- العراق
منذ 3 سنوات

( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا )

هل ينطبق مفهوم الآية الشريفة : ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ . . ) على وضعنا الحالي . .


إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر [ كما ذكرته الآية 99 من سورة التوبة ] . وقسم منهم يظهرون ذلك ، ويمنُّون به على النبي [ صلى الله عليه وآله ] . . أي أنهم يدعون الإيمان مع أنهم كاذبون في دعواهم . ولكنهم أظهروا ما تحقن به دماؤهم ، وعليه تجري المناكح والمواريث . . وهذا الأمر قد يوجد في كل عصر ، فيكون هناك من يظهر الإسلام الذي تحقن به الدماء ، وتجري عليه المناكح والمواريث . . ولكنهم لم يصلوا إلى درجة الإيمان ، الذي هو معنى قائم بالقلب ، بل بقوا في دائرة الإقرار والاعتراف اللساني ، والمتابعة العملية من دون أن يكون هناك تسليم قلبي ، وشعور بالسكينة والطمأنينة . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . عبس وتولى السؤال ( 55 ) : ما مدى صحة نسبة العبوس إلى النبي الأقدس [ صلى الله عليه وآله ] ، الذي يتبناه ذلك البعض ، ويستشهد له برأي صاحب الأمثل في تفسيره ؟ ! الجواب : قال تعالى : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) [1] . أولاً : إنه إذا دل الدليل القاطع على عصمة الرسول الأعظم [ صلى الله عليه وآله ] في كل شيء ، ثم جاء في الآيات ما ربما يظهر منه في بادئ الرأي خلاف ذلك ، فلا بد من اتهام أنفسنا في فهم معناه . ومحاولة اكتشاف منشأ الاشتباه ، فإن لم يمكنا ذلك ، فعلينا أن نرد علمه إلى أهله . ولا يجوز لنا نقض ذلك الدليل القطعي على العصمة ، لمجرد شبهة ناشئة عن قصورنا في فهم النص . ثانياً : إن من وسائل دفع الشبهة في فهم النص الرجوع إلى الأئمة الطاهرين [ سلام الله عليهم ] ، الذين هم أهل بيت النبوة , ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، وعليهم وفي بيوتهم نزل القرآن ، وهم الذين خوطبوا به ، وهم الكتاب الناطق ، والإمام المبين . . ( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) [2] . وقد ورد عنهم [ صلوات الله وسلامه عليهم ] ما يدفع الشبهة في مورد السؤال ، وبينوا [ عليهم السلام ] أن الآيات قد نزلت في رجل من بني أمية ، وبعض الروايات قد صرحت باسمه أيضاً [3] . وروى الطبرسي عن الإمام الصادق [ عليه السلام ] : أن النبي [ صلى الله عليه وآله ] كان إذا رأى ابن أم مكتوم ، قال : مرحباً ، مرحباً : لا والله ، لا يعاتبني الله فيك أبداً . حيث يظهر من هذا النص الشريف : أنه [ صلى الله عليه وآله ] كان يريد بقوله هذا التعريض بمن صدر منه في حق ابن أم مكتوم ما أوجب نزول العتاب الإلهي له فيه . . فكأنه [ صلى الله عليه وآله ] يقول لابن أم مكتوم : إني لا أعاملك كما عاملك فلان . ثالثاً : إن الروايات التي تحدثت عن أن النبي [ صلى الله عليه وآله ] هو الذي عبس في وجه ابن أم مكتوم إنما رواها غير الشيعة , وقد طرحها الرازي ، معللاً ذلك بأنها أخبار آحاد ، وبأنها تخالف القواعد العقلية [1] . وقد ناقشنا تلك الروايات ، وبيَّنا تناقضاتها ، وبعض وجوه الخلل فيها في كتابنا : " الصحيح من سيرة النبي الأعظم [ صلى الله عليه وآله ] ج 2 ص 155 - 165 " . رابعاً : إن الآيات الشريفة في سورة عبس نفسها ليس فيها ما يدل على أن العابس هو شخص رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] . . فلماذا الإصرار على توجيه التهمة إليه بما يوجب الانتقاص من شأنه [ صلى الله عليه وآله ] ؟ . بل إن التأمل في تلك الآيات المباركة يعطي : أن اتهام رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] بهذا الأمر محض تجنٍّ عليه [ صلى الله عليه وآله ] . . فلاحظ ما يلي : ألف : إن الآيات التي نتحدث عنها هي التالية : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى . . ) [1] . فقوله تعالى : ( وَمَا يُدْرِيكَ ) ليس خطاباً لرسول الله [ صلى الله عليه وآله ] ، بل هو التفات من الغيبة إلى الخطاب مع العابس نفسه ، فهو مثل قوله تعالى : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) حيث كان يتحدث عنه تعالى بضمير الغائب ثم التفت موجهاً الخطاب إليه تعالى فقال : ( إِيَّاكَ ) . . والأمر هنا من هذا القبيل ، فإنه بعد أن أعلن باللوم للعابس ، وتحدث عنه كأنه غير موجود ، فقال : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءهُ الأعْمَى ) عاد فالتفت إليه ، وقال له : لماذا تريد طرده ؟ أتركه يجلس ، فلعله يزّكى بما يسمعه من رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] . ( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) . ثم شرع الله سبحانه في بيان حال ذلك العابس ، فذكر : أن من عاداته أن يهتم بالأغنياء ، ويتصدى لهم ، ويحاول جلب انتباههم إليه . ولكنه لا يهتم بتزكية أولئك الأغنياء ، بل هو يتصدى لهم ، ويهتم بهم لأجل غناهم فقط . فقوله : ( وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى ) يريد به أن بقاء ذلك الغني على صفة الانحراف والبعد عن الله ، ليس بالأمر المهم عند ذلك العابس ، لأنه إنما يهتم بماله ، ولا يهتم بأن يخرجه من الضلال إلى الهدى . فضلال الغني لا يرتب على ذلك العابس أية مسؤولية ، ولا يحركه لأي عمل لإخراجه منها . وهذا بالذات هو ما ذكرته الآيات الكريمة التي تقول : ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ، وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى ) . . ثم ذكرت الآيات أن ذلك الشخص لا يهتم لغير الغني ، ولا يدير له بالاً ، بل هو يتلهى عنه . . بل إنه حتى لو أقبل ذلك الفقير عليه بكل جوارحه ، وجاء يسعى إليه ، فإنه لا يهتم به ، ولا يلتفت إليه ، رغم أن ذلك الفقير مؤمن بالله ، ويخشاه ، ويلتزم حدوده : وليس مثل أولئك الأغنياء الذين لا يزكُّون أنفسهم ، ولا يخافون الله . . ( وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى ، وَهُوَ يَخْشَى ، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) . . ب - إنه قد ظهر مما تقدم : أن في الآيات إشعاراً بأن ذلك الذي ذكرناه هو من عادة ذلك العابس ، أي أن من عادته التصدي للأغنياء ، والتلهي عن الفقراء . . ومن الواضح : أن ذلك لم يكن من عادة رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] أبداً . . ج - إن الله سبحانه لم يقل لنبيه لقد عبست وتوليت ، بل تحدث عن العابس بصيغة الغائب ؛ فلماذا الإصرار إذن على اتهام النبي [ صلى الله عليه وآله ] بهذا الأمر ؟ ! د - إن قوله تعالى : ( وَمَا عَلَيْكَ أَلاَ يَزَّكَّى ) لا يناسب رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] ، بأي معنى فسره المفسرون . . أي سواء فُسِّر على النحو الذي ذكرناه آنفاً ، أو فُسِّر بما هو معروف ومشهور في كتب التفسير . . ه‌ - لقد جاء التعبير في الآيات الكريمة بكلمة ( تَلَهَّى ) واللهو مذموم في القرآن الكريم في مختلف المواضع ، ومعناه في هذا المورد بالذات أولى بالذم ، إذ أن معناه هو : أن النبي [ صلى الله عليه وآله ] كان يتطلب اللهو ويسعى إليه . . مع أن الروايات التي تدّعي نزول الآيات في رسول الله لا تعترف بهذا الأمر ، بل هي تتحاشاه ، كما أن الذين أخذوا بها ، وزعموا أن الآيات تدل على ذلك لم يجرؤوا على الاعتراف بهذه الحقيقة ، بل زعموا أن عبوسه إنما كان لأجل انشغاله بما هو - بنظره - أهم . مع أن الله سبحانه يقول : إن هذا العابس كان يتلهّى عن ذلك الفقير . . أي يبحث عن اللهو والعبث ، ولم يكن النبي [ صلى الله عليه وآله ] ليفعل ذلك ، ونسبة ذلك إليه [ صلى الله عليه وآله ] إساءة ظاهرة ، ومرفوضة من الجميع . و - ويكذِب كلامهم أيضاً ، أن الله تعالى يلوم ذلك العابس ، ويذمه ، فلو كان عبوس النبي [ صلى الله عليه وآله ] لأجل أنه كان يرجو إسلام ذلك الغني ؛ ليتقوى به الدين كما يدّعون لم يكن معنى لهذا اللوم والتأنيب ، بل كان اللازم هو المدح والإطراء . وليلاحظ أيضاً : أن ثمة إمعاناً في إظهار المقت لما جرى ، وذلك من خلال التعبير بكلمة عبس ، التي لم ترد في القرآن إلا وصفاً في مقام الذم والإدانة ، والمقت والإهانة ، قال تعالى : ( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ) . . خامساً : لقد نزل قوله تعالى : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [1] قبل نزول سورة عبس بسنتين ، فكيف خالف النبي [ صلى الله عليه وآله ] هذا الأمر الصريح . كما يزعم هؤلاء الناس ؟ ! وأخيراً ، نعود فنقول : لنفترض : أن ما ذكرناه ليس هو الأظهر والأقوى في معنى الآيات . فإننا نقول : إنه ولا شك احتمال قوي يسقط به ما ذكروه عن صلاحية الاعتماد عليه . بل إن ما ذكروه يسقط بسبب قيام الأدلة القاطعة الدالة على عصمة النبي [ صلى الله عليه وآله ] عن صدور ما يوجب اللوم والإدانة ، وذلك يمنع حتى من توهم كون المقصود بالآيات هو النبي المعصوم [ صلى الله عليه وآله ] . . وبعد سقوط ذاك بذلك ، يصبح هذا المعنى الذي ذكرناه هو المتعين في معنى الآيات الكريمة . . بل إننا حتى لو لم نستطع أن نقدم في معنى الآيات ، ولو احتمالاً واحداً ، فإن عقولنا القاصرة تبقى هي المتهمة بلا ريب . ويبقى رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] هو الأطهر والأزكى والأصفى . لأن الأدلة القاطعة قد دلت على ذلك . . والحمد لله ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين . .

1