- العراق
منذ سنتين

نوح [ عليه السلام ] وغرق ابنه

بسم الله الرحمن الرحيم يقول البعض في سؤال وجواب : " كيف يمكن له أن يعيش لحظة الضعف أمام عاطفة البنوة ، ليقف بين يدي الله ليطلب منه إنقاذ ولده الكافر ، من بين كل الكافرين ؟ ! وكيف يخاطبه الله بكل هذا الأسلوب الذي يقطر بالتوبيخ والتأنيب ؟ ويتراجع نوح ، ليستغفر ، ويطلب الرحمة لئلا يكون من الخاسرين " . ويمكن لنا أن نجيب عن ذلك : " إن المسألة ليست مسألة عاطفة تتمرد ، ولكنها عاطفة تتأمل وتتساءل ، فربما كان نوح يأمل أن يهدي الله ولده في المستقبل . وربما كان يجد في وعد الله له بإنقاذ أهله ما يدعم هذا الأمل لأنه من أهله ولم يلتفت إلى كلمة : ( إِلاَ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) ( 1 ) لأنها لم تكن واضحة " . ويقول في موضع آخر عن نوح الذي كان السؤال يلح على قلبه : " والحسرة تأكل قلبه على ولده أن الله وعده أن ينقذ أهله " [1] . إلى أن قال : " ولم ينتبه إلى كلمة : ( إِلاَ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) فأقبل إلى ربه بالنداء الخ . . " [2] . فهل هذا الكلام صحيح ؟ ؟


بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين . . وبعد . . فإن هذا الكلام لا مجال لقبوله ، وذلك لما يلي : أولاً : إنه ليس ثمة من دليل ملموس يدل على أن نوحاً [ عليه السلام ] كان يعلم بكفر ولده ، فلعله كان قد أخفى كفره عن أبيه ، فكان من الطبيعي أن يتوقع [ عليه السلام ] نجاة ذلك الولد الذي كان مؤمناً في ظاهر الأمر ، وذلك لأنه مشمول للوعد الإلهي ، فكان أن سأل الله سبحانه أن يهديه للحق ، ويعرفه واقع الأمور ، فأعلمه الله سبحانه بأن ولده لم يكن من أهله المؤمنين ، وأنه من مصاديق ( مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) فتقبل نوح [ عليه السلام ] ذلك بروح راضية [1] . ولعلك تقول : كيف يجهل نوح [ عليه السلام ] هذا الأمر ، ألا يضر ذلك بنبوته وبشاهديته على أمته ؟ ! ويجاب : بأن الأنبياء إنما يتعاملون مع غيرهم وفقاً للعلوم التي ينالونها بالطرق العادية ، لا بعلم النبوة . . ولعل الله سبحانه قد أراد أن يظهر هذا الأمر للناس . . ليكون ذلك درساً وعبرة لهم . ثانياً : إنه ليس ثمة ما يدل على أن نوحاً [ عليه السلام ] قد عاش الحسرة [1] ودعوى : أن نوحاً كان يريد من ولده أن يؤمن ويركب معه ليكون في جملة أهله الذين لم يسبق عليهم القول . . فيكون عالماً بكفره . . لا يمكن قبولها ؛ أولاً : لأن نوحاً طلب من ولده أن يركب معهم ، مع نصيحة له بأن لا يكون مع الكافرين ، ولم يقل له " لا تكن من الكافرين " . ثانياً : إن نوحاً قد خاطب الله سبحانه في ولده ، لكي ينجيه له . . ولم يطلب من ولده أن يؤمن . . وقد كان من المناسب أن يوجه الخطاب لولده فقط ، وأن يطلب منه الإيمان ، لا مجرد الركوب معهم . ثالثاً : إن ابن نوح لم يقل لأبيه إنه سيبقى مع الكفار ، ولا أنه يوافقهم في الدين بل ادعى له أنه سيأوي إلى جبل يعصمه من الماء . . وفي ذلك تعمية وتستر على موضوع كفره أمام والده ، حيث لم يعترف له بأنه من الكفار ، بل لم يعترف له حتى بأنه سيكون مع الكافرين أيضاً . . بل ابعد نفسه عنهم بقوله : إنه سيأوي إلى ذلك الجبل . على ولده ، من حيث إنه ولده . . فإن الأنبياء [ عليهم السلام ] يعيشون الحسرة على الكافرين لما يفعلونه بأنفسهم ، لا لقرابتهم منهم . والشاهد على ذلك ما حكاه القرآن عن نبينا الأكرم [ صلى الله عليه وآله ] ، حيث خاطبه الله تعالى : بقوله : ( فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) [1] . ويقول : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) [2] . ويقول : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) [3] . غير أننا إن تأكد لدينا أن نوحاً [ عليه السلام ] كان واقفاً على كفر ولده ، فإن من المعقول والمقبول جداً فهم موقف نوح ، على أنه [ عليه السلام ] قد أراد أن يفهم الناس الذين نجوا وهلك أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم وأحباؤهم ، أراد أن يفهمهم من خلال الوحي الإلهي : أن لا خصوصية لمن نجا من أهل نوح [ عليه السلام ] ، كما لا خصوصية لمن هلك منهم ومن غيرهم ، إلا ما يدخل في دائرة الإيمان ، فلهم النجاة ، أو في دائرة الكفر فلهم الهلاك . . وأراد أن يفهمهم أيضاً أن القضية قد نالت فيمن نالت حتى نبي الله نوحاً [ عليه السلام ] في ولده . . وأن هلاك ذلك الولد لم يكن فيه خلف للوعد الإلهي ، لأن المقصود بالأهل الذين صدر الوعد بنجاتهم هم أهله المؤمنون . رابعاً : إذا راجعنا الآيات نفسها ، فلا نجد فيها أنه [ عليه السلام ] يطلب من ربه نجاة ولده ، بل فيها أنه [ عليه السلام ] قد اعتبر رحمة الله ومغفرته هي الربح الأكبر ، وبها تكون النجاة من الخسران . ولأجل ذلك نجده [ عليه السلام ] قد قال : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) [1] توطئة للرد الإلهي الذي سيحدد خصوصية الأهل الموعود بنجاتهم ، وهم المؤمنون ، دون الكافرين . . حيث قد سبق القول بإهلاك الكافرين سواء أكانوا من أهل نوح [ عليه السلام ] أو من غيرهم . خامساً : بالإضافة إلى ما تقدم نقول : إن نوحاً [ عليه السلام ] قد طلب من ولده أن يركب معهم ، فقال : ( يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ، قَالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَ مَنْ رَحِمَ ) [2] . وهذا - أعني قوله تعالى : ( وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ) [3] يشير إلى أنه يراه مؤمناً ، وأنه هو الذي رفض الركوب معهم ، وعرض نفسه للهلاك مع علم نوح [ عليه السلام ] بأن التخلف عن ركوب السفينة معناه التعرض للهلاك المحتم ، وكان هذا هو خيار ولده نفسه . . ثم أشار [ عليه السلام ] إلى ما يفيد أنه لم يكن بصدد طلب نجاة ولده ، ولا كان يتهم الله تعالى بخلف وعده ، حيث صرح [ عليه السلام ] أن وعد الله هو الحق . . وقبل أن يتقدم بأي طلب من الله كان التعليم الإلهي له : أن لا يسأله ما ليس له به علم . إذن ، فهناك شيء لم يكن نوح [ عليه السلام ] مطلعاً عليه ، حسب دلالة الوحي الإلهي ، فجاءت استجابة نوح [ عليه السلام ] لتؤكد على أنه [ عليه السلام ] لم يسأله ، ولن يسأله في المستقبل : ( فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) [1] . ثم جاء قوله [ عليه السلام ] : ( وَإِلاَ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [2] ، فقد يدعى أنه تعالى أراد أن يؤكد هذه الحقيقة ، حيث إنه قد استعمل كلمة " لا " ولم يستعمل كلمة " لم " ، ربما ليفيد أنه لا يتحدث عن الماضي ، حيث لم يصدر منه ما يحتاج إلى ذلك ، بل هو يتحدث عن المستقبل . وقد يقال أيضاً : إن هذا التعبير يتضمن إشارة إلى أن طلب الأنبياء للمغفرة ، إنما يراد منه طلب دفع المعصية عنهم ، لا رفعها ، كما هو معلوم عند أهله . . سادساً : إنه ليس ثمة ما يدل على أن نوحاً [ عليه السلام ] ، لم يلتفت إلى كلمة ( إِلاَ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) [1] أو أن هذه الكلمة لم تكن واضحة حين الوحي ، علماً أن ذلك يخالف العصمة في البلاغ وفي التبليغ ، وهي أمر عقلي ، مسلّم وقطعي ، عند جميع المسلمين ، وليس في الآيات أيضاً : أن نوحاً [ عليه السلام ] قد عاش الحسرة على الكافر ، حتى لو كان ذلك الكافر هو ولده بالذات . سابعاً : وأخيراً ، هناك الكثير من الاحتمالات التي تتحملها الآيات بحيث تكون بعيدة عن وصم الأنبياء [ عليهم السلام ] بهذه النقائص ، ولا تتنافى مع " بلاغة القرآن " ، فلماذا اختيار التفاسير التي تظهر أو تنسب نقيصة للنبي أو الولي ، دون غيرها من التفاسير التي تنزههم عن مثل هذه النقائص ؟ ! والحمد لله رب العالمين .

1