السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . .
نرجو من سماحتكم أن تتفضلوا بكتابة مقال حول يوم الغدير ليصار إلى نشره في مجلة « رسالة النجف » ، ولكم جزيل الشكر .
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد . .
بيان أمر الإمامة :
إن بيانات النبي « صلى الله عليه وآله » لإمامة علي « عليه السلام » , قد كثرت وتنوعت , فقد نص « صلى الله عليه وآله » عليه وأشار إليه قولاً وفعلاً , وتصريحاً وتلويحاً , وترغيباً وترهيباً وما إلى ذلك .
ولكن كانت هناك فئات من الناس تسعى دون كلل أو ملل لتضييع جهوده « صلى الله عليه وآله » في هذا السبيل عن طريق إثارة الشبهات والشكوك وحياكة المؤامرات وإطلاق الشائعات , وبغير ذلك من أساليب صرحت النصوص : بأن قريشاً كانت هي رائدة هذا الاتجاه وهي التي كانت تتصدى وتتحدى كما أوضحنا في كتابنا : « الغدير والمعارضون » .
وأعلنت صراحة عن رفضها لهذا الأمر في حجة الوداع قبل يوم الغدير بأقل من عشرة أيام . .
فقد ذكر المؤرخون : أنه « صلى الله عليه وآله » خطب الناس بعرفات أو بمنى , أو في المسجد أو تكرر منه « صلى الله عليه وآله » ذلك في جميع هذه المواضع . . حيث ذكروا : أنه « صلى الله عليه وآله » قد خطب في الناس في تلك الحجة خمس مرات .
نعود فنقول : لقد روى إنه « صلى الله عليه وآله » خطب الناس في تلك الحجة , فلما قال : لا يزال هذا الدين عزيزاً ظاهراً , حتى يملكه اثنا عشر كلهم . . لغط القوم وتكلموا , فلم أفهم قوله بعد « كلهم » , فقلت لأبي : ماذا قال ؟
قال : كلهم من قريش . .
وفي بعض الروايات : كلهم من بني هاشم .
وقد روي هذا الحديث - أعني حديث الاثني عشر أميراً أو خليفة ، أو نحو ذلك - : في كتب الشيعة والسنة , مثل البخاري , ومسلم , وأبي داود , وغير ذلك [1] .
وألفاظ هذا الحديث في تلك المصادر متقاربة من حيث المعنى , واختلاف بعض ألفاظها لا يضر في أصل المعنى , بل هو يفيد - لو ضممنا بعضه إلى بعض - في استكمال ملامح الصورة , فلاحظ العبارات التالية :
1 - حتى يملك اثنا عشر . .
إلى اثني عشر خليفة .
2 - كلهم تجتمع عليه الأمة .
كلهم يعمل بالهدى ودين الحق .
كلهم لا يرى مثله .
كلهم من قريش .
كلهم من بني هاشم .
3 - فقال كلمة أصمَّنيها الناس .
وضج الناس .
ثم لغط القوم وتكلموا , فلم أفهم قوله الخ . .
فصرخ الناس فلم أسمع ما قال .
فتكلم الناس فلم أفهم .
فكبر الناس , فضجوا .
فجعل الناس يقومون ويقعدون .
4 - وتكلم بكلمة لم أفهمها .
أخفى صوته .
خفي علي قول رسول الله .
وقد وردت هذه التعابير فيما روي عن :
1 - أنس .
2 - عبد الملك بن عمير .
3 - عمر بن الخطاب .
4 - أبو حذيفة .
5 - جابر بن سمرة .
ويبدو أنه « صلى الله عليه وآله » قد مهد لهذا الأمر ببيانات شديدة الصراحة والدلالة على ما يرمي إليه , ومنها حديث الثقلين . . حسبما صرحت به بعض الروايات أيضاً [1] .
سبب جرأتهم :
وربما كان السبب في هذه الجرأة الظاهرة , والوقاحة السافرة التي تجلت في حجة الوداع ؛ هو شعور هذا الفريق من مهاجري قريش بالقوة وهم في بلدهم , وبين أنصارهم ومحبيهم - أي محيط مكة وما والاها - وقد بقيت قلوبهم معهم حتى حين كانوا يحاربون الإسلام
وأهله رغم هذه الحروب ، التي لم تخب نارها إلا في فتح مكة قبل مدة يسيرة , حيث اضطرت قريش إلى الانكفاء عن الصراع السافر إلى التدبير التآمري الماكر .
لقد أدركت قريش : أن النبي « صلى الله عليه وآله » بصدد الإعداد لأمر عظيم , لا يمكنها القبول به . ألا وهو إبلاغ الأمة بأسرها بإمامة علي « عليه السلام » وخلافته له من بعدها . .
وأن هذا الإبلاغ يتم بصورة لا تترك لها أية فرصة للتخلص والتملص ، والمناورة , وتصبح مقهورة على تجرع الغصة . . فلقد أعلن النبي « صلى الله عليه وآله » في سنة عشر للهجرة عزمه على الحج , وأرسل إلى الآفاق يخبرهم بذلك . .
ونفر إليه الناس سراعاً من كل حدب وصوب واجتمعت في ذلك الموسم عشرات الألوف من كل بلد وحي وقبيلة , ليحجوا مع أكرم مخلوق , وأفضل نبي , ثم يرجعون إلى بلادهم من سفر محفوف بالأخطار وبعد طول انتظار , ويحدثونهم بما جرى لهم وصار .
وسيصغي الناس إليهم بشغف وبتلذذ , فإن للحجاج أحاديثهم وذكرياتهم , التي يرغب الناس في سماعها حتى لو كانت لا تعني لهم شيئاً في الظروف العادية فكيف إذا كانت هذه الأحاديث لها علاقة بأفضل وأكمل , وأقدس , وأعزِّ , وأغلى , وأشرف إنسان في الوجود , وسيحدثونهم عن كل لفتة وبسمة , وعن كل كلمة وحركة , وغير ذلك مما لا بد أن يبقى محفوراً في قلوبهم . . طيلة حياتهم . .
أما إذا حدث أمام أعينهم ما لم يكن في الحسبان , وكان الحدث مع أناس يدَّعون القرب منه والإثرة لديه , فإن ذلك سوف يكون له وقع الصاعقة عليهم , خصوصاً إذا وجدوا فيه مساساً بقداسته , وتقويضاً لهيبته , وإبطالاً لتدبيره « صلى الله عليه وآله » . .
ولعل قريشاً حين تجرأت على النبي « صلى الله عليه وآله » في عرفات , أو في منى ، أو فيهما معاً ظنت أنها قد أفلحت في درء خطر عظيم , وتلافي خطب جسيم , كان قد أوشك أن يلم بها . . ولكن الله خيب فألها , وأبار كيدها , وأبطل مكرها . . ويمكرون ويمكر الله , والله خير الماكرين . .
واقع المسلمين في حجة الوداع :
وكان يقيم في المدينة قسم من المسلمين , والباقون موزعون في المناطق المحيطة بها والذين أسلموا قبل سنة ثمان كانوا ثلة من الناس , لا يصل عددها إلى بضعة آلاف . . أكثرهم ضعيف الإيمان , أو منافق , أو لا يبالي بأمر الدين والإيمان , أو من الهمج الرعاع الذين يميلون مع كل داع , وفق مصالحهم وأهوائهم . .
أما بعد فتح مكة أو قبله بقليل فقد اهتم الناس بإعلان دخولهم في الإسلام , وصارت القبائل في سنة تسع وعشر ترسل وفودها إلى رسول الله « صلى الله عليه وآله » ليبلغوه ذلك , فدخل في الإسلام في هذه الفترة عشرات بل مئات الألوف بمن فيهم سكان مكة , وما والاها .
يقال لمن أسلم من أهل المدينة : الأنصار , ولمن هاجر إليها : مهاجرون .
وكان المهاجرون والقرشيون منهم بالخصوص هم الذين يناوئون علياً « عليه السلام » : ويسعون في إبطال أمره وهم وإن كان عددهم لا يزيد على بضع مئات يعيشون في المدينة , ولكن كان فيهم رجال مجربون وعلى درجة كبيرة من الحنكة والدهاء , ولا شك في أن بضع عشرات منهم قد ذهبوا إلى الحج سنة عشر , وهم الذين واجهوا رسول الله « صلى الله عليه وآله » في عرفة كما أسلفنا , معتمدين في ذلك على من حضر ذلك الموقف من أنصارهم ومحبيهم في مكة وما والاها . .
ومن الواضح : أن جميع المسلمين لم يذهبوا إلى الحج إذ لا يعقل أن يترك جميع الناس مواشيهم وزراعتهم وبيوتهم وديارهم خالية من كل أحد . كما أن في المهاجرين من كان من أنصار علي « عليه السلام » ومحبيه وإن كان الفريق الآخر هو الأقوى , والأكثر . . وها هو قد شغب على رسول الله , وأثار من الضجيج والصخب ما أصم من حضر من الناس . . ولم يتمكن من إبلاغ ما أمره الله تعالى بإبلاغه . .
وبعد أن فعلوا فعلتهم الشنيعة تلك ، وظنوا أنهم قد ربحوا معركتهم ضد رسول الله بادر « صلى الله عليه وآله » إلى الخروج من مكة فور انتهاء مراسم الحج ، ومن دون تفويت ساعة واحدة ، فنفر في
اليوم الثالث عشر من منى بعد الزوال . . [1] وطاف بالبيت وخرج من مكة . . [2] .
وذلك : لأن أي تعلل ، أو تأخير ، سيكون معناه : أن يخرج أشتات من الناس إلى بلادهم ، ولا يتمكن « صلى الله عليه وآله » من إيصال ما يريد إيصاله إليهم . ومن الطبيعي أن يتقيد الناس في مسيرهم بمسيره « صلى الله عليه وآله » والكون في ركبه ، وتحت رايته طلباً لليسر والأمن ، والبركة ، والفوز بسماع تعاليمه « صلى الله عليه وآله » والاستفادة من توجيهاته .
وقد قطع « صلى الله عليه وآله » المسافة ما بين مكة والجحفة ، حيث غدير خم - وهي عشرات الأميال - في أربعة أيام فقط ، حيث نصب علياً « عليه السلام » هناك ليبايعه الناس إماماً للأمة ، وقد بايعه نفس أولئك المعترضين على النبي « صلى الله عليه وآله » في عرفات ، ولم يجرؤوا على التفوه ببنت شفة إلا همساً . .
لأنهم وجدوا أنفسهم أفراداً ، لا يتجاوز عددهم عشرات من الناس بين عشرات الألوف ، بعد أن تركوا حماتهم - وهم أهل مكة وما ولاها - وراء ظهورهم ، وأما اليمن ، فقد أسلمت طائفة من أهلها قبل أيام يسيرة على يد الإمام علي « عليه السلام » ، الذي لحق برسول الله « صلى الله عليه
وآله » في مكة مع بعض من أسلم على يديه . .
< فهرس الموضوعات > دراسة الحدث في حدود الزمان والمكان :
< / فهرس الموضوعات > دراسة الحدث في حدود الزمان والمكان :
ونحن في نطاق فهمنا لموقف النبي « صلى الله عليه وآله » في حجة الوداع ( في عرفات ومنى ) ، نسجل النقاط التالية :
< فهرس الموضوعات > 1 - يوم عبادة :
< / فهرس الموضوعات > 1 - يوم عبادة :
إن يوم عرفة هو يوم عبادة ، ودعاء وابتهال ، وانقطاع إلى الله سبحانه ، ويكون فيه كل واحد من الناس منشغلاً بنفسه ، وبمناجاة ربه ، لا يتوقع في موقفه ذاك أي نشاط سياسي عام ، ولا يخطر ذلك له على بال .
فإذا رأى أن النبي الأكرم « صلى الله عليه وآله » يبادر إلى عمل من هذا القبيل ، فلا بد أن يشعر : أن هناك أمراً بالغ الخطورة ، وفائق الأهمية ، فينشدّ لسماع ذلك الأمر والتعرف عليه ، ويلاحق جزئياته بدقة ووعي ، وبانتباه فائق .
< فهرس الموضوعات > 2 - لماذا في موسم الحج ؟
< / فهرس الموضوعات > 2 - لماذا في موسم الحج ؟
وإذا كان موسم الحج هو المناسبة التي يجتمع فيها الناس من مختلف البلاد ، على اختلاف طبقاتهم ، وأجناسهم ، وأهوائهم ، فإن أي حدث متميز يرونه ويشاهدونه فيه لسوف تنتشر أخباره بواسطتهم على أوسع نطاق ، فكيف إذا كان هذا الحدث يحمل في طياته الكثير من المفاجآت ، والعديد من عناصر الإثارة ، وفيه من الأهمية ما يرتقي به إلى مستوى الأحداث المصيرية للدعوة الإسلامية بأسرها .
< فهرس الموضوعات > 3 - وجود الرسول « صلى الله عليه وآله » أيضاً :
< / فهرس الموضوعات > 3 - وجود الرسول « صلى الله عليه وآله » أيضاً :
كما أن وجود الرسول « صلى الله عليه وآله » في موسم الحج ، لسوف يضفي على هذه المناسبة المزيد من البهجة ، والارتياح ، يعطيها معنى روحياً أكثر عمقاً ، وأكثر شفافية ، وسيشعر الحاضرون بحساسية زائدة تجاه أي قول وفعل يصدر من جهته « صلى الله عليه وآله » ، وسيكون الدافع لديهم قوياَ لينقلوا للناس مشاهداتهم ، وذكرياتهم في سفرهم الفريد ذاك .
كما أن الناس الذين يعيشون في مناطق بعيدة عنه « صلى الله عليه وآله » ، ويشتاقون إليه ، لسوف يلذ لهم سماع تلك الأخبار ، وتتبعها بشغف ، وبدقة ، وبانتباه زائد ؛ ليعرفوا كل ما صدر من نبيهم ، من : قول ، وفعل ، وتوجيه ، وسلوك ، وأمر ، ونهي وتحذير ، وترغيب وما إلى ذلك .
< فهرس الموضوعات > 4 - الذكريات الغالية :
< / فهرس الموضوعات > 4 - الذكريات الغالية :
وكل من رافق النبي « صلى الله عليه وآله » في هذا السفر العبادي ، لسوف يحتفظ في ذاكرته بذكريات عزيزة وغالية على قلبه ، تبقى حية غضة في روحه وفي وجدانه ، على مدى الأيام والشهور ، والأعوام والدهور ، ما دام أن هذه هي آخر مرة يرى فيها رسول الله « صلى الله عليه وآله » ، أعظم وأكرم ، وأقدس ، وأغلى رجل وجد ، ويوجد على وجه الأرض .
وحين تتخذ العلاقة بالحدث بعداً عاطفياً ، يلامس مشاعر
الإنسان ، وأحاسسيه ، فإنها تصبح أكثر رسوخاً وحيوية ، وأبعد أثراً في مجال الالتزام والموقف .
< فهرس الموضوعات > 5 - الناس أمام مسؤولياتهم :
< / فهرس الموضوعات > 5 - الناس أمام مسؤولياتهم :
وقد عرفنا : أنه « صلى الله عليه وآله » قد اختار الزمان - يوم عرفة - ليكون يوم العبادة والانقطاع إلى الله سبحانه . والمكان ، وهو نفس جبل عرفات .
ثم اختار الخصوصيات والحالات ذات الطابع الخاص ، ككونها آخر حجة للناس معه ، حيث أخبرهم : أن الأجل قد أصبح قريباً .
ثم اختار أسلوب الخطاب الجماهيري لا خطاب الأفراد والأشخاص ، كما هو الحال في المناسبات العادية . .
وكل ذلك وسواه ، يوضح لنا : أنه « صلى الله عليه وآله » أراد أن يضع الأمة أمام مسؤولياتها ، ليفهمها : أن تنفيذ هذا الأمر يقع على عاتقها ؛ ليس للأفراد أن يعتذروا : بأن هذا أمر لا يعنيهم ، ولا يقع في دائرة واجباتهم ، كما أنهم لا يمكنهم دعوى الجهل بأبعاده وملابساته ، بل الجميع مطالبون بهذا الواجب ، ومسؤولون عنه ، وليس خاصاً بفئة من الناس ، لا يتعداها إلى غيرها ، وبذلك تكون الحجة قد قامت على الجميع ، ولم يبق عذر لمعتذر ، ولا حيلة لمتطلب حيلة .
< فهرس الموضوعات > 6 - إحتكار القرار :
< / فهرس الموضوعات > 6 - إحتكار القرار :
وهذه الطريقة في العمل أخرجت القضية عن احتكار جماعة بعينها ، قد يروق لها أن تدَّعي : أنها وحدها صاحبة الحل والعقد في
هذه المسألة ، أخرجها عن ذلك لتصبح قضية الأمة بأسرها ، ومن مسؤولياتها التي لا بد وأن تُطالِب ، وتطالَب بها ، فليس لقريش بعد هذا ، ولا لغيرها : أن تحتكر القرار في أمر الإمامة والخلافة ، كما قد حصل ذلك بالفعل .
ولنا أن نعتبر ما حصل من أهم إنجازات هذا الموقف ، وهو ضربة موفقة في مجال التخطيط لمستقبل الرسالة ، وتركيز الفهم الصحيح لمفهوم الإمامة لدى جميع الأجيال ، وعلى مر العصور . وقد كان لا بد من إخراج هذه القضية من أيدي أناس يريدون أن يمارسوا الإقطاعية السياسية والدينية ، على أسس ومفاهيم جاهلية ، دونما أثارة من علم ، ولا دليل من هدى ، وإنما من منطلق الأهواء الشيطانية ، والأطماع الرخيصة ، والأحقاد المقيتة والبغيضة .
7 - تساقط الأقنعة :
ولعل الإنجاز الأهم هنا هو : أنه « صلى الله عليه وآله » قد استطاع أن يكشف زيف المزيفين ، وخداع الماكرين ، ويعريهم أمام الناس ، حتى عرفهم كل أحد ، وبأسلوب يستطيع الناس جميعاً أن يدركوه ويفهموه على اختلاف مستوياتهم ، وحالاتهم ، ودرجاتهم في الفكر ، وفي الوعي ، وفي السن ، وفي الموقع ، وفي غير ذلك من أمور .
فقد رأى الجميع : أن هؤلاء الذين يدَّعون : أنهم يوقرون رسول الله ويتبركون بفضل وضوئه ، وببصاقه ، وحتى بنخامته ، وأنهم يعملون بالتوجيهات الإلهية التي تقول :
* ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) * [1] .
* ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) * [2] .
* ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) * [3] .
* ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) * [4] .
وغير ذلك من آيات تهدف إلى تنظيم تعاملهم ، وتضع الحدود ، وترسم معالم السلوك معه « صلى الله عليه وآله » ، مما يكون الفسق والخروج عن الدين ، في تجاهله ، وفي تعديه .
هذا إلى جانب اعترافهم بما له « صلى الله عليه وآله » من فضل عليهم ، وأيادٍ لديهم ، فإنه هو الذي أخرجهم - بفضل الله تعالى - من الظلمات إلى النور ، ومن الضلال إلى الهدى ، وأبدلهم الذل بالعز ، والشقاء بالسعادة ، والنار بالجنان .
وبالرغم من ادِّعائهم : أنهم قد جاؤوا مع هذا الرسول الأكرم والأعظم ، في هذا الزمان الشريف ، إلى هذا المكان المقدس - عرفات - لعبادة الله سبحانه ، وطلب رضاه ، معلنين بالتوبة ، وبالندم على ما فرطوا في جنب الله تعالى ، منيبين إليه سبحانه ، ليس لهم في حطام
الدنيا ، وزخارفها ، مطلب ولا مأرب .
نعم ، رغم ذلك : فقد رأى الجميع بأم أعينهم : كيف أن حركة بسيطة منه « صلى الله عليه وآله » أظهرتهم على حقيقتهم ، وكشفت خفيّ مكرهم ، وخادع زيفهم ، ورأى كل أحد كيف أنهم : قد تحولوا إلى وحوش كاسرة ، ضد نبيهم بالذات ، وظهر كيف أنهم لا يوقرون رسول الله « صلى الله عليه وآله » ، ويرفعون أصواتهم فوق صوته ، ويجهرون له بالقول أكثر من جهر بعضهم لبعض ، ويعصون أوامره ، كل ذلك رغبة في الدنيا ، وزهداً في الآخرة ، وطلباً لحظ الشيطان ، وعزوفاً عن الكرامة الإلهية ، وزهداً برضا الرحمن .
8 - وعلى هذه فقس ما سواها :
وإذا كان هؤلاء لا يتورعون عن معاملة نبيهم بهذا الأسلوب الوقح والقبيح ، فهل تراهم يوقرون من هو دونه ، في ظروف وحالات لا تصل إلى حالاتهم معه « صلى الله عليه وآله » ، ولا تدانيها ؟ ! .
وماذا عسى أن يكون موقفهم ممن طفحت قلوبهم بالحقد عليه ، ولهم قِبَلَهُ ترات وثارات الذين قتلهم على الشرك من أسلافهم ، وهو الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه .
وهكذا . . فإنه « صلى الله عليه وآله » يكون قد أفقدهم ، وأفقد مؤيديهم كل حجة , وحرمهم من كل عذر ، سوى البغي والإصرار على الباطل ، والجحود للحق ؛ فقد ظهر ما كان خفياً ، وأسفر الصبح لذي عينين ، ولم يعد يمكن الإحالة ، على المجهول ، بدعوى : أنه يمكن أن
يكون قد ظهر لهم ما خفي علينا .
أو أنهم - وهم الأتقياء الأبرار - لا يمكن أن يخالفوا رسول الله « صلى الله عليه وآله » ، ولا أن يبطلوا تدبيره ، ويخونوا عهده ، وهو لماّ يُدفن . أو أن تصدر الخيانة من أكثر الصحابة ! أو أن يسكتوا بأجمعهم عليها ! .
وما إلى ذلك من أساليب ، يمارسها البعض لخداع السذج والبسطاء ، ومن لا علم لهم بواقع أولئك الناس ، ولا بمواقفهم .
فإن كل هذه الدعاوى قد سقطت ، وجميع تلكم الأعذار قد ظهر زيفها وبطلانها ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر .
ظهور الأحقاد والمصارحة المرة :
وقد تقدمت كلمات أمير المؤمنين « عليه السلام » التي صرح فيها : بأن العرب كرهت أمر محمد « صلى الله عليه وآله » ، وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه ، حتى قذفت زوجته ، ونفرت به ناقته .
ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعة للرياسة ، وسلماً إلى العز والإمرة ، لما عبدت الله سبحانه بعد موته يوماً واحداً .
وعلى هذا : فإنه بعد أن جرى ما جرى منهم معه « صلى الله عليه وآله » في عرفات ومنى وبعد أن تأكد لديهم إصراره « صلى الله عليه وآله » على جعل الأمر في أهل بيته ، ولعلي « عليه السلام » على وجه الخصوص ، ظهر الحقد والبغض على وجوههم ، وفي حركاتهم وتصرفاتهم ، وعلى مجمل مواقفهم . وصاروا يعاملون رسول الله
« صلى الله عليه وآله » معاملة غريبة ، وبصورة بعيدة حتى عن روح المجاملة الظاهرية .
وقد واجههم النبي « صلى الله عليه وآله » بهذه الحقيقة ، وصارحهم بها ، في تلك اللحظات بالذات .
ويتضح ذلك من النص الذي يقول :
عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله « صلى الله عليه وآله » نزل بخم فتنحى الناس عنه ، ونزل معه علي بن أبي طالب ، فشق على النبي تأخر الناس ، فأمر علياً ، فجمعهم ، فلما اجتمعوا قام فيهم متوسداً [ يد ] علي بن أبي طالب ، فحمد الله ، وأثنى عليه . . ثم قال :
« أيها الناس ، إنه قد كَرِهْتُ تخلفكم عني ، حتى خُيِّلَ إلي : أنه ليس شجرة أبغض إليكم من شجرة تليني » [1] .
وروى ابن حبان بسند صحيح على شرط البخاري - كما رواه آخرون بأسانيد بعضها صحيح أيضاً : أنه حين رجوع رسول الله « صلى الله عليه وآله » من مكة - حتى إذا بلغ الكديد أو [ قدير ] ، جعل ناس من أصحابه يستأذنون ، فجعل « صلى الله عليه وآله » يأذن لهم .
فقال رسول الله « صلى الله عليه وآله » : « ما بال شق الشجرة التي تلي رسول الله أبغض إليكم من الشق الآخر » ؟ .
قال : فلم نر من القوم إلا باكياً .
قال : يقول أبو بكر : « إن الذي يستأذنك بعد هذا لسفيه في نفسي الخ . . » [1] .
التدخل الإلهي :
ثم جاء التهديد الإلهي لهم ، فحسم الموقف ، وأبرم الأمر ، وظهر لهم أنهم عاجزون عن الوقوف في وجه إرادة الله تعالى ، القاضية بلزوم إقامة الحجة على الناس كافة ، بالأسلوب الذي يريده الله عز وجل ويرتضيه .
وأدركوا : أن استمرارهم في المواجهة السافرة قد يؤدي بهم إلى حرب حقيقية ، مع الله ورسوله ، وبصورة علنية ومكشوفة .
فلم يكن لهم بد من الرضوخ ، والانصياع ، لا سيما بعد أن أفهمهم الله سبحانه : أنه يَعتبر عدم إبلاغ هذا الأمر بمثابة عدم إبلاغ أصل الدين ، وأساس الرسالة ، وأن معارضتهم لهذا الإبلاغ ، تجعلهم في جملة أهل الكفر ، المحاربين ، الذين يحتاج الرسول « صلى الله عليه
وآله » إلى العصمة الإلهية منهم .
وهذه الأمور الثلاثة قد تضمنتها الآية الكريمة التي حددت السياسة الإلهية تجاههم :
* ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ ) * [1] .
والتركيز على هذه الأمور الثلاثة معناه : أن القرار الإلهي هو : أن عدم تبليغ هذا الأمر للناس بصورة علنية سيكون سبباً في عودة الأمور إلى نقطة الصفر ، وخوض حروب في مستوى بدر ، وأحد والخندق ، وسواها من الحروب التي خاضها المسلمون ضد المشركين ، من أجل تثبيت أساس الدين وإبلاغه .
ومن الواضح لهم : أن ذلك سوف ينتهي بهزيمتهم وفضيحتهم ، وضياع كل الفرص ، وتلاشي جميع الآمال في حصولهم على امتياز يذكر ، أو بدونه ، فتكون الكارثة بانتظارهم ، حيث البلاء المبرم ، والهلاك والفناء المحتّم .
فآثروا الرضوخ - مؤقتاً - إلى الأمر الواقع ، والانحناء أمام العاصفة ، في سياسة غادرة وماكرة . . ولزمتهم الحجة ، بالبيعة التي أخذت منهم له « عليه السلام » في يوم الغدير . وقامت هذه الحجة على الأمة بأسرها أيضاً . ولم يكن المطلوب أكثر من ذلك . وقد كان هذا قبل استشهاده
« صلى الله عليه وآله » بسبعين يوماً . .
وخلاصة القول : إن هؤلاء أنفسهم حينما رأوا جدية التهديد الإلهي ، سكتوا عندما كان النبي « صلى الله عليه وآله » يعلن إمامة علي « عليه السلام » في غدير خم ؛ فلم نجد منهم أية بادرة خلاف ، إلا فيما ندر من همسات عابرة ، لا تكاد تسمع .
لقد بادر هؤلاء أنفسهم إلى البيعة له « عليه السلام » . . وإن كانوا قد أسروا وبيتوا ما لا يرضاه الله ورسوله ، من القول والفعل ، والنية والتخطيط . الذي ظهرت نتائجه بعد وفاته « صلى الله عليه وآله » ، وهو لمَّا يدفن ، بل وقبل ذلك ، حينما تصدى بعضهم لمنعه « صلى الله عليه وآله » من كتابة الكتاب بالوصية لعلي « عليه السلام » ، حينما كان « صلى الله عليه وآله » على فراش المرض ، في ما عرف برزية يوم الخميس !
وقال قائلهم : إن النبي ليهجر !
أو : غلبه الوجع ! [1] .
ثم أخذوا هذا الأمر من صاحبه الشرعي بقوة السلاح ، بعد أن ارتكبوا جرائم وعظائم ، وانتهكوا لله حرمات . .
ولكن بعد أن قطع النبي « صلى الله عليه وآله » عذرهم ، وفضح أمرهم ، في ضمن سلسلة إجراءات ومواقف فاجأهم بها ، وأظهر للناس دخائلهم ، وأكد على أن شيئاً لم يتغير فيهم ، وذلك مثل : قضية تجهيز جيش أسامة ، وعزل أبي بكر عن الصلاة ، وطلب كتابة الكتاب ، فيما عُرف برزية يوم الخميس .
وكل ذلك قد كان في الأيام الأخيرة من حياته « صلى الله عليه وآله » ، بحيث لم يبق مجال لدعوى الإنابة والتوبة ، أو الندم على ما صدر منهم ، ولا لدعوى تبدل الأوضاع والأحوال ، والظروف والمقتضيات ، ولا لدعوى تبدل القرار الإلهي النبوي ، ولا لغير ذلك مما قد يتوسلون به لخداع الناس في هذا المجال .
< فهرس الموضوعات > الخير في ما وقع :
< / فهرس الموضوعات > الخير في ما وقع :
وأخيراً . . فإن ما جرى في عرفة ، ومنى ، وإظهار هؤلاء الناس على حقيقتهم ، وما تبع ذلك من فوائد وعوائد أشير إليها ، قد كان ضرورياً ولازماً ، للحفاظ على مستقبل الدعوة ، وبقائها ، فقد عرفت الأمة الوفي والتقي ، من المتآمر والغادر ، والمؤمن الخالص ، من غير الخالص ، وفي ذلك النفع الكثير والخير العميم . * ( فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) * [1] . وصدق الله ورسوله ، وخاب من افترى . . * ( فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ) * [2] .
والحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين .
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد . .
فإنه سواء أكانت جملة « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » خبرية محضة , أم أنها خبرية يراد بها الإنشاء , فإن النتيجة واحدة , ولا يلحق ذلك أي ضرر في الاستدلال بها على ولاية أمير المؤمنين « عليه السلام » . .
غير أننا نقول : إن النبي « صلى الله عليه وآله » كان قد أخبرهم وبيَّن لهم طيلة أكثر من عشرين سنة : بأن علياً « عليه السلام » هو الإمام من بعده , وكان ذلك منه « صلى الله عليه وآله » بأمر من الله سبحانه . .
وقد يقال : إنه إذا كانت ولاية أمير المؤمنين « عليه السلام » ثابتة من أول بعثة النبي « صلى الله عليه وآله » , فما معنى إعادة إنشائها في يوم الغدير ؟ لأن الالتزام بإنشاء الولاية فيه معناه : أنها لم تكن ثابتة قبل ذلك , وأنها إنما توجد بهذا الإنشاء . . وهذا يجرنا إلى القول : بأن أية شبهة في دلالة حديث الغدير , سوف تجعل الناس كلهم معذورين في عدم الالتزام بها . .
والجواب : أنه لا مانع من إنشاء الولاية مرة بعد أخرى , فيأتي اللاحق ليؤكد السابق , خصوصاً إذا كان هناك من يفكر في الانقلاب على الأعقاب , ويسعى للتشكيك في جدية الأوامر الصادرة , أو في
الالتفاف عليها بطريقة أو بأخرى , أو تجاهلها . ويتأكد ذلك إذا كان في الحشد المجتمع يوم الغدير من لم تبلغه الإنشاءات السابقة , أو أنه قد طرحت عليه بعض الشبهات , والتشكيكات , من قبل الطامعين , والطامحين . .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . .