313 ( 20 سنة ) - العراق
منذ سنتين

معرفة الدين

السلام عليكم الأمام علي عليه السلام يقول ( أول الدين معرفته ) ماهو المراد منها .


عليكم السلام ورحمة الله وبركاته يتعرَّض أمير المؤمنين(عليه السلام ) في المقطع المذكور بالسؤال إلى موضوع الذّات الإلهيَّة، ونفي الصّفات المحدودة عنها، حيث إنّه سبحانه وصفَ ذاته في كتابه العزيز. والأفهام البشريّة لا يمكن أن تبلغ دقّة هذه الصّفات، وأن تحوي مكنوناتها، والحديث هنا عن صفات الله وحقيقتها. "أوَّل الدّين معرفته"، فمنتهى طاعة الله تعالى والانقياد له، هو في معرفته والعلم بقدرته وعظمته، ومن هنا، يعلم الإنسان ما عليه من مسؤوليَّات تجاه نفسه وربه، فعندما يعرف الله، يعرف ما عليه من واجبات تجاهه، فيصلح نفسه، ويعدُّ العدَّة لليوم الآخر، ويتزوّد بالتّقوى، ويتدرّج بالمعرفة النافعة. "وكمال معرفته التّصديق به"، إنَّ معرفة الباري تستوجب أن نؤمن به عن قناعة تامّة واختيار وإرادة وحريّة ويقينٍ لا تشوبه شائبة، فالتّصديق هو الإقرار الحرّ بربوبيّة الله تعالى. "وكمال التّصديق به توحيده"، إذ لا بدَّ للإنسان المؤمن كي يستوي إيمانه ويصحّ، أن ينزِّه الخالق وينفي الشّريك عنه، فالتّصديق الحرّ لا يمكن أن يجتمع معه الشّرك، مهما كان نوعه، خفيّاً أو ظاهراً. "وكمال توحيده الإخلاص له"، وهو الإقرار بأنَّ الله تعالى غنيّ عن كلِّ شيء، وإليه يفتقر كلّ شيء، وليس كمثله شيء، وفي ذلك مدعاة للإنسان كي يتوجَّه بقلبٍ مخلص إلى الربِّ الحقيقيّ في كلِّ صغيرة وكبيرة، وأن يكون توجّهه صادقاً خالياً من الشكّ والريبة. توضيح ما تقدم : لو شبّهنا الدين ببناء يتألّف من جدران وباب، وسقف، ونوافذ، وقواعد ينهض عليها البناء فإنّ قواعد جميع الأفكار والعقائد والأخلاق الدينية هي معرفة الله. ولو شبّهنا الدين بكتاب علمي يضم أبواباً وفصولاً وقضايا متنوعة وأفكاراً يقوم عليها أصل الكتاب فإن معرفة الله سبحانه هي الأساس الأول في ذلك. فان التوحيد أساس التديّن الذي اشار اليه في الخطبة: إذا أردنا مثلاً أن نخزن مقداراً من مواد البناء فليس مهمّاً كيفيّة ترتيبها، وإذا أردنا أن نؤلّف كتاباً متنوعاً يضم مقالات مختلفة فليس مهمّاً ترتيب مقالاته أو تسلسلها، ذلك أنه كتاب متنوع في مواضيعه. وحتى مطالعة مثل هكذا كتاب لا تلزمنا بأن نبدأ بالموضوع الأول أو بالصفحة الأولى، إذ يمكننا أن نبدأ من منتصف الكتاب أو من آخره. أمّا إذا أردنا أن نقيم بناءً معيّناً فإن الأمر يختلف تماماً، فالتسلسل والدقَّة والحساب أمور مطلوبة. وكذلك لو أردنا أن نؤلّف كتاباً علمياً أو أردنا مطالعته فإن أول شيء نفعله هو مواكبة الكتاب من بدايته وحسب ترتيب مواضيعه. فالتدين المنطقي والسليم يُلزم المرء بأن يشرع من البداية، من الأسس، وهي: التوحيد ومعرفة الله. وإذا لم يثبت هذان الأصلان في أعماق الروح وطيّات القلب فإنّ سائر الأجزاء ستبقى دونما أساس متين. وقد ورد : قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا بيانه: هل قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله : صلّوا أو صوموا عندما صدع بدعوته وبشّر برسالته؟ وهل قال: صِلوا أرحامكم ولا يظلم بعضكم بعضاً؟ وهل دعا إلى الالتزام بالآداب المستحبّة في المشي أو الجلوس أو تناول الطعام؟ إنّه لم يقل أو يذكر من ذلك شيئاً، بل هتف صلى الله عليه وآله : قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا. لقد بدأ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم دعوته إلى الدين الحنيف بهذه العبارة فاحتلّ بها قلوب العالمين، ومن ثم بنى أمّته العظيمة انطلاقاً من ذلك الأساس المتين. فان معرفة الله جوهر الوجود الإنساني بعبارة آخرى انّ معرفة الله لا تقتصر على الدين فحسب، بل إنها جوهر الوجود الإنساني، ذلك أنّ بناء الإنسان لا يتمّ إلّا على أسس التوحيد. إننا نطلق على كثير من الأمور والشؤون وننعتها بالإنسانية، فنقول: إنّ الإنسانية تقتضي الرحمة والمروءة والإحسان، وإنّ الإنسانية تنشد السلام وتنفر من الحرب وتجعلنا متعاطفين مع المرضى والجرحى والمنكوبين، وتدفعنا إلى مساعدة المحتاجين وتطلب منّا التضحية بالنفس واحترام حقوق الآخرين، وإلى غير ذلك من المواقف والسلوك. وكل ذلك صحيح لا يعترض عليه أحد، بل إنّ على كل إنسان أنْ يحقّق إنسانيته من خلال ذلك. ولكنّا لو تساءلنا عن الأسس المنطقية التي تستند إليها تلك الوصايا والأخلاق التي تدفعنا إلى التضحية بمصالحنا من أجلها فإننا سنكون حينها عاجزين عن إقناع أنفسنا والآخرين بالفلسفة الكامنة وراء تلك الأخلاق والمواقف إذا لم نأخذ بنظر الاعتبار معرفة الله. لا يمكننا أبداً اكتساب القيم الأخلاقية الرفيعة أو الانتهال من الفيض الروحي بعيداً عن نبعه الإلهي، فحتى أكثر المؤسسات مادّيةً في العالم تجد نفسها مضطرة إلى أن تبني نظمها الاجتماعية على أسس أخلاقية. من خلالها تقدم : طريقان لا ثالث لهما لا يمكن إقصاء الإنسانية بعيداً عن معرفة الله؛ فإمّا الإيمان أو السقوط في حضيض الحيوانية حيث عبادة الذات، والمصلحة الشخصية وما تضجّ به من انقياد إلى الشهوة والوقوع في أسرها؛ فإمّا عبادة الله أو عبادة البطن، والجاه، والمناصب والمال. وليس هناك من طريق ثالث. ومن يدّعِ الشرف والخُلُق والتقوى والعفّة وهو بعيد عن الله الذي هو نبع كل تلك الصفات فإن ذلك مجرّد أوهام لا غير. ويعبّر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ (إبراهيم: 24 - 25). فالإيمان شجرة تمدّ جذورها في أعماق الروح فتتفرع منها أغصان الاعتقاد بالنبوّة والولاية والأديان، وكذلك الاعتقاد بأنّ هذا العالم قائم على العدالة والحق وأنّ الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين وسيلقى المسيئون جزاء أعمالهم. أما ثمار هذه الشجرة الطيبة فهي الشرف والكرامة والعفّة والتقوى والإحسان والتسامح والفداء والقناعة والطمأنينة والسلام. وفي مقابل ذلك يضرب القرآن مثلاً آخر، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾ (إبراهيم: 26)؛ وهذه حقيقة تتجلى أحياناً في أفراد نراهم يتحمّسون دفاعاً عن عرقٍ أو قوميةٍ أو يقعون تحت تأثير بعض العقائد فتشتعل في نفوسهم المشاعر الكاذبة التي قد تدفعهم إلى التضحية بأرواحهم من أجلها، ولو سنحت الفرصة لأحدهم أو راجع نفسه قليلاً لعجز عن إيجاد أساس منطقي لموقفه وسلوكه، فقليل من التأمّل والإرشاد سوف يقشع تلك السحب عن سماء روحه.… اي أساس إنساني متين فإن الإيمان هو وحده الذي يمتلك الأساس الإنساني المتين وإن قواعد البناء الإنساني إنما تنهض على التقوى والاستقامة والطهر وعلى الشجاعة والشهامة والفداء، وهي الخصال التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان. الإيمان بالله وحده البديل لعبادة الذات والمصلحة الشخصية، وهو ما يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾(البقرة: 257).…