- العراق
منذ سنتين

الاستنساخ البشري . . نظرة موضوعية

ما هو موقف الإسلام من الاستنساخ البشري ؟ ! . .


بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين . . وبعد . . فإن النظرة إلى الاستنساخ البشري تكون من زاويتين : الأولى : أن ننظر إلى هذه العملية من زاوية كونها عملاً مخبرياً ، وأعمالاً وحركات تؤدي بالتالي من خلال التصرف بالخلايا ، أو ما إلى ذلك . . إلى إنتاج كائن بشري . . فإذا كان السؤال عن هذا الأمر ، من هذه الزاوية ، فربما لا يرى الفقيه الراصد لهذا العمل الإنتاجي في مراحله المختلفة ، ما يعتبره إخلالاً أو تجاوزاً للحدود الشرعية ، ولا هو من موارد انطباق أيٍ من العناوين المحرمة عليه ، كالقتل ، والتعدي على الكائنات الحية التي يريد الشارع أن يحفظها ، أو غير ذلك . . كما أنه ليس من موارد الخيانة ، أو الكذب أو غير ذلك مما ثبتت حرمته الشرعية . . فلا يجد الفقيه في مثل هذا الجهد العملي ، والممارسة الواقعية أي مبرر للحكم بالحرمة الشرعية ، أو أي مبرر للمنع القانوني . . الثانية : أن ننظر إلى هذا الأمر من زاوية انسجامه مع السياسة الإلهية في إنشاء المجتمعات البشرية ، وإرساء منطلقات وركائز الشخصية الإنسانية القادرة على تحقيق الغايات الكبرى من الخلق . . وربما يجد الفقيه أنها متناقضة مع ذلك كله ، وأنها من أسباب هدم البناء العام للمجتمع الإنساني ، وتدمير تلك الركائز الأساسية في عمق الذات الإنسانية ، الأمر الذي يحمل معه حتمية ضياع الأهداف الكبرى من الخلق ، وإسقاط كل جهود الأنبياء والأولياء ، ومن تبعهم واهتدى بهديهم من المصلحين والمخلصين . . إن أي فقيه إذا وجد نفسه أمام هذه الحقيقة ، فإنه سيدرك : أن كل الدلائل والشواهد متظافرة وقائمة ومشيرة إلى أن الله سبحانه هو الله العالم الحكيم ، المدبر ، والرؤوف الرحيم لا يرضى بالإقدام على مثل هذا الأمر ، ولا بد أن يمنع منه ، وأن يعاقب عليه . . ولبيان هذه الحقيقة نقول : إن الله سبحانه وتعالى قد أجرى - وهو المدبر الحكيم - في هذا الكون سنناً ، وجعل له نظاماً يمكّن الإنسان من أن يخطط ، ويسعى ، ويسهم في إثارة كوامن الطبيعة من خلال بعث دفائن العقول وتجليات مواهب المعرفة . . أما العشوائية ، فهي طريق السقوط ثم الاندثار ، والفناء . . وهي السد المنيع أمام تفاعل الإنسان مع كل هذا الوجود ، ولتذبل من ثم زهرة الحياة فيه ، وتذوي وتتلاشى . أما هذا الإنسان الطموح جداً ، فإن الله سبحانه حين منحه فرصة التعاطي مع مفردات هذا الوجود ، فإنه قد رسم له حدوداً ، وألزمه بقيود من شأنها أن تحفظ مسيرة الحياة في خط الصحة والسلامة ، واطراد التكامل الإيجابي ، ونيل ، أو فقل تحقيق الأهداف الإلهية السامية بعيداً عن أي استغلال غير مسؤول لما يتهيأ له من قدرات ، من خلال استغلال المعرفة بنظمه ونواميسه . وبعبارة أوضح وأصرح : إنه تعالى يريد لهذا الإنسان أن يصل إلى أهداف معينة ، لا يمكنه الوصول إليها إلا من خلال الانطلاق من مواقع السلامة ، والتزام نهج يرسمه هو له ، وإلا فسيكون مصيره الدمار ، والخيبة والبوار . ولكن هذا الإنسان حين وجد فرصته هذه ، ما فتئ يحاول بإصرار أكيد التملص من كل القيود ، والتنكر لكل الحدود ، وقد جره إصراره هذا إلى الكثير من السقطات ، بل والنكبات . . أما الحدود والقيود التي ألمحنا إليها ، فإنها تنطلق من الخطة التي تمكن من حفظ ونيل تلك الأهداف السامية . . هذه الخطة التي تتجلى في منظومة من التشريعات الإلهية الشاملة ، التي جاءت وفق الحكمة ، وعلى أساس الرحمة والعلم التام والشامل أيضاً . . وهذا بالذات هو ما يفرض التزاماً صارماً بتلك الحدود والقيود ، التي تتلاءم مع منطلقات التشريع وشؤونه ، وتنسجم مع طبيعته وحالاته ، فلا تكون ثمة أية مفارقة بين أي من ذلك كله ، صغرت أو كبرت ؛ لأن ذلك إذا التقى مع تدني مستوى الالتزام بالتشريع ، وبالأوامر والزواجر ، وغابت الهيمنة على حركة الإنسان ، فسيحدث أكثر من فجوة في البناء العام ، فيكون الخلل الكبير والخطير ، وتنشأ التعقيدات الكثيرة التي تكون سلبياتها مرفوضة من وجهة نظر الخالق العليم ، والشارع الحكيم . . يضاف إلى ما تقدم : أن من نافلة القول التذكير : بأن من هذه القيود والحدود ما جاء على شكل خطابات وبيانات ، أعطت التوجيه المرتكز على التفصيل الصريح لخصوصية الحد ، وموقعه ، ومداه ، تماماً كما هو الحال فيما دل على تحريم الخمر ، أو الكذب ، أو ما إلى ذلك . . ومنها ما جاء على شكل بيانات وخطابات إلهية ترتكز على عناوين ذات صفة عامة ، قد تجد منطبقاتها في أكثر من مجال في الدائرة الأوسع والأشمل . . ولعل أبسط مثال نسوقه على ذلك هو النواهي والزواجر عن عنوان الإفساد في الأرض ، وتحريم الإخلال بنظام الحياة العامة . . ليسير ذلك جنباً إلى جنب مع الأوامر الصارمة بالعمل الصالح . . وبالعدل والإحسان . . وما إلى ذلك . وبديهي أن قرائح البشر قادرة على استنباط أساليب لا مجال لحصرها ، سواء في مجالات الإصلاح ، أم في مجالات الإفساد . ويبقى باب التجديد في كلا المجالين مفتوحاً ما دام هناك إنسان تدفعه طموحاته ، وتدعوه شهواته إلى الإفساد ، أو يفرض عليه وجدانه ونبله وكبرياؤه وتدعوه مبادئه وقيمه للإقدام وللإحجام عن كل ما له تأثير على نظام الحياة وفيه حسناً أو سوءاً فيقدم هنا ويحجم هناك . ولعلنا بعد كل تلكم التمهيدات أصبحنا قادرين على تلمس الموقع والقيمة الشرعية لموضوع الاستنساخ ، الذي يسعى إنسان هذا القرن للوصول إليه . حيث لا بد أن يدرس هذا الأمر في دائرة الصلاح والفساد ، وعلى أساس حفظ النظام الإلهي العام ، وعدم الإخلال فيه ، والتزام حدود التشريع . . فيما يرتبط بسلامة الأهداف السامية ، والانسجام مع السياسات الإلهية للبشر في حركتهم في هذه الحياة . وأن لا يتسبب ذلك بنشوء تعقيدات ، وظهور خلل في مجالات الحياة المختلفة ، مثل قضايا الإرث ، أو الزواج ، أو غير ذلك من أنواع العلاقات التي تفرض حقوقاً , أو تنشأ عنها إلزامات والتزامات إيمانية وشرعية . . خصوصاً حين نسمع عن اكتشاف هذا الإنسان لجانب من خريطة الجينات الوراثية ، الأمر الذي سيجعله قادراً على التلاعب بالشخصية المستنسخة حسبما يحلو له وكيفما يشاء . ولا يمكن الاستسلام في أمر خطير كهذا له مساس بالسياسة الإلهية للبشر , وله تأثيرات خطيرة في كل مسيرتهم ، وفي كل حركة الإنسان وعلاقاته في الحياة . . بالإضافة إلى ما ينشأ عنه من تعقيدات مختلفة في مجال العلاقات والحقوق . نعم ، لا يمكن الاستسلام فيه إلى رؤية ساذجة ومحدودة ، ولا تصح ، ولا تجوز دراسته في دائرة طموحات بشرية ، قد تكون مرفوضة في دائرة الحكمة الإلهية البالغة . إضافة إلى ما تقدم نقول : إن ملاحظة الآيات القرآنية توحي : أن الله تعالى قد تحدث عن أمر التوالد والتناسل على أنه هو الأساس الطبيعي لانطلاقة الحياة ، في نطاق نشوء سلسلة هامة وحساسة من المشاعر والأحاسيس والحالات ، ومن النظم والعلاقات ، والارتباطات المختلفة ، حتى العاطفية منها . كما أن ذلك قد أصبح منشأ لحقوق وواجبات ، اجتماعية وشرعية وغيرها . . تسهم في تأهيل الإنسان للسير في صراط السلامة ، فيما يرتبط بنيل الأهداف الإلهية التي خلقت الحياة وكل هذا الوجود من أجلها ، بعيداً عن منطق العبثية والعشوائية . وقد نجد في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تظهر هذه الحقيقة ، فهو تعالى يقول : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ) [1] . ويقول تعالى : ( فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ ) [2] . ويقول تعالى : ( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ) [3] . وقال سبحانه : ( فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ) [4] . فلا مجال لاختيار الدخول في سياق التمرد على النظام العام ، الذي رضيه الله سبحانه وتعالى ، ليكون الأسلوب الأمثل في تكوين الأسرة والمجتمع الإنساني ، وأساساً ترتكز عليه وإليه العلاقات البشرية ، وينبثق منه التكوين الاجتماعي والنفسي والعاطفي وما إلى ذلك . . لأن هذا الاختيار يمثل إخلالاً صريحاً ولا أقل من أنه ظاهرة يشك كثيراً في جدواها ، وصلاحيتها لأن تكون مرتكزاً وأساساً لانطلاقة الحياة بصورة صحيحة وسليمة . . خصوصاً ونحن نواجه تحدياً إبليسياً صريحاً يقول : ( وَلأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ) [1] . وقد أثبتت التجربة أن للأوامر الإبليسية دورها الكبير على أكثر الناس إلا من عصمهم الله بالإيمان والورع والتقوى ، وما أقل هؤلاء ، وما أشد ندرتهم . . وأخيراً . . فإن علينا أن لا نهمل الإشارة إلى حقيقة : أن طريقة خلق آدم وعيسى [ عليهما السلام ] إنما اقتضاها واقع له خصوصياته المتميزة التي تمنع من اطراد هذا الأسلوب ، بل هي تبقيه في دائرة الخيار والاختيار الإلهي . . ولا يمكن ، أو فقل لا نحرز أن يكون هو الأسلوب الذي فسح المجال للبشر أن يمارسوه بأمانة وجدارة . ولذلك فهو لا يصح أساساً شرعياً لتبرير التصدي لممارسة الاستنساخ البشري ، أو ممارسة أي أسلوب آخر حتى ما يسمى بطفل الأنبوب - إلا من خلال مبررات أخرى قادرة على إثبات الشرعية بوضوح - وأين ؟ وأنى ؟ ! . وخلاصة الأمر : إنه لا بد من التزام الحدود الشرعية ، والقيود ، والأحكام ، والمناهج التي وضعها خالق الكون والحياة ، وواضع نواميسها ، من أجل حفظ الحياة ، واطّرادها في خط السلامة والصلاح للانتهاء بها إلى غاياتها وأهدافها النبيلة الكبرى ، في تحقيق مضمون العبودية الحقيقية له تعالى . على أن يرافق ذلك حصانة كافية تمنع من نشوء أية سلبيات مرفوضة من الناحية التشريعية ، فإن ذلك كله يمثل الأساس الصحيح والقوي لأي موقف من محاولات ما يسمى ، بالاستنساخ . . فما دام الأمر لا يبحث في ضمن هذه الدائرة ، بل ينظر إليه من زوايا أخرى ، بعيدة ونائية عن هذا المسار ، ويتعامل معه وفق حسابات بشرية محدودة الرؤية مجهولة الآفاق ، تستبطن في عمقها الراسخ طموحات ومآرب ، وأهواء ومشارب محدودة . . وقاصرة ومريبة أحياناً . . مع عدم الالتزام - ولو بالحد الأدنى - بالنهج الإلهي القويم ، وعدم الوقوف عند حدوده ، أو التقيد بقيوده . ومن دون أي سعي أو وعي لأهدافه الكبرى ، الأمر الذي يشير إلى حقيقة التمرد على الأوامر والزواجر الإلهية ، ويختزن في داخله عمق الجهل بالنظام الإلهي الأمثل ، الذي لا يحق لأحد الإخلال به ، ولا التعدي عليه . . هذا فضلاً عن الجهل الذريع بالأهداف والغايات . . نعم . . ما دام الأمر كذلك ، فلا يمكن لأحد أن يرضى . . أو أن يغض الطرف عن العبث بأقدس شئ وأغلاه . وحيث يضع البشرية في مواجهة خطر التصدع ، والاختلال . . فإن هذا سيكون بلا شك أبشع الجرائم وأخطرها . عصمنا الله من الزلل في القول ، وفي العمل ، إنه ولي قدير . 15 شهر رمضان المبارك 1422 ه‌ . الموافق 1 / 12 / 2001 م .

1