ليكون قريناً للعترة، حتى يردا على النبي صلی الله عليه وآله وسلم الحوض، وليكون التمسّك بهما حفظا للأمّة عن الضلال.
روايات التمسّك بالقرآن: حيث توصينا هذه الروايات بالرجوع إلى القرآن عند الفتن والشدائد، وتصف القرآن بأنّه ملاذ حصين. فإذا كان الكتاب نفسه لم يسلم من فتن الزمان، فكيف يمكنه حماية الآخرين من أضرار الفتن؟
روايات العرض على القرآن: وردت روايات عن أهل البيت عليهم السلام جاء فيها: "إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه"، "كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"، "ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف"، "اعرضوها (أي الروايات) على كتاب الله، فما وافى كتاب الله عزّ وجلّ، فخذوه، وما خالف كتاب الله، فردّوه".
ويفهم من مجموع هذه الروايات أنّ القرآن هو الميزان الحقّ الذي يعتمد عليه في كشف الحقّ من الباطل والتمييز بينهما. وعليه، فكلّ رواية تشير إلى تحريف القرآن، إذا تعذّر تأويلها وتوجيهها، تكون باطلة وموضوعة ولا اعتبار لها.
أمر الأئمّة عليهم السلام بقراءة سورة كاملة بعد الفاتحة في الصلاة: فلو كان القرآن محرّفاً، لما صحّ الأمر بالقراءة منه، ولكان الأمر بالقراءة منه لغواً وتكليفاً بغير المقدور للمكلّف. وهذا ما لا يلتزم به القائلون بالتحريف.
نعم، إنّ هذه الروايات لا تنهض بنفي دعوى وقوع نقص في القرآن بسورة كاملة أو أكثر من سورة.
روايات تلاوة القرآن وفضلها وثوابها: إنّ مجموع هذه الروايات يفيد أنّ القرآن الموجود بين أيدينا غير محرّف، وإلا لكانت هذه الروايات لغواً، غير مقدور تحصيل ثوابها للمكلّف.
روايات صيانة القرآن عن التحريف المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام: حيث تدلّ هذه الروايات على صيانة القرآن عن التحريف، ومنها:
ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما بين الدفتين قرآن".
ما روي عن الإمام العسكري عليه السلام: "اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك: أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الإجماع عليه مصيبون، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون...".
ثالثا-الدليل العقلي:
ذكر الباحثون والمحقّقون في مجال علوم القرآن والتفسير عدّة تقريبات للدليل العقلي على صيانة القرآن عن التحريف[32]. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه التقريبات ليست عقليّة بحتة، لأنّها تتضمّن مقدّمات متسالم عليها بين المسلمين. ومن هذه التقريبات: التقريب التالي، وهو يتألّف من مقدّمات عدّة، هي:
إنّ القرآن كتاب هداية للعالمين.
القرآن كتاب خاتم، كما أنّ الرسول صلی الله عليه وآله وسلم رسول خاتم.
إذا حرّف القرآن يترتّب على ذلك إضلال الناس.
مقتضى حكمة الله تعالى أن ينزّل كتاباً آخر ويُرسل رسولاً آخر، وهذا يلزم منه: إمّا تكذيب الله سبحانه، لأنّه أخبر بأنّ الرسول صلی الله عليه وآله وسلم هو خاتم الرسل ورسالته خاتمة الرسالات، وإمّا نسبة الجهل إليه تعالى على فرض اكتشافه ضرورة إرسال نبي آخر ورسالة أخرى.
النتيجة: إذن، القرآن لم يحرّف.
رابعا-الإعجاز القرآني:
ويقوم هذا الدليل على مقدّمات عدّة، هي:
ثبوت التحدّي بالقرآن تاريخياً في عصر الرسالة والدعوة.
القرآن الموجود بين أيدينا هو في الجملة القرآن الموجود في عصر الدعوة.
مواصفات القرآن الموجود بين أيدينا هي نفسها المواصفات المنقولة عن القرآن الموجود في عصر الدعوة، لجهة التحدّي بالوجوه الإعجازية المختلفة.
لو كان القرآن الموجود بين أيدينا محرّفاً، لما انطبقت عليه هذه الصفات والوجوه الإعجازية.
النتيجة: إذن القرآن لم يحرّف.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الدليل لا ينهض بمفرده في إثبات عدم وقوع التحريف بالنقيصة، وإن كان يثبت عدم وقوع التحريف بالزيادة. وعليه، يمكن أن يُتمَّم هذا الدليل بضميمة ما ثبتت قرآنيّته من الآيات الدالّة على صيانة القرآن عن التحريف مطلقاً.
خامسا-الشواهد التاريخية:
يوجد شواهد تاريخية كثيرة تدلّ بوضوح على صيانة القرآن الكريم عن التحريف، منها:
من ضروريات التاريخ: أنّ رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم جاء قبل أربعة عشر قرناً تقريباً وانتهض للدعوة، وآمن به أمّة من العرب وغيرهم، وأنّه جاء بكتاب هو القرآن، وينسبه إلى ربّه، متضمّن لجمل المعارف، وكلّيّات الشريعة التي كان يدعو إليها، وكان يتحدّى به، ويعدّه آية لنبوته، وأنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به وقرأه على الناس المعاصرين له.
توافر الدواعي على نقله وحراسته وصيانته، لأنّ القرآن معجزة النبوة ودليل الرسالة الخاتمة، ولا سيما في وجه أصحاب البدع والتحريف، الذين يترصّدون شرّاً بالإسلام والقرآن.
شدّة عناية المسلمين بحفظ القرآن وتلاوته، وضبطهم الشديد في هذا الصدد.
لو كان القرآن محرّفاً، لاتّخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله.
وجود بعض الأخطاء في رسم المصحف حتى يومنا هذا، مع التفات المسلمين لها بعد توحيد المصاحف، يدل على شدّة عنايتهم بحفظ القرآن وعدم المساس به.