بسم الله الرحمن الرحيم سماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . .
إن هناك من يطرح للتداول بين عوام الناس مقولات ، مثل أن من أسماء الله الحسنى « الرب » و « الخالق » و « الرازق » إنما يصح إطلاقها عليه تعالى بعد أن يخلق ويرزق و . . و . . و . . حيث إنه لا يمكن أن يكون رب من دون مربوب ، ورازق من دون مرزوق ، وبالتالي فإن وجود المربوب والمرزوق لا ينفصل عن وجود الرب والرازق ، غاية الأمر أن التقدم بين الرب ومربوبه رتبي ليس إلا . .
وهذا ما دفع بعض الناس للقول بأن الأئمة هم وسائط للخلق ، فيما بين الخالق والمخلوق .
ألا تتضمن هذه المقولة القول بأن الله محتاج ؟
ثم هم يقولون : إن وساطتهم هذه تجعل الأئمة هم الذين
يخلقون ، ويرزقون .
ويقولون أيضاً : إن علياً عليه السلام إله بالله .
كيف نرد هذه المقولة وما هو حكم من يقول بها ؟ !
كما أن من هؤلاء من يقول : إن علياً رب الأرباب . .
ومنهم من يقول : إن المقصود بكلمة الحق التي وردت في القرآن كله ، هو على بن أبي طالب وغير ذلك ، مما أصبح متداولاً بين الناس العاديين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد . .
فإن إجابتنا على هذا السؤال تتلخص بما يلي :
1 - إنه كثيراً ما يكون إطلاق الاسم على المسمى ، بملاحظة وجود مقتضيه ، أو من أجل توفر القدرة لديه عليه ، وإطلاق أسماء الله تعالى عليه من هذا القبيل ، فالله تعالى خالق من حيث إنه قادر على الخلق ، وهذه القدرة كمال له تعالى ، وهي موجودة فعلاً . . حتى لو لم يصدر منه الفعل الذي يكون من آثارها ، وهو سبحانه مدبر ، ورحيم ، وحكيم ، وحليم ، و . . و . . الخ . . حتى قبل أن يخلق الخلق . .
وهذا نظير قولك : اشتريت مولِّد كهرباء ، مع أن الآلة التي اشتريتها لم تستعمل بعد ، ولم تولد شيئاً ، لكن بما أن الاقتضاء والاستعداد للتوليد كامن في عمق ذاتها ، صح لك أن تقول : مولِّد كهرباء . .
وكذا الحال لو قلت عن حيوان : إنه مفترس ، فإن حالة الافتراس كامنة في عمق ذاته ، وإن لم يمارس ذلك فعلاً . .
وإذا قلت عن آلة : إنها « مقراض » أو « حاصدة » ، أو ما إلى ذلك ، فإنه يصح وصفها وتسميتها بذلك قبل استعمالها ، وذلك لأن الوصف مأخوذ في الذات على نحو الأهلية والاستعداد والاقتضاء .
وأما في الأسماء والصفات الإلهية ، فإنها تطلق على الذات الإلهية باعتبار أنها كمال متحقق بالفعل في ذاته سبحانه ، من حيث قدرته على تلك الأمور ، ولا بد أن تؤثر هذه القدرة آثارها حين يتوفر ما يبرر إعمالها . .
فهو تعالى خالق ، ورازق ، ورب ، ومدبر , ورحيم ، وحكيم ، وحنان ، ومنان ، حتى قبل خلق الخلق على معنى : قدرته على ذلك ، من حيث ألوهيته المطلقة تبارك وتعالى . .
قال القاضي سعيد القمي في شرحه على التوحيد ج 1 ص 166 : « . . الخلق مظاهر لإحكام تلك الأسماء ، ومرايا هذه الكمالات ، فالوجه الحسن الجميل ثابت له الحسن والجمال ، وإن لم يكن في الوجود مرآة ، فليس هو سبحانه بخلقه الخلق استحق معنى الخالق ، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئ ، بل ذلك ثابت له أزلاً وأبداً » .
وقال : « فخلق زيد الساعة لم يجعل خالقيته من ابتداء هذه الساعة ،
وليس هو في الزمان ، وليس فعله في الزمان ، بل مخلوقه في الزمان ، ولا يتفاوت عنده الأزمنة . . فكون مخلوقه زمانياً لا يصير سبباً لكون فعله زمانياً » .
فاتضح أنه لا معنى للقول : إن ثبوت صفة الخالقية ، وسائر الصفات له تعالى - يستلزم احتياجه تبارك وتعالى لما يكون طرفاً للنسبة خارجاً ، لكي يصح اتصاف الله جل وعلا بهذه الأوصاف حقيقة وواقعاً . .
وهذا يشبه من بعض الجهات ما يذكره العلماء من أن مبدأ الاشتقاق قد يكون من الحِرَفِ ، أو الصناعات ، أو الملكات ، وقد يكون مأخوذاً على نحو الصدور ، بالإضافة إلى حالات أخرى ، لا حاجة للتعرض لها هنا . .
فإذا أخذ على نحو الملكة مثلاً ، فإن التلبس بمبدأ الاشتقاق يكون فعلياً ، وإن لم يصدر عمن تلبس بالمبدأ أي فعل في الخارج أصلاً . .
غير أن الإضافة الوجودية في مثل الملكات ، والحِرَف والصناعات يحتاج إدراكها إلى تحليل عقلي يقوم على ملاحظة التقدم الرتبي . وهذا أمر آخر لا ربط له بما نحن بصدد بيانه .
2 - أما ما ذكروه دليلاً على أن الأئمة هم وسائط الفيض ، فما هو إلا دليل عليل وهزيل ، ولا يستطيع وحده أن يكون مستنداً للاعتقاد : بأن الأئمة عليهم السلام وسائط لخلق الأشياء ، إذ لا ملازمة بين تلك المقدمات وهذه النتيجة ، بل هو من قبيل قولك : السماء تمطر فالنهار موجود .
فلا بد من التماس دليل آخر على ذلك .
ونحن ، وإن كنا لا نناقش في هذا الأمر إذا كان مما تقتضيه حاجة المخلوقات ، وكان من مظاهر رحمة الله تعالى بها ، ولها ، ولكن
معرفتنا بأن ذلك كذلك يحتاج إلى تعريف ودلالة لأن توسيطهم في الفيض ، هو من الأفعال الإلهية ، التي لا تعلم إلا إذا أخبرنا المعصوم عنها ، فيحتاج الاعتقاد بها إلى دليل سمعي توقيفي يبرر هذا الاعتقاد ، حتى لا يقول الله تعالى لنا غداً : * ( آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) * [1] .
ولعل مما يمكن أن يكون مشيراً إلى ذلك ، ما ورد في زيارة آل يس : « وما من شيء إلا وأنتم السبب له » .
وورد في زيارة الإمام الحسين عليه السلام : « إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم ، وتصدر من بيوتكم » [2] .
وقد روى الصفار في بصائر الدرجات الجزء الثامن باب 4 و 5 أحاديث كثيرة حول التفويض بعضها ناظر إلى تفويض التشريع ، وبعضها مطلق .
عن الإمام السجاد عليه السلام في حديث : اخترعنا من نور ذاته ، وفوض إلينا أمور عباده ، فنحن نفعل بإذنه ما نشاء ، ونحن إذا شئنا شاء الله ، وإذا أردنا أراد الله [3] .
ويمكن أن يستفاد ذلك أيضاً من إطلاق الأحاديث التي تقول :
اجعلونا مخلوقين ، وقولوا فينا ما شئتم ، فلن تبلغوا . . أو نحو ذلك [1] .
ولكن لو نوقش في دلالة أو في خلاف ذلك كله ، فإن القول بالتوسيط لا يعني كما أشرنا أنه تعالى محتاج إلى هذه الوسائط ، بل يكون التوسيط تكريماً لهم عليهم السلام ، ولطفاً بنا . .
3 - على أن قول المستدل : إنه لا يمكن إثبات صفة الربوبية ، إلا إذا وجد المربوب . .
غير صحيح ، بل هو أمر تكذبه النصوص ، وتنفيه ، وهي كثيرة ، نختار منها الباقة التالية :
ألف - روي عن الإمام الرضا عليه السلام في خطبة له قوله : « . . له معنى الربوبية إذ لا مربوب ، وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه ، ومعنى العالم ولا معلوم ، ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وتأويل السمع ولا مسموع ، ليس مذ خلق استحق معنى الخالق ، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئية ، كيف ، ولا تغيبه مذ ، ولا تدنيه قد ، ولا يحجبه لعل ، ولا يوقته متى ، ولا يشتمله حين ، ولا . . الخ » [2] .
ب - وعن الإمام العسكري عليه السلام : « تعالى الجبار ، العالم بالأشياء قبل كونها ، الخالق إذ لا مخلوق ، والرب إذ لا مربوب ، والقادر
قبل المقدور عليه » [1] .
ج - وفي نص آخر عن الإمام الباقر عليه السلام : « ورباً إذ لا مربوب ، وإلهاً إذ لا مألوه ، وعالماً إذ لا معلوم ، وسميعاً إذ لا مسموع » [2] .
د - وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام : « إن الله علا ذكره كان ولا شيء غيره ، وكان عزيزاً ، ولا عز ، لأنه كان قبل عزه ، وكان خالقاً ولا مخلوق » . .
إلى أن قال : « كان الله ولا شيء معه » [3] .
4 - وأما قولهم : إن علياً عليه السلام إله بالله ، فهو يدل على عدم معرفتهم لمعنى الألوهية ، فلم يدركوا تناقضهم في نفس قولهم هذا .
5 - وأما قولهم إن المراد بكلمة الحق الواردة في جميع آيات القرآن هو علي عليه السلام ، فهو يستبطن الغلو ، إذا كان قائل ذلك يرى أن علياً هو الله في قوله تعالى : * ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ ) * [4] وهذا غلو قد نهى الله تعالى عنه .
فقد قال تعالى : * ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ) * [1] .
وقال سبحانه : * ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ ) * [2] .
وعلى كل حال ، فإن المراجعة للآيات القرآنية التي تضمنت كلمة « الحق » كفيلة بإظهار عدم صحة هذا التعميم .
6 - وأما قولهم إن الأئمة هم الخالقون والرازقون . . و و الخ .
فقد تقدم : أن ذلك يحتاج إلى دليل سمعي يثبت ذلك ، وقد يستدل على ذلك بما ورد في زيارة الإمام الحسين عليه السلام ، وما ورد في زيارة آل يس . حسبما تقدم ، ويمكن أن يتأيد ذلك بغير ذلك من الروايات .
ولكننا نجد في المقابل روايات تفرض التحاشي عن إطلاق بعض التعابير ، ولا تفسح المجال لوجوه التأويل المختلفة التي يمكن التماسها لمن يتفوه بها . وهي روايات كثيرة نذكر منها :
ألف : ماجيلويه ، عن علي بن إبراهيم ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن ياسر الخادم قال : « قلت للرضا عليه السلام ما تقول في التفويض ؟
فقال : إن الله تبارك وتعالى فوض إلى نبيه صلى الله عليه وآله
أمر دينه فقال : * ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) * فأما الخلق والرزق فلا ، ثم قال عليه السلام : إن الله عز وجل خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وهو عز وجل يقول : * ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) * » [1] .
ب : أبو الحسن علي بن أحمد الدلال القمي ، قال : « اختلف جماعة من الشيعة في أن الله عز وجل فوض إلى الأئمة عليهم السلام أن يخلقوا ويرزقوا ؟
فقال قوم : هذا محال لا يجوز على الله عز وجل ، لأن الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله عز وجل . وقال آخرون : بل الله عز وجل أقدر الأئمة على ذلك وفوض إليهم فخلقوا ورزقوا .
وتنازعوا في ذلك تنازعاً شديداً .
فقال قائل : ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمد بن عثمان ، فتسألونه عن ذلك ، ليوضح لكم الحق فيه ، فإنه الطريق إلى صاحب الأمر ؟ !
فرضيت الجماعة بأبي جعفر ، وسلمت وأجابت إلى قوله ، فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه .
فخرج إليهم من جهته توقيع نسخته : إن الله تعالى هو الذي خلق
الأجسام ، وقسم الأرزاق ، لأنه ليس بجسم ولا حال في جسم ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فأما الأئمة عليهم السلام فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق ، ويسألون فيرزق ، إيجاباً لمسألتهم ، وإعظاماً لحقهم » [1] .
ج : وعن الإمام الصادق عليه السلام : « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : السلام عليك يا ربي ، فقال : ما لك لعنك الله ؟ ! ربي وربك الله الخ » [2] .
د : وهناك حديث دخول عشرة على أمير المؤمنين عليه السلام ، وقولهم : إنك ربنا ، وأنت الذي خلقتنا أو أنت الذي رزقتنا ، ومنعه عليه السلام إياهم عن ذلك [3] .
ه : وفي الصحيح عن أبي بصير قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : يا أبا محمد ، أبرأ ممن يزعم أنَّا أرباب ، قلت برئ الله منه الخ . . [4] .
ز : لعن الإمام الصادق عليه السلام من قال : إن الإمام هو الذي
خلق ورزق [1] .
ح : ومن دعاء الرضا عليه السلام : اللهم من زعم أنّا أرباب ، فنحن منه براء ، ومن زعم أن إلينا الخلق ، وإلينا الرزق ، فنحن براء منه ، كبراءة عيسى بن مريم من النصارى [2] .
ط : وعن الإمام الرضا عليه السلام : في حديث : فمن ادعى للأنبياء ربوبية ، وادعى للأئمة ربوبية أو نبوة أو لغير الأئمة إمامة ، فنحن منه براء في الدنيا والآخرة [3] .
وهناك أحاديث أخرى تشير إلى هذه المعاني . .
غير أن من الواضح : أن ذلك يمنع من أن يجعلهم الله تعالى أسباباً للفيض ، والعطاء ، فيعطي هو تعالى بهم من يشاء ، ويمنع بهم من يشاء ، ويرزق بهم عباده ، ويحيي بهم بلاده ، وينزل بهم المطر ، ويمسك بهم السماء . ولكن لا يصح إطلاق صفة الخالق والرازق ، والأرباب عليهم صلوات الله عليهم أجمعين .
وبذلك كله يتضح خطأ تلك الأقوال وخطأ قائليها .
والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطاهرين . .