- العراق
منذ سنتين

هذا هو صلاح الدين

بسم الله الرحمن الرحيم سماحة الحجة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي . . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . لدي سؤال أرجو أن أجد الوقت لديكم للإجابة عليه ، وجعل الله كل ذلك في ميزان حسناتكم . كثيراً ما يتحدث من يقرأ كتب التاريخ الإسلامي ، عن أن علاقة الشيعة بصلاح الدين الأيوبي ، في ذلك الوقت ، لم تكن علاقة طيبة . حيث إن الشيعة لم يناصروا صلاح الدين ، ولم يساعدوه في الوقوف في وجه الصليبيين ، ومن جانب آخر يقول قراء كتب التاريخ : إن الأيوبي قد انتقم من الشيعة شر انتقام . سماحة السيد العاملي ، بحكم اطلاعكم الواسع على كتب التاريخ وقضاء وقت طويل من عمركم المديد في مجال البحث والتحقيق التاريخي ، فإنني ارتأيت أن أوجه لكم طلباً بهذا الشأن يتضمن توضيح تفاصيل العلاقة بين صلاح الدين الأيوبي والشيعة في ذلك الوقت وما حدث بينهما . نسألكم الدعاء .


بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين . . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد . . فإن ما ورد في هذا السؤال من ادعاء : أن الشيعة لم يناصروا صلاح الدين على الصليبيين ، محض خيال ، وليس له أي نصيب من الحقيقة ، بل هو محض تجن على أهل الحق . . بل إن النصوص التاريخية تصرح : بأن العاضد الفاطمي استصرخ نور الدين زنكي ليساعده في إنقاذ المسلمين من شر الفرنج ، فأمده بأسد الدين شيركوه ، فقدم مصر بعسكر كثير ، وكان معه صلاح الدين ، فانتصر شيركوه على شاور الذي كان قد تحالف مع الفرنجة ، فخلع عليه العاضد الفاطمي وأكرمه ، واستوزره ، فمات بعد شهرين وخمسة أيام ، فاستوزر بعده صلاح الدين . . فاغتنمها هذا فرصة ، فشرع بتدبير الأمور لنفسه ، وساس الأمور بطريقة غريبة ، وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال ، وأقطع أصحابه البلاد ، وأضعف أهل مصر ، وأبعدهم ، واستبد بالأمور ، ومنع العاضد من التصرف . . وعرف الناس أنه يدبر لإزالة تلك الدولة ، وأخذ ما عند الأمراء ، وأخرجهم من بيوتهم ، وأعطاها لأقاربه وأصحابه . . فلما كان في سنة ست وستين ، عزل قضاة الشيعة ، ومن ذلك الوقت اختفى مذهب الشيعة إلى أن نسي من مصر ، ثم قبض على من تبقى من الأمراء ، وأنزل أصحابه في دورهم في ليلة واحدة ، فأصبح البلد وفيه من البكاء والعويل ما يذهل ، وتحكَّم أصحابه في البلد بأيديهم ، وأخرج إقطاعات سائر المصريين لأصحابه ، وقبض على القصور وسلمها لقراقوش ، وأزال شعار الدولة ، وخطب لخليفة بغداد . . [1] . ثم إنه بدأ سياسته القاسية ضد الشيعة ، واضطهدهم ، وقتل زعماءهم ، وأبعد أهل الرياسة فيهم ، بذرائع واهية ، واستناداً لفتاوى حاقدة ومتعصبة ، وواجههم بأصعب وأشق أنواع العقوبة والتعذيب . بل هو قد عالج اعتراضات الناس بأساليب لا إنسانية مفعمة بالحقد ، وبالجريمة إلى حد أنه كان يصلب فئات كثيرة ويعلِّقهم ( أي يشنقهم ) بعمائمهم ، وكان يحرق مناطق واسعة فيها الألوف من البيوت - يحرقها - بما ومن فيها من أطفال ونساء ، وشيوخ ، ليكسر شوكة المعترضين عليه . . لذلك تعددت التحركات التي تهدف إلى الاعتراض على سياسات صلاح الدين ، واختلفت مواقعها . فكان يواجهها بشراسة ، وقسوة بالغة . . وبعد هذا ، فمن الذي يجرؤ على التخلف عن النفير الذي يطلقه صلاح الدين ، في أي زمان ، وهم يرون أفاعيله بالناس ، وسياساته فيهم ، التي هي سياسة الاستئثار بكل شيء . . ولكي تكتمل الصورة نشير إلى بعض النصوص ، ولكن في ثلاثة اتجاهات ، هي التالية : ألف - صلاح الدين في حروبه : إن عالماً من الناس ، كان ولا يزال مبهوراً بصلاح الدين على اعتبار أنه بطل تحرير القدس من أيدي الصليبيين ، وقد أطراه محبوه أيما إطراء ، وعظموه أشد تعظيم من أجل ذلك فيما زعموا . . ولكن فريقاً آخر من الباحثين ليس فقط لم يتحمس لذلك ، لا كثيراً ولا قليلاً ، بل هو قد زاد عليه بأن سجل تحفظات مثيرة جداً على واقع وسلوك هذا الرجل ، وعلى حقيقة نواياه وارتباطاته ، وقد ساق على تحفظاته هذه الكثير من الشواهد الظاهرة ، والدلائل القوية القاهرة التي تفرض على كل منصف أن لا يتجاهلها ، إذا كان بصدد إصدار حكم يستند إلى البينات والوقائع . . ونحن لسنا بصدد إنجاز بحث حول هذا الموضوع ، وإنما نريد فقط الإشارة إلى طبيعة تحفظات هؤلاء الباحثين فنقول : إننا بالنسبة للحروب مع الصليبيين نلاحظ أموراً كثيرة ، نذكر منها ما يلي : 1 - إن نور الدين زنكي قد طلب إلى صلاح الدين أن يزحف من مصر ، ويزحف هو من الشام ، فيطبقان على الصليبيين من جهتين ، ويتم القضاء عليهم ، وينتهي أمرهم من المنطقة بذلك . . فرفض صلاح الدين ذلك . 2 - بل إنه حين نازل صلاح الدين الإفرنج في حصن الشوبك وحصرهم ، وطلبوا الأمان ، واستمهلوه عشرة أيام ، علم بذلك نور الدين ، فسار عن دمشق إلى بلاد الإفرنج ، ليدخل إليها من جهة أخرى ، ويقضي بذلك عليهم . فقيل لصلاح الدين ، متى زال الإفرنج عن الطريق ، وأُخِذَ ملكهم ، لم يبق بمصر مقام مع نور الدين ، وإن جاء نور الدين إليك وأنت ههنا ، فلا بد من الاجتماع به ، وحينئذ يكون هو المتحكم فيك بما شاء . . فما كان من صلاح الدين إلا أن رحل عن الشوبك عائداً إلى مصر ، ولم يأخذه من الإفرنج ، وكتب إلى نور الدين يعتذر ، وأطال الاعتذار ، فلم يقبلها نور الدين منه الخ . . [1] . فاعتقاده : أن زوال الصليبيين يجعله هو تابعاً لنور الدين ، دفعه إلى صرف النظر عن منازلة الإفرنج ، وإفشال خطة نور الدين ، وحفظ وجود الإفرنج في المنطقة . . 3 - ولما شعر أن نور الدين عازم على القدوم إلى مصر ، لكي يؤدبه ، احتمى منه بالصليبيين . وقد نص على ذلك ابن الأثير ، وابن العديم ، وأبو شامة وغيرهم . . 4 - إنه حين شعر أن الخليفة الناصر العباسي عازم على إرسال جيشه إلى فلسطين ، ليتعاون مع جيش صلاح الدين على تحريرها تماماً من الصليبيين ، رفض ذلك ، لأنه اعتقد أن ذلك يفقده بعض السلطة ، ويجعله والياً للخليفة ، وتابعاً له . . 5 - سعى لإقامة صلح مع الإفرنج ، ووسَّط أخاه العادل ليبرم ذلك الصلح معهم . . واهتم أخوه أيضاً بالزواج من أخت ملكهم . . وكان في نفس الوقت يظهر للناصر أنه شديد في حربه للإفرنج ، ومستمر فيها ، ويخبره بتوالي الانتصارات له عليهم ، مع أنه كان يفاوضهم على الصلح . . فكانت نتيجة صلحه معهم هي أن أعاد إلى الصليبيين معظم فلسطين ما عدا القدس ، فقد أرجع إليهم حيفا ، والرملة ، واللد ، ويافا [1] . وقد صرح ابن شداد بأنه في سنة 588 نزل للإفرنج عن البلاد . . ويقول أيضاً ص 259 : إن الإفرنج هم الذين شرطوا على صلاح الدين إبقاء يافا في أيديهم . . فإذا كان هو المنتصر وهم المهزومون ، فكيف يملي المهزوم شروطه على المنتصر . . ويقول المقريزي : إنه أعطاهم من يافا إلى عكا ، إلى صور ، وطرابلس ، وإنطاكية . . [2] . ويقول العماد الأصفهاني : إنه جعل لهم من يافا إلى قيسارية ، إلى عكا ، إلى صور ، ولم يكن لهم ذلك من قبل . . [3] . ولا ندري السبب في أنه دفع أعظم الأثمان لأخذ تلك البلاد من أيدي الإفرنج ، ثم عاد فأرجعها إليهم ، وأرجع إليهم معظم فلسطين إلا أقل القليل ، من دون أي ثمن ، ووفق شروطهم هم ، من دون زيادة ، أو نقيصة . . ولا ندري لماذا لم يجعلوا مدينة القدس في جملة مطالبهم ؟ ! وهل كان سوف يعطيهم إياها أيضاً لو أنهم كانوا قد طلبوها ؟ ! 6 - لقد قسَّم صلاح الدين البلاد بين إخوته ، وأولاده ، وقد نتج عن هذا التقسيم منازعات فيما بين هؤلاء الورثة الطامحين ، واستنصر بعضهم على البعض الآخر بالصليبيين ، فكانت النتيجة هي أن ابني أخيه ، وهما الكامل والأشرف ، سلما إلى الصليبيين القدس نفسها ، مع جزء من أرض فلسطين يمتد من الساحل إلى بيت المقدس ، وذلك في سنة 625 ، كما أن الملك العادل ، قد سلمهم الناصرة أيضاً . . ب - صلاح الدين ، واليهود : فيما يرتبط بعلاقات صلاح الدين باليهود ، نقول : 1 - إن الموسوعة اليهودية تقول عن صلاح الدين : إن موقفه من اليهود شديد التسامح ، وأنه أصدر عام 1190 م . مرسوماً دعا فيه اليهود إلى الاستيطان في القدس . . وقد ذكر أن الحاخام الحريزي قد زار القدس سنة 1216 م . ( وكان صلاح الدين قد مات سنة 1193 ) فوجد فيها جماعة يهودية معتبرة ، مكونة من مهاجرين من فرنسا ، والمغرب ، وسكان عسقلون السابقين . . 2 - إنه كان يستطب موسى بن ميمون ، ويرى له . . ( أي يرى له مقاماً ) . . مع أن موسى هذا هو من أعظم الشخصيات اليهودية على الإطلاق . . وكان ابن المالي وهو أحد مستشاري صلاح الدين ، زوج أخت ابن ميمون ، وابن ميمون زوج أخت ابن المالي . . [1] 3 - ويقول ول ديورانت وغيره ، إن صلاح الدين الذي أعدم السهروردي متهماً إياه بالخروج عن الدين لم يسمع أي شكوى في حق ابن ميمون . . [2] . كما أنه هو نفسه قد أقنع صلاح الدين بإعادة اليهود إلى القدس بعد فتحها . . 4 - ويقول جورج طرابيشي : إن شهرة ابن ميمون التي لفتت أنظار البلاط الأيوبي إليه « أتاحت له أن يجمع بين رعاية السلطان صلاح الدين ، ورعاية نخبة المجتمع القاهري » [3] . 5 - ويقولون أيضاً : « استخدم ابن ميمون نفوذه في بلاط صلاح الدين لحماية يهود مصر ، ولما فتح صلاح الدين فلسطين أقنعه ابن ميمون بأن يسمح لليهود بالإقامة فيها من جديد ، وابتناء كُنُس ومدارس » [1] . 6 - يقول صالح الورداني : « . . تروي لنا كتب التاريخ : أن الصليبيين كانوا يخرجون من بيت المقدس بعربات محملة بالنفائس ، والجواهر ، والذهب ، ومعهم أطفالهم ونساؤهم ، ومتعلقاتهم ، وكذلك اليهود . وهم حين دخلوا بيت المقدس جعلوا الدماء تجري فيها كالأنهار ، ولم يرحموا طفلاً ، ولا شيخاً ، ولا امرأة . فعل هذا صلاح الدين مع الصليبيين واليهود ، ولكنه لم يفعله مع المسلمين من الشيعة ، فقد بطش بهم البطشة الكبرى ، وفعل بهم ما تقشعر له الأبدان » . . [2] . ج - تعصب الجبابرة : وحين تصل النوبة إلى الشيعة ، فإن ذلك المتسامح يصبح وحشاً كاسراً ، وبلاء عظيماً ، حيث نرى : بالإضافة إلى ما قاله صالح الورداني آنفاً - نرى - دلائل أخرى على معاملة صلاح الدين الأيوبي للشيعة في مصر بقسوة بالغة ، حيث يقولون : 1 - إنه « أخذ يعمل على تحويل الناس شيئاً فشيئاً عن المذهب الشيعي إلى مذهبه ، وهو مذهب السنة » . . [1] . 2 - عزل قضاة الشيعة [2] ، وفرض المذهب الشافعي ، فتظاهر الناس في تلك السنة بمذهب الشافعي ، واختفى مذهب الشيعة إلى أن نسي من مصر . . وألغى مجالس الدعوة ، وأزال أصول المذهب الشيعي ، مثل الأذان بحي على خير العمل ، وأزال النقش الذي كان على العملة ، وهو : « علي ولي الله » . . [3] . 3 - وكَّل القاضي الفاضل مهمة اختيار الكتب الصالحة من مكتبة قصر الخلافة الفاطمية ، التي كان فيها عشرات ، أو مئات الألوف من المجلدات ، فأحرق ما يدعو إلى التشيع . . [4] . 4 - قال السيوطي : « وأخذ صلاح الدين في نصر السنة ، وإشاعة الحق ، وإهانة المبتدعة ، والانتقام من الروافض ، وكانوا بمصر كثيرين » . . [5] . 5 - وقال المقريزي : « حمل صلاح الدين الناس كافة على عقيدة الأشعري في مصر وبلاد الشام ، ومنها إلى أرض الحجاز ، واليمن ، وبلاد المغرب ، حتى أصبح الاعتقاد السائد بسائر هذه البلاد بحيث إن من خالفه ضرب عنقه » . . [1] . وقال أيضاً عن صلاح الدين ، وأولاده : « عقدوا الخناصر ، وشدوا البنان على مذهب الأشعري ، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه الخ . . » [2] . وعلى كل حال ، فإن هناك أموراً كثيرة تدخل في هذا السياق ، وتظهر مدى قسوة صلاح الدين ضد الشيعة على الخصوص ، وتبيَّن بعض خططه لإطفاء نورهم ، وإبادة خضرائهم . . ولعل فيما ذكرناه كفاية ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطاهرين . .

1