- العراق
منذ 3 سنوات

لا تنفذون إِلا بِسلطان

إن القرآن الكريم قد أعلن عجز الإنسان عن اختراق السماء ، فقال تعالى : ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَ بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنْتَصِرَانِ ) [1] . وهذا الإنسان قد وصل إلى القمر . . وإلى المريخ ، وهو يبذل محاولات في مجالات أخرى أيضاً ، فكيف نفسر ذلك . .


بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين . . وبعد . . فإن الألفاظ إنما وضعت لمعانٍ يدركها الإنسان وهي بالدرجة الأولى المعاني المحسوسة ، بالبصر أو السمع أو اللمس . . ثم المعاني القريبة من الحس ، كالكرم ، والشجاعة ، والعدالة والغضب وغير ذلك مما يرى دلائله ، ويحس بآثاره . ثم هو يركِّب من هذه وتلك معانيَ جديدة ، ويستفيد منها في الإنتقال إلى ما هو أدق وأغرب . ولكن القرآن يريد أن يوصل للإنسان معاني أسمى وأعظم مما يخطر على باله ، أو يمر في خياله . وقد احتاج إلى أن يضعها في قوالب لفظية ، كانت قد وضعت لمعان مبتذلة وعادية ، وقريبة ومحدودة ؛ فكان عليه أن يتوسل لإيصال الإنسان إلى تلك المعاني العالية بالمجازات والكنايات ، والاستعارات ، واستعمال تراكيب مختلفة ، وإشارات وتلميحات ، ومختلف أنواع الدلالات . فحين أراد مثلاً بيان حجم الكون . . قال أولاً : هناك سماء وأرض ، والسماء مأخوذة من السمو ، وهو العلو . . ثم قال : هناك سماء دنيا ، وهي القريبة الدانية ، وهناك سماوات عُلى . ثم ذكر أن السماوات سبع . ثم قال : إن جميع ما نراه من نجوم يسطع نورها ، فإنما هو في السماء الدنيا ، فقال تعالى : ( وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) [1] . ولكن قد يفهم من ذلك : أن هذا يختص بالنجوم التي تكون في الليل ، لأن المصابيح تكون في الظلمة ، فذكر في آية ثانية ما يفيد التعميم لكل كوكب حتى للشمس التي تطلع في النهار ، فقال : ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ) [2] . أو لعل كلمة " المَصَابِيحَ " توهم الاختصاص بما يكون نوره نابعاً من ذاته ، كما هو الحال في المصباح ، فلا يشمل ما كان نوره مكتسباً من غيره ، فجاءت الآية الثانية لتفيد الشمول إلى كل ما يضئ ، سواء أكان في الليل أم في النهار ، حيث عبرت بكلمة " الْكَوَاكِبِ " ثم جاء التعبير بالزينة ليشير إلى أن هناك رؤية وتلذذاً ، وإدراكاً لهذه الحالة الجمالية " الزينة " . وإذا رجعنا إلى ما لدينا من معلومات ، فسنجد : أنهم يقولون : إن هناك كواكب لم يصل نورها حتى الآن إلينا . وأن هناك كواكب يحتاج نورها إلى ملايين السنين الضوئية ليصل إلينا ، ثم هم يقولون : إن الضوء يقطع ما يقارب ال‌ 300 ألف كيلومتر في الثانية . فإذا ضممنا ذلك كله بعضه إلى بعض ، وعلمنا : أن ذلك كله في السماء الدنيا ، فإننا سوف ندرك أن حجم هذه السماء بعيد عن أي تصور ولا يمكن أن يناله وهم أو خيال . . فكيف إذا جاء الحديث ليقول لنا : إن حجم السماء الدنيا بالنسبة للثانية هو كحلقة ملقاة في فلاة . وأن السماء الثانية بالنسبة للثالثة كذلك . . وهكذا إلى أن يصل الأمر إلى العرش والكرسي . . فالقمر الذي يبعد عن الأرض أقل من ثانية ونصف بحسب مسيرة الضوء ، لا يعد بعيداً ، بل هو أقرب من قريب . . وكذلك سائر الكواكب التي يفكر الإنسان بالوصول إليها كالمريخ والزهرة ونحوها ، ولا يعد هذا البعد شيئاً ذا بال في حساب مسافات السماء الدنيا ، فضلاً عن السماوات العلى . . وأما الآية الشريفة ، فهي تتحدث عن الخروج عن دائرة أقطار السماوات والأرض كلها ، وقد بينت أن الإنسان قادر على اختراقها ، والخروج من دائرتها إلى عالم جديد ، لأنه تعالى قد حدد للإنسان طبيعة المانع ، وسماه له ، وأخبره أنه إن تغلَّب عليه فسيتمكن من الخروج من جميع جهات السماوات والأرض ، لا من جهة واحدة وحسب ، ولذلك قال " مِنْ أَقْطَارِ " . فمن وصل إلى القمر لا يكون قد خرج من دائرة السماوات ، أو اخترقها من أقطارها وجوانبها المختلفة ، بل يكون في بداية انطلاقته إلى مسافات تحتاج إلى مليارات المليارات التي لا تنتهي من السنين الضوئية ، ليقترب حتى من بعض الكواكب البعيدة نسبياً في السماء الدنيا ، فضلاً عن غيرها من السماوات . . والحمد لله رب العالمين .

1