وعليكم السلام ورحمة الله و بركاته
إنّ علاقة الإنسان بنفسه ونظرته إليها يحددان مسار الإنسان ومصيره، إمّا في جنات ونعيم ورضا الرب الغفار، أو في عذاب وجحيم وغضب الرب الجبار.
فالذي يرضى بالقليل من العمل ويستكثره، ويعجب بنفسه وينقاد لرغباتها ولا يتعاهدها بالإصلاح لا يلبث أن يخسر، وهذا هو حال الغافلين غير المغفول عنهم، وأمّا المتقون فشأنهم الزهد بالكثير وعدم الرضا بالقليل، وهم لأنفسهم متهمون، كما وصفهم أمير المؤمنين وسيد المتقين.
وقوله تعالى: ﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾، (القيامة:آية٢). فالنفس اللوامة هي التي تلوم صاحبها لوماً شديداً على ارتكاب الشرّ أو التقصير في عمل الخير.
إنّ المراد بلوم النفس أن يعتاد الإنسان على ملاحظة نفسه في أقوالها وأعمالها وحركاتها وسكناتها؛ ليتابعها ويراجعها حين تنحرف أو تَهمُّ بشيء من الانحراف؛ ليعيدها إلى الصراط ويلزمها به، وكذلك يراجعها وهي تسعى في مجال الخير؛ ليفجر فيها ينابيع النشاط والقوة والاجتهاد حتى تزداد من الخير وتجتهد في ميدان البرّ، والإنسان بهذه الفضيلة الأخلاقية القرآنية يُقيم من نفسه على نفسه حارساً يقظاً حذراً يمنعها من السوء، ويدفعها إلى الطيّب من العمل والقول والتفكير، وكأنّ هذه المتابعة للنفس هي ما يسميه أهل عصرنا بسلطة الضمير، فحتم على كل ذي حزم آمن بالله واليوم الآخر ألّا يغفل عن محاسبة نفسه.
وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: "ابن آدم إنّك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك، ابن آدم إنّك ميّت، ومبعوث، وموقوف بين يدي الله فأعدَّ جواباً".(المجلسي،بحار الأنوار:ج٦٧،ص٣٨٢).
و استشعار التقصير عامل إيجابي، فقد ورد عن علي (عليه السلام) قوله: "فَهُمْ لأنفسهم مُتَّهِمُونَ".( ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة:ج١٠،ص١٣٣) إنّ من دلائل الإخلاص وعلامات المخلصين اتّهامهم لأنفسهم بالتقصير في حق الله، وعدم القيام بالعبودية لمالك الملك، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾.(المؤمنون:آية٦٠)، فالمتقي يحاول دائماً أن يتهم نفسه؛ ليكتشف العناصر السلبية الخفيّة في داخلها، فغياب الشعور بألم الذنوب الصغيرة - مثلاً - وسيلةً كبرى لاقتراف ذنوب كثيرة، قال الإمام الصادق (عليه السلام): "إياكم ومحقّرات الذنوب فإنّ لها من الله طالباً، وإنّها لتجتمع على المرء حتى تهلكه".(الحر العاملي،وسائل الشيعة:ج١٥،ص٣١٣)، ومهما كانت همّة الإنسان، إلّا أنّه عليه دائماً أن يُشْعِرُ نفسه بأنّه مقصّر، وأنّه مفرِّط، وليس ذلك من أجل اليأس والإحباط، وإنّما من أجل الرُّقي ببناء النفس، وإعطائها الاهتمام الأكبر.
ورد عن الفضل بن يونس عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: "أكثر من أن تقول: اللّهم لا تجعلني من المعارين ولا تخرجني من التقصير. قال: قلت له: أمّا المعارون فقد عرفت إنّ الرّجل يعار الدّين، ثمّ يخرج منه، فما معنى لا تخرجني من التقصير؟
فقال: كلّ عمل تريد به وجه اللّه فكن فيه مقصّراً عند نفسك، فإنّ النّاس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم وبين اللّه مقصّرون إلّا من عصمه اللّه".(الكليني،الكافي:ج٢،ص٥٧٩).
ومن الوسائل العملية التي تساعد الإنسان على الشعور بالتقصير ما يلي:
1- صحبة أصحاب الهمم؛ لأنّ ذلك يُفضي مباشرةً إلى الاقتداء، واكتشاف الضعف الذي لديك، وهذا مؤشر قوي في اكتشاف نفسك من ناحية التقصير .
2- قراءة سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسيرته تعطر الهمم، وتستنفر العزائم، وتنير الدروب، فلو قرأ الإنسان في كل يوم صفحتين من سيرته الخالدة، لكان ذلك أدعى إلى علاج النفس بصورة مباشرة وغير مباشرة، وكذلك سيرة أهل البيت (عليه السلام).
المتقون (لا يرضون من أعمالهم بالقليل)؛ لأنّهم خُلقوا للنضال والعمل،لا للبطالة والكسل، وفي الوقت نفسه لا يغالون في قدراتهم، ولا يخدعون أنفسهم بالغرور والمباهاة، بل يخافون من الخطأ والتقصير فلا يقنعون بالقليل؛ لعلمهم بشرف الغايات المقصودة من العبادات، وعِظم ما يترتّب عليها من الثمرات، وهو العتق من النار والدخول في الجنة والوصول إلى رضوان اللّه الذي هو أعظم اللّذات وأشرف الغايات.
كما أنّهم (لا يستكثرون) من أعمالهم (الكثير) ولا يعجبون بكثرة العمل ولا يعدّونه كثيراً وإن أتعبوا فيه أنفسهم وبلغوا غاية جهدهم؛ لمعرفتهم بأنّ ما أتوا به من العبادات وإن بلغت في كثرتها غاية الغايات، زهيدة قليلة في جنب ما يترتّب عليها من الثّمرات.
ودمتم موفقين