السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
تتناول الآية المباركة وضع المحسنين، وتبدأ بمسألة الإحسان إلى الوالدين وشكر جهودهم وأتعابهم التي بذلوها، والذي يعتبر مقدمة لشكر الله سبحانه، فتقول: ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا .
" الوصية " و " التوصية " بمعنى مطلق الوصية، ولا ينحصر معناها بالوصايا بما بعد الموت، ولذلك فسرها جماعة هنا بأنها الأمر والتشريع.
ثم تطرقت إلى سبب وجوب معرفة حق الأم، فقالت: حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا تضحي خلالها الأم أعظم التضحيات، وتؤثر ولدها على نفسها أيما إيثار.
ثم تضيف الآية: إن حياة هذا الإنسان تستمر حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة.
يعتقد بعض المفسرين أن بلوغ الأشد منسجم مع بلوغ الأربعين سنة، وهو للتأكيد، إلا أن ظاهر الآية هو أن بلوغ الأشد إشارة إلى البلوغ الجسمي، وبلوغ الأربعين سنة إشارة إلى البلوغ الفكري والعقلي، لأن من المعروف أن الإنسان يصل إلى مرحلة الكمال العقلي في سن الأربعين غالبا، وقالوا: إن أغلب الأنبياء قد بعثوا في سن الأربعين.
ثم إن هناك بحثا في أن بلوغ القدرة الجسمية في أي سن يتم؟ فالبعض يعتبره سن البلوغ المعروف، والذي أشير إليه في الآية (34) من سورة الإسراء في شأن اليتامى، في حين صرحت بعض الروايات بأنه سن الثامنة عشرة عاما.
طبعا، لا مانع من أن يعطي هذا التعبير معاني مختلفة في موارد مختلفة تتضح من خلال القرائن.
وقد ورد في حديث: " إن الشيطان يمر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب، ويقول: بأبي وجه لا يفلح " .
ونقل عن ابن عباس: من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شره، فليتجهز إلى النار.
وعلى أي حال، فإن القرآن الكريم يضيف في متابعة هذا الحديث: إن الإنسان العاقل المؤمن إذا بلغ سن الأربعين، يطلب من ربه ثلاث طلبات، فيقول أولا:
قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي .
إن هذا التعبير يوحي بأن الإنسان يدرك في هذه السن عمق نعم الله سبحانه وسعتها، وكذلك يدرك ما تحمله أبواه من الجهود المضنية حتى بلغ هذا المقدار من العمر، وذلك لأنه غالبا ما يصبح في هذا العمر أبا إن كان ذكرا، وأما إن كانت أنثى، ويرى بأم عينه كل تلك الجهود التي بذلت من أجله، ومدى الإيثار الذي آثره أبواه في سبيله، وشكرا لسعيهما يتوجه لا إراديا لشكر الله سبحانه.
أما طلبه الثاني فهو: وأن أعمل صالحا ترضاه.
وأخيرا يقدم طلبه الأخير فيقول: وأصلح لي في ذريتي.
إن التعبير ب (لي) يشير ضمنية إشارة إلى أنه يرجو أن يكون أولاده في وضع من الصلاح والخير بحيث تعود نتائجه وحسناته عليه.
والتعبير ب (في ذريتي) بصورة مطلقة، يشير إلى استمرار الخير والصلاح في كل نسله وذريته.
والطريف أنه يشرك أبويه في دعائه الأول، وأولاده في الدعاء الثالث، أما الدعاء الثاني فيخص نفسه به، وهكذا يكون الإنسان الصالح، فإنه إذا نظر إلى نفسه بعين، ينظر بالأخرى إلى الآخرين الذين تفضلوا عليه ولهم حق في رقبته.
وتبين الآية في نهايتها مطلبين، كل منهما تبيان لبرنامج عملي مؤثر، فتقول:
إني تبت إليك فقد بلغت مرحلة يجب أن أعين فيها مسير حياتي، وأسير في ذلك الخط ما حييت.
نعم، لقد بلغت الأربعين، ويقبح بعبد مثلي أن يأتيك ولم يغسل نفسه بماء التوبة، ولم يطهرها بالعودة إلى طريق ربه ويقرع باب رحمته.
والآخر: وإني من المسلمين. إن هاتين الجملتين تأكيد لتلك الأدعية الثلاثة ومترتبة عليها، ومعناهما: بما إني تبت إليك، وأسلمت لأوامرك، فأنت أيضا من علي برحمتك، واشملني بنعمك وفضلك.
والآية التالية بيان بليغ لأجر هؤلاء المؤمنين الشاكرين وثوابهم، وقد أشارت إلى مكافآت مهمة ثلاث، فقالت أولا: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا.
أي بشارة أعظم من أن يتقبل الله القادر المنان عمل عبد ضعيف لا قدر له، وهذا القبول بحد ذاته، وبغض النظر عن آثاره الأخرى، فخر عظيم، وموهبة معنوية عالية.
إن الله سبحانه يتقبل كل الأعمال الصالحة، فلماذا يقول هنا: نتقبل عنهم أحسن ما عملوا؟
وفي معرض الإجابة على هذا السؤال، قال جمع من المفسرين: إن المراد من أحسن الأعمال: الواجبات والمستحبات التي تكون في مقابل المباحات التي هي أعمال حسنة لكنها لا تقع موقع القبول، ولا يتعلق بها أجر وثواب .
والجواب الآخر: إن الله سبحانه يجعل أحسن أعمال هؤلاء معيارا للقبول، وحتى أعمالهم التي تأتي في مرتبة أدنى من الأهمية، فإنه يجعلها كأحسن الأعمال بفضله ورحمته. إن هذا يشبه تماما أن يعرض بائع أجناسا مختلفة بأسعار متفاوتة، إلا أن المشتري يشتريها جميعا بثمن أعلاها وأفضلها تكرما منه وفضلا، ومهما قيل في لطف الله وفضله فليس عجبا.
والهبة الثانية هي تطهيرهم، فتقول: ونتجاوز عن سيئاتهم.
والموهبة الثالثة هي أنهم في أصحاب الجنة ، فيطهرون من الهفوات التي كانت منهم، ويكونون في جوار الصالحين المطهرين المقربين عند الله سبحانه.
ويستفاد بصورة ضمنية من هذا التعبير أن المراد من أصحاب الجنة هنا العباد المقربون الذين لم يصبهم غبار المعاصي، وهؤلاء المؤمنون التائبون يكونون في مصافهم بعد أن ينالوا غفران الله ورضاه.
وتضيف الآية في نهايتها - كتأكيد على هذه النعم التي مر ذكرها - وعد الصدق الذي كانوا يوعدون وكيف لا يكون وعد صدق في حين أن خلف الوعد أما أن يكون عن ندم أو جهل، أم عن ضعف وعجز، والله سبحانه منزه عن هذه الأمور جميعا.