- العراق
منذ 3 سنوات

أردت - أردنا - أراد الله

ورد في الآيات التي تتحدث عما جرى بين النبي موسى [ عليه السلام ] والعبد الصالح ، ثلاثة تعابير مختلفة . فإنه حين تحدث عن خرق السفينة ، قال العبد الصالح : ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) ( 1 ) . وحين تحدث عن الغلام وقتله ، قال : ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ ) ( 2 ) . وحين تحدث عن الجدار والكنز ، قال : ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) [1] . فما هذا التنويع في التعبير ، والعدول في كل مورد إلى صيغة تختلف عن الصيغة التي استفيد منها في المورد السابق ؟ !


بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين . . وبعد . . فربما يكون السبب في هذا التنويع هو الإلماح إلى : 1 - إنه حين خرق السفينة ، فإنما كان ذلك بقرار شخصي منه ، فإن التكليف بحفظ أولئك المساكين من ذلك الظالم تكليف عام لجميع الناس ، والخضر واحد منهم ، ولكن المكلف هو الذي يختار الكيفية والطريقة المجدية ، والموجبة لسقوط ذلك التكليف ، فالخضر [ عليه السلام ] قد بادر إلى هذا الأمر من حيث هو إنسان مكلف ، لا بصفته نبياً حاكماً . . وهذا نظير قول الله سبحانه : ( إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا . . ) [2] فإن التحيات هي من اختراع الناس ، والرد عليها أيضاً هو من اختراعهم . . وكذلك الحال في قولهم [ عليهم السلام ] : أحيوا أمرنا . فإنه أمر عام ، نحن نخترع مصاديقه فننشد الشعر فيهم تارة ، ونعلق اللافتات المعبرة عن منزلتهم ، ومقامهم أخرى ، وننظم المسيرات ثالثة ، وقد نؤلف كتاباً ، أو نكتب ونخرج مسرحية أو فيلماً عنهم . . وما إلى ذلك . . 2 - وحين قال [ عليه السلام ] عن قتله للغلام : ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ ) [1] فإنه قد تحدث عن أمر ذي جنبتين : إحداهما : ترتبط بالله سبحانه ، من حيث إنه تعالى هو الذي حدّد حكم من يعتدي على والديه ، ويظلمهما ظلماً فاحشاً ، يصل بهما إلى حد إرهاقهما بالطغيان والكفر الذي لا يطيقانه ( فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ) [2] . فإن حكم إنسان كهذا هو القتل ، خصوصاً إذا كان المستهدف بظلمه وطغيانه هو والديه . فالحكم بقتل إنسان كهذا لا شك في أنه صادر من الله سبحانه ، وهو قرار إلهي بكل ما لهذه الكلمة من معنى . . وثانيتهما : ترتبط بالخضر نفسه [ عليه السلام ] فإنه المكلف بإجراء هذا الحكم وتنفيذه من موقع الولاية والحاكمية والسلطة المجعولة له من قبل الله ، وقد أطلعه الله على هذا الطغيان والكفر ، بالوسائل التي تخوله إجراء حكم الله سبحانه بالفاعل . . فصح نسبة الإرادة إليه ، لأنه هو المتصدي لإجراء حكم الله ، ونسبته أيضاً إلى الله لأن القرار قرار إلهي لا مجال للتردد فيه ، ولا للتخلف عنه . . 3 - وحين قال الخضر في قصة إقامة الجدار : ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا . . ) [1] فإنه قد نسب الإرادة إلى الله سبحانه ، وأن الله سبحانه هو الذي أخبره بهذا الكنز الذي هو عبارة عن لوح مكتوب فيه عبارات شريفة تشير إلى كلمة التوحيد ، وإلى مسألتي الموت والقدر . . وقد أراد الله سبحانه حفظ اليتيمين - في بلد ظهر حال أهله الفاسد من موقفهم من النبي موسى [ عليه السلام ] والخضر [ عليه السلام ] ، حيث إنهما استطعما أهلها ، فأبوا أن يضيفوهما ، ومن كان كذلك فهل يرحم هذين اليتيمين ؟ ! اللذين استحقا الرعاية الإلهية وفاءاً لأبيهما الذي كان صالحاً . . - فأمر وليه بحفظ الكنز لهما ، بإقامة الجدار . فالله إذن هو الذي أراد حفظ الكنز لليتيمين ، فأجرى الخضر الإرادة الإلهية ، مستنداً فقط إلى الأمر الإلهي ، وإلى ما أطلعه الله عليه من غيبه في أمر الغلامين ، وأبيهما والكنز ولزوم حفظه لهما . . وقد صرح الخضر [ عليه السلام ] بهذا الأمر بالذات ، حين قال : ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) [2] . والحمد لله رب العالمين .

1