محرم
سلام عليكم /س/ الحر ابن يزيد الرياحي هو احد اصحاب الامام الحسين ع وكان سباقٱ احد القادة في الجيش عمر ابن سعد وهوه من جعجع بالامام الحسين ع منذ دخول الامام الئ الارض العراق وحتئ وصوله الئ كربلاء وفي اخر الحضة تاب ولتحق بالاصحاب لامام الحسين ع سوالي ماذا فعل الحر حتئ انقذه الله من عذاب ودفع البلاء عنه والتحق بركب الشهداء
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته إنَّ التوبة من النّعم المتاحة لكلّ إنسان، ومقام التّوبة مقام يتمكَّن جميع العاصين من الوصول إليه، رحمةً من الله تعالى على جميع عباده. وفي طول التّاريخ كانت هناك شخصيّات جسّدت هذا المفهوم بكلِّ أبعاده في حياتها، فتحوّلت من عبادة الشّيطان والنّفس إلى عبادة الله تعالى وحده في وقفة حاسمة وجادّة مع النّفس بعزيمة راسخة في السّير نحو إصلاح ما فسد منها. وكان لأولياء الله تعالى -ولا يزال- دور في جذب بعض القلوب المستعدِّة إلى خطّ الله تعالى، وكانوا الواسطة لقبول توبتهم، فهم السّبيل إلى الله تعالى والمسلك إلى رضوانه، ومنهم الحرُّ بن يزيد الرّياحيّ الذي انتقل من معسكر يزيدإلى معسكر الإمام الحسين (ع) واستشهد معه فكان من جملة أصحابه الذين لم يرَ (ع) أصحاباً خيراً منهم. و يمكن ان نلخص الكلام في أمرين : الأمر الأوّل: صفات الحرّ الرّياحيّ هناك عدّة صفات ذُكرت لشخصيّة الحرّ الرّياحيّ نستفيدها مما نُقِل في سيرته، ويمكن التّعرّف من خلالها على شيء من أسباب هذا التّوفيق الإلهيّ العظيم الّذي ناله الحرّ، وهو توفيق التّوبة ونصرة الإمام الحسين (ع) ومن تلك الصّفات الآتي: الصّفة الأولى: الشّجاعة وقد شهد لشجاعته المهاجر بن أوس حينما رآه يوم عاشوراء وقد أخذه مثل الأفكل (أي أنّه كان يرتعد) فقال له: “واللهِ إِنَّ أَمْرَكَ لَمُرِيبٌ ولَوْ قِيلَ لِي مَنْ أَشْجَعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَمَا عَدَوْتُكَ فَمَا هَذَا الَّذِي أَرَى مِنْك..”. يعني لم تكن شجاعته عاديّة، بل إنّه -حسب كلام المهاجر- أشجع أهل الكوفة، وقد تجلّت أبعاد شجاعته الكبرى من خلال التحرّر من هوى القيادة، فانتقل من قيادته لجيش تبيّن له أنّه على الباطل، إلى جندي في صفوف ثلّة قليلة تبيّن له أنّها على الحقّ، وكان كما ورد عن رسول الله| أنّه قال: وَأَشْجَعُ النَّاسِ مَنْ غَلَبَ هَوَاه، فكانت شجاعتُه طريقَ توبته. الصّفة الثّانية: الشّرافة في قومه “كان الحرّ شريفا في قومه جاهليّة وإسلاماً”ولما كان شريفاً عرف بأنّ الشّرف والسّؤدد ليس من أيٍّ كان وفي أيّ مكان، ولذا لم يرضَ لنفسه إلّا أن يكون ذا رفعة وقدر عند الإمام الحسين (ع) وذا شرفٍ عند الله تعالى، وهذا ما نتلمّسه من جوابه على المهاجر حينما رآه يرتعد فسأله: “فما هذا الّذي أرى منك؟! فقال له الحرّ: إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت وحُرقت”. وبذلك تبيّن بأنّه شريف بحقّ، فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أنّه قال: الشَّرِيفُ كُلُّ الشَّرِيفِ مَنْ شَرَّفَهُ عِلْمُهُ، وَالسُّؤْدُدُ حَقُّ السُّؤْدُدِ لِمَنِ اتَّقَى اللهَ رَبَّهُ. إنَّ مثل هذه الصّفة قد تمنع بعض النّاس من اتّباع الحقّ، فكون الشّخص شريفاً في قومه قد يجعله يحابي قومه ويراعي مصالحهم وأهواءهم فتمنعه من اتّباع الحقّ ولو ظاهراً، بمعنى أنَّه قد يكون في باطنه متَّبعاً للحقّ ولكنّه لكي يحفظ شرافته في قومه لا يعلن اتّباعه للحقّ، بينما الحرّ الرّياحيّ على الرّغم من شرافته في قومه اتّبع الحقّ باطناً وظاهراً والتحق بالإمام الحسين (ع) لينال الشّرف الحقيقيّ في الدّنيا والآخرة. الصّفة الثّالثة: تقديره واحترامه لمقام الإمام الحسين (ع) حتّى قبل توبته أمّا تقديره للإمام (ع) قبل توبته فيظهر في موقفين: الموقف الأوّل: تقديم الإمام الحسين (ع) للصّلاة، تقول الرّواية في وصف موقف الحرّ الرّياحيّ مع الإمام الحسين (ع) في أحد منازل الطّريق الّتي نزل بها الإمام (ع) عندما حضرت صلاة الظهر: “فقال الحسين (ع) للحرّ: أتريد أن تصليَ بأصحابك؟ قال: لا، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين (ع) “. إنَّ كون الحرّ قائداً لجيش مكوَّن من ألف فارس من شأنه أن يجعله متكبِّراً مريداً للتّقدّم والزّعامة حتّى في مثل صلاة الجماعة، ولكنّه قدَّم الإمام الحسينَ (ع) لإمامة الصّلاة، احتراماً ومعرفةً منه بمكانته، وهو بذاك الموقع الشّامخ في نفوس المسلمين -وإن لم يعتقد كثير منهم بإمامته-. الموقف الثّاني: احترامه السّيّدة الزّهراء أُمَّ الإمام الحسين (ع) : تقول الرّواية في نقل الحوار الّذي دار بين الإمام الحسين (ع) وبين الحرِّ الرّياحي ّفي أحد منازل الطّريق: “فقال الحسين (ع) للحرّ: ثكلتْك أُمّك ما تريد؟!فقال: أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل هذا الحال الّتي أنت عليها ما تركت ذكر اُمّه بالثّكل أن أقوله كائناً من كان، ولكن -والله- ما لي إلى ذكر أُمّك من سبيل إلّا بأحسن ما نقدر عليه!”. وهذا التّعبيرُ منه بحقّ السّيّدة الزّهراء، يبيّن معرفته بمقامها، ولا يستبعد أن يكون هذا الودّ الّذي يحمله في قلبه للسّيّدة الزّهراء من أسرار توفيقه للتّوبة النّصوح. الصّفة الرّابعة: معرفة الحقّ رُوي أنَّ الحرَّ قال للإمام الحسين (ع) :”لَمَّا وَجَّهَنِي عُبَيْدُ اللهِ إِلَيْكَ خَرَجْتُ مِنَ الْقَصْرِ فَنُودِيتُ مِنْ خَلْفِي أَبْشِرْ يَا حُرُّ بِخَيْرٍ، فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ أَحَداً، فَقُلْتُ: وَاللهِ مَا هَذِهِ بِشَارَةٌ وَأَنَا أَسِيرُ إِلَى الْحُسَيْنِ (ع) ومَا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِاتِّبَاعِك”. قول الحرّ: “وَاللهِ مَا هَذِهِ بِشَارَةٌ وَأَنَا أَسِيرُ إِلَى الْحُسَيْن (ع) ” يشير إلى أنَّه يعلم أنَّه لا خير في قتال الإمام الحسين (ع) ، وأنَّ الحقّ مع الإمام (ع) . معرفة الحقّ في نفسها أمر مطلوب ومحبوب وإن تقاعس الإنسان عن اتّباعه؛ فيرجى في العارف للحقّ أن يتّبعه في يوم من الأيّام، أمّا من جهل وفقد مثل هذه البصيرة فلا يرجى له الاتّباع يوما ما؛ إذ إنَّ المطلوب من الإنسان أمران: معرفة الحقّ واتّباعه، فنفس معرفة الحقّ والطّريق الصّحيح -ولو كانت خالية من العمل- جزء من المطلوب، فلو كانت هناك معرفة بالحقّ ولم يكن هناك اتّباع فإنَّ جزءاً من المطلوب قد تحقّق، وقد بقي الجزء الآخر وهو اتّباع الحقّ. الصّفة الخامسة: فداؤه الإمام الحسين (ع) بولده تقول الرّواية كما في ينابيع المودّة: “.. فجعل الحسين ينظر يمينا وشمالا فلم ير أحدا يبارز أعداءه، فبكى بكاء شديدا وهو ينادي:وا محمداه وا علياه وا حمزتاه وا جعفراه وا عباساه، يا قوم أما من معين يعيننا، أما من خائف من عذاب الله فيذبّ عنّا” ثم جعل يقول: أنا ابن علي الطهر من آل هاشم كــفاني بهذا مفخر حين أفخر وفاطـــم أمّي ثم جدّي محمد وعمّي هو الطيار في الخلد جعفر بنا بيّن الله الهدى عن ضلاله وفينا الــــولاء للعوالم مفخـر وشيعتنا في الناس أكرم شيعة وبــاغضنا يـوم القيامة يخسر فطوبى لعبد زارنا بعد موتنا بجنّة عــدن صفوها لا يكدر إذا ما أتى يوم القيامة ظاميا الى الحوض يسقيه بكفيه حيدر فسمعه الحرّ بن يزيد الرياحي فقال لولده: “إنّ الحسين يستغيث فلا يغيثه أحد، فهل لك نقاتل بين يديه ونفديه بأرواحنا، ولا صبر لنا على النار ولا على غضب الجبار، ولا يكون خصمنا محمد المختار؟” قال ولده: “والله أنا مطيعك”. ثم حملا كأنّهما يقاتلان حتى جاءا بين يدي الإمام، وقبّلا الأرض، وقال الحر: “يا مولاي أنا الذي منعتك من الرجوع، واللّه ما علمت أنّ القوم الملاعين يفعلون بك ما فعلوا، وقد جئناك تائبين” فحمل ولده على القوم، ولم يزل يقاتل حتى قتل منهم أربعة وعشرين رجلا، ثم قتل، فاستبشر أبوه فرحا وقال: “الحمد للّه الذي استشهد ولدي بين يدي ابن رسول اللّه|”. إنَّ الحر الرياحي -كما في هذا النقل- قدّم ولده فداء للإمام الحسين (ع) ، بل واستبشر فرحاً عندما استشهد. إنَّ هذه الصّفة ممّا يندر وجودها؛ فإنَّ عاطفة الأب وحبَّه لولده قد تغلبه حتّى على حساب طريق الحقّ. إنَّ هذه الصّفة تكشف عن قلب لم تكبّله الأهواء والدّنيا مع كونه حديث العهد بطريق الحقّ. الصّفة السّادسة: كرمه وسخاؤه كان من رجزه عندما خرج للقتال: “إنّي أنا الحرّ ومأوى الضّيف”. قال الشّيخ القرشي: “لقد دلّل بهذا الرّجز على كرمه وسخائه وأن بيته كان مأوى للضّيوف وموطنا للقاصدين..”. وشخصيّة بهذا المعدن السّخي لا يُمكن أن يقيَّدها نوع من العطاء ولذا أعطت النّفس فداء، فكانت نفسه كريمةً كلَّ الكرم بحقّ كما عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أنّه قال: “الكَرِيمُ مَنْ أَكْرَمَ عَنْ ذُلِّ النَّارِ وَجْهَهُ”. الأمر الثّاني: دروس التّوبة النّصوح من موقف الحرّ الرّياحيّ إنَّ موقف الحرّ الرّياحيّ في يوم عاشوراء مليء بالدّروس العمليّة في التّوبة النّصوح، نذكر منها ما يلي: الدّرس الأوّل: اليقظة الخطوة الأولى المهمّة للوصول إلى مرتبة التّوبة النّصوح هي اليقظة والالتفات إلى عظم ما اقترفه الإنسان من الذّنب، وهكذا كان الحرُّ حيث تقول الرّواية: “فَإِذَا الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ قَدْ أَقْبَلَ إِلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ: أَمُقَاتِلٌ أَنْتَ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالَ: إِي وَاللهِ قِتَالًا أَيْسَرُهُ أَنْ تَطِيرَ الرؤوس، وَتَطِيحَ الْأَيْدِي. قَالَ: فَمَضَى الْحُرُّ وَوَقَفَ مَوْقِفاً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَخَذَهُ مِثْلُ الْأَفْكَلِ، فَقَالَ لَهُ الْمُهَاجِرُ بْنُ أَوْسٍ: وَاللهِ إِنَّ أَمْرَكَ لَمُرِيبٌ، وَلَوْ قِيلَ لِي مَنْ أَشْجَعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَمَا عَدَوْتُكَ فَمَا هَذَا الَّذِي أَرَى مِنْكَ؟ فَقَالَ: واللهِ إِنِّي أُخَيِّرُ نَفْسِي بَيْنَ الْجَنَّةِ والنَّارِ، فَوَ اللهِ لَا أَخْتَارُ عَلَى الْجَنَّةِ شَيْئاً ولَوْ قُطِّعْتُ وأُحْرِقْت”. وقد قال الحر للإمام الحسين (ع) : جُعِلْتُ فِدَاكَ أَنَا صَاحِبُكَ الَّذِي حَبَسَكَ عَنِ الرُّجُوعِ وجَعْجَعَ بِكَ ومَا ظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ يَبْلُغُونَ مِنْكَ مَا أَرَى وأَنَا تَائِبٌ إِلَى الله تَعَالَى. من الواضح في موقف الحرِّ أنَّه تيقّظ والتفت إلى ما فعله فكانت تلك هي الخطوة الأولى نحو التّوبة الصّادقة. واليقظة هي التّفكّر في تعبير السّيّد الإمام الخميني في كتابه (الأربعون حديثاً) حيث قال: “اعلم أن أول شرط مجاهدة النفس والسير باتجاه الحق تعالى هو التفكر”. وإن كان في مقام بيان مقامات جهاد النّفس لا في خصوص موضوع التّوبة، ولكن يمكن الاستفادة مما ذكره في التّوبة. وقد وردت الإشارة إلى اليقظة الّتي هي الخطوة الأولى في طريق التّوبة في دعاء التّوبة الوارد عن الإمام السّجّاد (ع) في الصّحيفة السّجّادية: هَذَا مَقَامُ مَنْ تَدَاوَلَتْهُ أَيْدِي الذُّنُوبِ، وقَادَتْهُ أَزِمَّةُ الْخَطَايَا، واسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، فَقَصَّرَ عَمَّا أَمَرْتَ بِهِ تَفْرِيطاً، وتَعَاطَى مَا نَهَيْتَ عَنْهُ تَغْرِيراً. كَالجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ، أَوْ كَالمنكِرِ فَضْلَ إِحْسَانِكَ إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا انْفَتَحَ لَهُ بَصَرُ الهدَى، وتَقَشَّعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الْعَمَى، أَحْصَى مَا ظَلَمَ بِهِ نَفْسَهُ، وفَكَّرَ فِيمَا خَالَفَ بِهِ رَبَّهُ، فَرَأَى كَبِيرَ عِصْيَانِهِ كَبِيراً وجَلِيلَ مُخَالَفَتِهِ جَلِيلًا. إنَّ النّدم على ارتكاب الذنب طريقٌ إلى الامتناع عن معاودته، كما ورد: “النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ يَمْنَعُ مِنْ مُعَاوَدَتِهِ”. وواضح من موقف الحر عليه تجسّد النّدم فيه، حيث أخذه مثل الأفكل، أي: أخذته الرّعدة، وهذا يعبّر عن عمق النّدم الذي كان يعيشه، تقول الرّواية: “ثُمَّ ضَرَبَ فَرَسَهُ قَاصِداً إِلَى الْحُسَيْنِ (ع) وَيَدُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ إِلَيْكَ أَنَبْتُ فَتُبْ عَلَيَّ، فَقَدْ أَرْعَبْتُ قُلُوبَ أَوْلِيَائِكَ وَأَوْلَادِ بِنْتِ نَبِيِّك”. إنَّ القلق والوجل والاضطراب علامة على النّدم وعلامة من علامات التّوبة الصّادقة، فبعد أن يصدر الذنب من العبد ذي الرّوح السّليمة فإنَّه يشعر بالضّيق والحزن، وإنَّ نفس هذا القلق والوجل علامة على سلامة الرّوح وعلامة على الإيمان، وقد ورد عن أبي عبدالله (ع) أنَّه قال: “مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ”. وذلك مثل بدن الإنسان الذي يتحسّس من دخول بعض الكائنات الحيّة الضّارة فيُبدي ردّة فعل تجاهها، أمّا بدن المريض الذي فقد المناعة ضدّ هذه الكائنات الضّارّة وكذلك بدن الميّت فإنَّهما لا يبديان أيَّ ردة فعل وحساسية لأيِّ ضرر يصيبهما. إنَّ مثل ردّة الفعل هذه تقود الإنسان إلى التّوبة النّصوح بشرط أن يستغلَّها ويثبت عليها ويحقِّق بقية شرائط التّوبة، أمّا لو لم يتفاعل إيجابياً مع ردّة الفعل هذه وأهملها ولم يتب توبة صادقة نصوحاً، فإنَّ مثل هذه الحساسيّة وردّة الفعل قد تقل شيئاً فشئياً بعد كلِّ مرة يعاود فيها الذنب إلى أن تختفي، وذلك بعد انغماسه في ارتكاب الذّنب ليصير ارتكاب الذّنب أمراً عاديّاً، ولا يرى المذنب نفسه حينها قد فعل أمراً قبيحاً. الدّرس الثّالث: العزم واتّخاذ قرار التّوبة بعد معرفة طريق التّوبة لا بدّ من العزيمة القويّة لسلوكه، فكثيرون يعرفون أنَّ طريق التّوبة هو الطّريق الذي لا بدّ من سلوكه ولكنَّهم في مقام العمل يتردّدون خوفاً على بعض المصالح، بينما الحرُّ قال: “وَاللهِ إِنِّي أُخَيِّرُ نَفْسِي بَيْنَ الْجَنَّةِ والنَّارِ فَوَ اللهِ لَا أَخْتَارُ عَلَى الْجَنَّةِ شَيْئاً ولَوْ قُطِّعْتُ وأُحْرِقْت”. ثم اتّخذ القرار المصيريّ وأقبل نحو الإمام الحسين (ع) معلناً توبته بلا تردّد، تاركاً الدّنيا وما فيها، مع علمه بأنَّ مصير هذه التّوبة هي القتل والشّهادة. فالتّائب الحقيقيّ هو الذي يتّخذ العزم على سلوك طريق التّوبة والالتزام بكلّ تبعاتها، فيعزم على ألّا يعود إلى الذّنب أبداً وهذه هي التّوبة النّصوح، وقد ورد في الرّواية: عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: “قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً}. قَالَ: هُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يَعُودُ فِيهِ أَبَداً. قُلْتُ: وَأَيُّنَا لَمْ يَعُدْ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْمُفَتَّنَ التَّوَّاب”. أمّا من يريد أن يتوب إلى الله تعالى وتحدِّثه نفسه بالعودة إلى الذّنب ولو لمرّة واحدة فهذه ليست توبة حقيقة نصوحاً. قد يقول قائل: كلَّما تبتُ رجعتُ إلى الذّنب، إلى متى أظلّ أتوب ثمّ أرجع؟! والجواب نجده في هذه الرّواية: “قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَذْنَبْتُ. فَقَالَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ. فَقَالَ: إِنِّي أَتُوبُ ثُمَّ أَعُودُ. فَقَالَ: كُلَّمَا أَذْنَبْتَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ. فَقَالَ: إِذَنْ تَكْثُرُ ذُنُوبِي. فَقَالَ: عَفْوُ اللهِ أَكْثَرُ، فَلَا تَزَالُ تَتُوبُ حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَدْحُور”. هذه الرّواية بشارة لكلِّ من أراد التّوبة الصّادقة إرادة حقيقيّة، فهي تشير إلى أنَّ عاقبة مثل هذه التّوبات المتكرِّرة -بعد كلّ مرّة يرتكب فيها الذّنب- هي الانتصار على الشّيطان، بشرط أن تكون التّوبات في كلّ مرّة صادقة، وفي كلِّ مرّة يكون عزمه على عدم العود للذّنب صادقاً. إنَّ العزم على ترك الذّنوب هو طريق السّلوك إلى الله تعالى وطريق تحصيل قربه، وقد سئل العارف الشّيخ محمد تقي بهجت هذا السّؤال: “إنّي عازم على تحصيل القرب من الله وعلى أن يكون لي سلوك إليه، فما السّبيل لذلك؟”. فكان الجواب: “بسمه تعالى: إذا كان الطّالب صادقاً، فترك المعصية كافٍ ووافٍ للعمر كلّه، حتّى لو كان ألف سنة”. الدّرس الرّابع: الرّجاء بالله تعالى واضح من موقف الحرِّ الرّياحيّ أنَّه كان يملك رجاءً بالله تعالى، فلم يصبه اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى رغم ما فعله، بل عزم على التّوبة وأقبل نحو الإمام الحسين (ع) معلناً توبته طالباً لها. إنَّ باب التّوبة مفتوح إلى آخر لحظات عمر الإنسان فلا ينبغي اليأس أبداً، وقد جاء في الرّواية: عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَوْ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: إِنَّ آدَمَ (ع) قَالَ يَا رَبِّ سَلَّطْتَ عَلَيَّ الشَّيْطَانَ وأَجْرَيْتَهُ مِنِّي مَجْرَى الدَّمِ فَاجْعَلْ لِي شَيْئاً، فَقَالَ: يَا آدَمُ جَعَلْتُ لَكَ أَنَّ مَنْ هَمَّ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ، ومَنْ هَمَّ مِنْهُمْ بِحَسَنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ هُوَ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْراً، قَالَ: يَا رَبِّ زِدْنِي، قَالَ: جَعَلْتُ لَكَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ سَيِّئَةً ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَهُ غَفَرْتُ لَهُ، قَالَ: يَا رَبِّ زِدْنِي، قَالَ: جَعَلْتُ لَهُمُ التَّوْبَةَ -أَوْ قَالَ- بَسَطْتُ لَهُمُ التَّوْبَةَ حَتَّى تَبْلُغَ النَّفْسُ هَذِهِ، قَالَ: يَا رَبِّ حَسْبِي. وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) :وَمَنْ أُعْطِيَ التَّوْبَةَ لَمْ يُحْرَمِ الْقَبُول. الدّرس الخامس: التّوبة من باب المعصوم (ع) تفكّر الحرّ في حاله وقرّر أن يتخذ قرار التّوبة وعزم على ذلك، ثم تقول الرّواية: “ثُمَّ ضَرَبَ فَرَسَهُ قَاصِداً إِلَى الْحُسَيْنِ (ع) “. إنَّه باب نجاة الأمّة وسفينة النّجاة ومصباح الهدى (ع) ، وهذا درس آخر يعلّمنا إياه مدرّس التّوبة النّصوح الحرُّ الرّياحيّ، يعلِّمنا بأنَّ الطّريق الواسع إلى التّوبة هو أن تقصد الإمام الحسين (ع) ، فإنَّ كلّ الخير في باب الحسين (ع) ، فكانت توبة الحرِّ الرّياحيّ بدايتها من باب الإمام المعصوم (ع) . جاء في الرّواية: عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) يَقُولُ: >إِنَّ الله تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وزَادَهُ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ فَوَجَدَهَا، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ حِينَ وَجَدَهَا. والإمام الحسين (ع) باب رحمة الله تعالى، فهو كذلك أشدُّ فرحاً بتوبة العبد من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، لذلك بمجرد أن قال الحرُّ: فَهَلْ تَرَى لِي مِنْ تَوْبَةٍ.. قال له الإمام الحسين (ع) : نَعَمْ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْك. وفي أمالي الشّيخ الصّدوق قال الإمام الحسين (ع) للحرّ: نَعَمْ تَابَ اللهُ عَلَيْك. ولعلّ التعبير بالفعل الماضيّ (تاب) الوارد في نقل الشّيخ الصدوق أكثر تأكيداً على قبول توبته، حيث إنَّ هذا التّعبير يدلّ على حصول التّوبة من الله تعالى عليه في الماضي عندما ندم وقرّر التّوبة، أمّا تعبير (يتوب) فهو فعل مضارع يدل على أنَّ التوبة سوف تُقبل منه أو أنَّها الآن للتو قُبلت. إنَّ الاستغفار والتّوبة عن طريق التّوجّه إلى حجّة الله تعالى في الأرض وخليفته أدبٌ ودرسٌ علّمنا إيّاه القرآنُ الكريم، حيث يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً}. الدّرس السّادس: تدارك ما فات الحرُّ الرّياحيّ لم يكتفِ بالتّوبة وطلبها من الإمام (ع) ، بل أراد أن يتدارك ما فاته ويصلح ما مضى، تقول الرّواية: فَقَالَ الْحُسَيْنُ (ع) : نَعَمْ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْكَ فَانْزِلْ. فَقَالَ: أَنَا لَكَ فَارِساً خَيْرٌ مِنِّي لَكَ رَاجِلاً، وَإِلَى النُّزُولِ يَصِيرُ آخِرُ أَمْرِي، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ عَلَيْكَ فَأْذَنْ لِي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ قَتِيلٍ بَيْنَ يَدَيْكَ لَعَلِّي أَكُونُ مِمَّنْ يُصَافِحُ جَدَّكَ مُحَمَّداً| غَداً فِي الْقِيَامَة. وإصلاح ما فات يكون بحسب الذّنب المرتكَب، وهذا ما فعله الحرُّ، فبما أنَّه كان أول من خرج على الإمام (ع) فأراد أن يكون أوّل قتيل بين يديه، وقد بيّن السيد ابن طاووس المراد من كونه أوّل قتيل، حيث قال: “إِنَّمَا أَرَادَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الآنَ لأَنَّ جَمَاعَةً قُتِلُوا قَبْلَهُ كَمَا وَرَدَ”. ويؤكِّد القرآن الكريم على مسألة (الإصلاح) وتدارك ما فات بعد التّوبة، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. فهؤلاء الذين يكتمون الحقّ لا بدّ أن تقترن توبتهم بالإصلاح المتناسب مع الجرم الذي اقترفوه، وذلك من خلال العود إلى نشر الحقائق كما أشار لذلك صاحب تفسير الأمثل في تفسير الآيتين المذكورتين. وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنَّه قال لِقَائِلٍ قَالَ بِحَضْرَتِهِ: “أَسْتَغْفِرُ اللهَ”: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الِاسْتِغْفَارُ؟ الِاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، والثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً، والثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى الله أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، والرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، والْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ ويَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ، والسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ الله. فالتّائب الحقيقيّ لا يكتفي بالنّدم والعزم على ترك العود إلى الذّنب، بل عليه أن يتدارك ذنوبه السّابقة ويُصلح ما فسد منه، فيقضي ما فاته من الصّلاة والصّيام وغيرهما، ويدفع الكفّارات والحقوق الشّرعيّة الّتي في ذمته، ويراجع الحاكم الشّرعيّ (الفقيه) أو وكيله في مسألة الخمس، ويُرجِع الأموال والحقوق لأصحابها، ويسترضي من ظلمه، فقد ورد في الرّواية عن أبي عبدالله (ع) : فَإِنَّ مَنْ كَسَرَ مُؤْمِناً فَعَلَيْهِ جَبْرُهُ. قال المولى صالح المازندراني في شرح هذا الحديث: “قوله: (من كسر مؤمنا فعليه جبره) إن كان كسره بإخراجه عن الدّين فعليه أن يدخله فيه بالإرشاد، وإن كان يكسر قلبه فعليه أن يرضيه”. الدّرس السّابع: الاعتراف بالذّنب بين يديّ الله تعالى تقول الرّواية: “ثُمَّ ضَرَبَ فَرَسَهُ قَاصِداً إِلَى الْحُسَيْنِ (ع) ويَدُهُ عَلَى رَأْسِهِ وهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ إِلَيْكَ أَنَبْتُ فَتُبْ عَلَيَّ فَقَدْ أَرْعَبْتُ قُلُوبَ أَوْلِيَائِكَ وأَوْلَادِ بِنْتِ نَبِيِّكَ، وقَالَ لِلْحُسَيْنِ (ع) : جُعِلْتُ فِدَاكَ أَنَا صَاحِبُكَ الذي حَبَسَكَ عَنِ الرُّجُوعِ وجَعْجَعَ بِكَ ومَا ظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ يَبْلُغُونَ مِنْكَ مَا أَرَى، وأَنَا تَائِبٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَهَلْ تَرَى لِي مِنْ تَوْبَة”. إنَّ الاعتراف بالذّنب بين يديّ الله تعالى أمر مطلوب ومحبوب، وقد ورد عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: واللهِ مَا يَنْجُو مِنَ الذَّنْبِ إِلَّا مَنْ أَقَرَّ بِهِ .وورد في رواية أخرى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: لَا وَاللهِ مَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ إِلَّا خَصْلَتَيْنِ: أَنْ يُقِرُّوا لَهُ بِالنِّعَمِ فَيَزِيدَهُمْ، وَبِالذُّنُوبِ فَيَغْفِرَهَا لَهُم. قال العلّامة محمّد باقر المجلسيّ في شرح هذا الحديث: “والمراد .. بالإقرار بالذّنوب الإقرار بها مجملاً ومفصلاً، وهو ندامة منها، والنّدامة توبة، والتّوبة توجب غفران الذّنوب”. ويُفهم من كلامه أنَّ المطلوب في الإقرار أن يكون تارة بشكل مُجمل بأن يُقِرَّ بأنَّه أذنب وأسرف على نفسه من دون تعداد الذّنوب، وتارة أخرى بشكل مفصَّل بأن يعدّدَ ذنوبه. والحرّ الرّياحيّ أقرَّ بذنوبه بشكل مُجمل في نقلٍ، وبشكل مفصّل في نقلٍ آخر، أمّا كلامه الذي أقرّ فيه مجملًا فهو قوله للإمام الحسين (ع) كما في الأخبار الطّوال:”قد كان مني الّذي كان، وقد أتيتك مواسياً لك بنفسي، أفترى ذلك لي توبة مما كان مني؟”ويظهر الإقرار بشكل مجمل في قوله (قد كان منّي الّذي كان). وأمّا كلامه الّذي أقرّ فيه مفصلًا لذنوبه فهو قوله للإمام الحسين (ع) كما في اللهوف:”قَدْ أَرْعَبْتُ قُلُوبَ أَوْلِيَائِكَ وَأَوْلَادِ بِنْتِ نَبِيِّكَ، وقَالَ لِلْحُسَيْنِ (ع) : جُعِلْتُ فِدَاكَ أَنَا صَاحِبُكَ الَّذِي حَبَسَكَ عَنِ الرُّجُوعِ وجَعْجَعَ بِكَ”. إنَّ الإقرار بالذّنوب طريق إلى الخروج منها، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (ع) يَقُولُ: إِنَّهُ وَاللهِ مَا خَرَجَ عَبْدٌ مِنْ ذَنْبٍ بِإِصْرَارٍ وَمَا خَرَجَ عَبْدٌ مِنْ ذَنْبٍ إِلا بِإِقْرَارٍ. وفي مقابل الإقرار بالذّنب قد يتكابر بعض النّاس من الاعتراف بالذّنب حتّى بينه وبين ربِّه، وبعضهم يُبرِّر ما فعله بمختلف التّبريرات حتّى يُقنِع نفسه أنَّه لم يذنب ولم يفعل سوءاً، أو أنّ ما فعله شيء بسيط، نعم ليس مطلوباً وليس صحيحاً أن يعترف المذنب بذنوبه أمام النّاس، وقد ورد عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: وَالْمُذِيعُ بِالسَّيِّئَةِ مَخْذُولٌ، وَالْمُسْتَتِرُ بِالسَّيِّئَةِ مَغْفُورٌ لَه، ولكنَّه فيما بينه وبين ربِّه العالم بسريرته يحسُن منه الاعتراف والإقرار بالذّنب. الدّرس الثّامن: الحرص على توبة الآخرين وهدايتهم بعد أن تاب الحرُّ الرّياحيّ وانتهى من كلامه مع الإمام الحسين (ع) خطب خطبة في القوم فقال: “يا أهل الكوفة! لأمّكم الهَبلُ والعُبْر، إذ دَعَوْتموه حتّى إذا أتاكم أسلَمْتُموه! وزَعَمْتم أنّكم قاتلوا أنفسِكم دونه، ثم عَدَوْتُم عليه لتقتلوه! أمْسكتم بنفسه وأخذتم بكَظْمه، وأحطتم به من كل جانب، فمنعتموه التوجّه في بلاد الله العريضة حتّى يأمنَ ويأمن أهلُ بيته، وأصبح في أيديكم كالأسير، لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضرّاً، وحلأتموه ونساءَه وصبيتَه وأصحابَه عن ماء الفرات الجاري، الذي يشربه اليهوديّ والمجوسيّ والنصرانيُّ، وتمرَّغ فيه خنازير السواد وكلابه، وها هم أُلاء قد صرعهم العطش، بئسما خَلَفْتم محمّدًا في ذريته! لا سقاكم الله يوم الظّمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه”. وبالفعل كان لكلام الحرِّ الرّياحيّ تأثير في أحد الأشخاص وهو يزيد بن زياد بن المهاصر فهو ممّن اهتدى يوم عاشوراء بخطبة الحرّ الرّياحي. إنَّ التّائب الّذي ذاق حلاوة التّوبة وطمأنينة النّفس وراحتها الّتي عاشها بعد عودته إلى ربِّه الرّحيم تعالى يسعى إلى دعوة الآخرين إلى الرّجوع إلى الله تعالى وإلى سلوك طريق التّوبة، وهذا واضح من خطبة الحرِّ الرّياحيّ السّابقة حيث قال لهم: “..لا سقاكم الله يوم الظّمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه..”.