- العراق
منذ سنتين

الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء

الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء " مأثورة نعتقد بمؤداها ونلتزم به ، إلا أنه كثيراً ما يثار من قبل المخالفين هذا التساؤل : ما هو الدليل على أن الثورة الحسينية قد كان لها أثر في مسيرة الإسلام التكاملية ؟ ومن هنا ينقدح السؤال التالي : ما هي الآليات وما هو المنهج العلمي الذي نستطيع من خلاله أن نثبت للطرف الآخر أثر النهضة المباركة في مسيرة الإسلام ؟


إن الآليات والمناهج المثبتة لذلك هي نفس الآليات والمناهج التي تستخدم لإثبات أو فقل للكشف عن أية حقيقة علمية ، أو تاريخية أو إيمانية أو غير ذلك . وإن الرجوع إلى النصوص الواردة عن المعصومين [ عليهم السلام ] ، وعن الذين عاشوا في تلك الحقبة أيضاً ، ثم الرجوع إلى تاريخ تلك الحقبة ، وإلى كلمات صاحب النهضة الجهادية نفسه ، وهو الإمام الحسين [ عليه السلام ] ، وهو الإمام المعصوم بنص آية التطهير ، وبغيرها من الأدلة القاطعة - إن الرجوع إلى ذلك يعتبر أقرب طريق إلى معرفة الحالة التي كانت قائمة ، ثم معرفة واقع الحركة الجهادية للإمام الحسين [ عليه السلام ] ، وأهدافها ، وآثارها ونتائجها . . ونحن نوضح الإجابة على السؤال في ضمن ما يلي من نقاط : 1 - قد ذكر الإمام علي [ عليه السلام ] : أنه لم يكن الذي كان منافسة منّا في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنرد المعالم من دينك . . ونظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطلة من حدودك . . وهذا معناه أن معالم الدين كانت قد طمست وذهبت ، حتى في زمن أمير المؤمنين [ عليه السلام ] . . 2 - وعلي [ عليه السلام ] هو القائل : " لم يبق من الإسلام إلا اسمه ، ومن الدين إلا رسمه " . . 3 - روى مالك بن أنس ، إمام المالكية ، عن عمه أبي سهيل بن مالك ، عن أبيه ، أنه قال : " ما أعرف شيئاً مما أدركت الناس عليه إلا النداء بالصلاة " [1] . قال الزرقاني ، والباجي : " يريد الصحابة ، وأن الأذان باق على ما كان عليه ، ولم يدخله تغيير ، ولا تبديل ، بخلاف الصلاة ، فقد أخرت عن أوقاتها ، وسائر الأفعال دخلها التغيير الخ . . " [2] . 4 - أخرج الشافعي من طريق وهب بن كيسان ، قال : رأيت ابن الزبير يبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، ثم قال : " كل سنن رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] قد غيرت ، حتى الصلاة " [1] . 5 - يقول الزهري : دخلنا على أنس بن مالك بدمشق ، وهو وحده يبكي ، قلت : ما يبكيك ؟ ! قال : " لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة ، وقد ضيعت " [2] . 6 - وقال الحسن البصري : " لو خرج عليكم أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] ما عرفوا منكم إلا قبلتكم " [3] . ونقول : حتى القبلة قد غيرت ، وجعلوها إلى بيت المقدس ، حيث الصخرة قبلة اليهود ، كما أوضحناه في كتاب " الصحيح من سيرة النبي الأعظم [ صلى الله عليه وآله ] ج 1 " . 7 - وقال أبو الدرداء : " والله لا أعرف فيهم من أمر محمد [ صلى الله عليه وآله ] شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً " [1] . 8 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أنه قال : " لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خلوا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية ، لأتيا الناس اليوم ، ولا يعرفان شيئاً مما كانا عليه " [2] . وعن الإمام الصادق [ عليه السلام ] - وقد ذكرت هذه الأهواء عنده فقال : " لا والله ، ما هم على شيءٍ مما جاء به رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] إلا استقبال الكعبة فقط " [3] . 9 - وحينما صلى عمران بن حصين خلف علي [ عليه السلام ] أخذ بيد مطرف بن عبد الله ، وقال : " لقد صلى صلاة محمد ، ولقد ذكرني صلاة محمد [ صلى الله عليه وآله ] " . وكذلك قال أبو موسى حينما صلى خلف علي [ عليه السلام ] [4] . 10 - وأخيراً ، فقد ذكروا : أن الناس والهاشميين في زمن السجاد [ عليه السلام ] إلى أن مضت سبع سنين من إمامة الباقر [ عليه السلام ] " كانوا لا يعرفون كيف يصلون ، ولا كيف يحجون " [1] . فإذا كانت الصلاة التي هي عمود الدين ، والركن الأعظم في الإسلام ، ويؤديها كل مسلم خمس مرات يومياً ، كان لا يعرف حدودها وأحكامها أقرب الناس إلى مهبط الوحي والتنزيل ، الذين يفترض فيهم أن يكونوا أعرف من كل أحد بالشريعة وأحكام الدين ! ، فكيف تكون حالة غيرهم من أبناء الأمة ، الذين هم أبعد عن مصدر العلم والمعرفة ، وما هو مدى اطلاعهم على أحكام الشريعة يا ترى ؟ ! . وإذا كانت أوضح الواضحات قد أصبحت مجهولة إلى هذا الحد ، فما هو مدى معرفة الناس ، وبالأخص البعيدين منهم عن مصدر العلم والمعرفة ، بالأحكام الأخرى ، التي يقل الابتلاء بها ، والتعرض لها ، والسؤال عنها ؟ ! تأثير الصلح الحسني في الجهاد الحسيني : لقد جاهد الإمام علي أمير المؤمنين [ عليه السلام ] الناكثين ، والمارقين والقاسطين . . ثم كان ما يسمى ب‌ " صلح " أو عقد وعهد الإمام الحسن [ عليه السلام ] ، الذي ألجأته الظروف إلى عقده مع معاوية . . واللافت : أن هذا العهد قد حقق إنجازا عظيما على صعيد تأكيد الحق ، وترسيخ الشرعية فيما يرتبط بإمامة أهل البيت [ عليهم السلام ] ، وسلب ذلك عن الطرف الآخر ، وانتزاع اعتراف خطي منه بأنه باغ ومتغلب ، حين أكدت بنوده على : 1 - إن الحق لا بد أن يعود للإمام الحسن [ عليه السلام ] ، ثم من بعده للإمام الحسين [ عليه السلام ] . 2 - أن ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده . 3 - أن لا يقيم الإمام الحسن [ عليه السلام ] شهادة عند معاوية . 4 - أن لا يسميه أمير المؤمنين . . 5 - أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه . . 6 - أن لا يذكر علياً إلا بخير . . 7 - أن يكون أصحاب علي وشيعته آمنين حيث كانوا من أرض الله . . 8 - أن يكون الناس جميعاً آمنين حيث كانوا من أرض الله . . وثمة شروط أخرى ذكرها المؤرخون أيضاً . . وقد كان معاوية يعلم أن نقض أي بند من هذه البنود سيحرمه من صفة الشرعية ، وسيظهره خائناً ، وفقا لما تعهد به من أهلية الاستمرار في ذلك الموقع . . وقد أعطى معاوية هذه الشروط ، وهو يرى نفسه أنه الأقوى ، وأنه هو المنتصر ، وخزائن الأموال بيده ، والجيوش تحت إمرته ، والناس رهن إشارته . . ومعه ومن ورائه الأخطبوط الأموي المنتشر في طول البلاد وعرضها ، الذي ما فتئ ولم يزل يعمل على هدم ما يبنيه علي وولده [ عليهم السلام ] ، وعلى تثبيت أمر معاوية وترسيخه . . وفي مقابل ذلك فإن جيش الإمام الحسن [ عليه السلام ] كان مفكّك العرى ، متفرِّق الأهواء ، يضم حتى فلول الخوارج ، الموتورين على يد أبيه أمير المؤمنين [ عليه السلام ] . . وقد ظهرت في هذا الجيش الخيانات الكبرى حتى من أقرب الناس إلى الإمام الحسن [ عليه السلام ] نسباً ، وهو عبيد الله بن العباس الذي ذبح له عمال وأنصار معاوية طفلين ، ولكن ذلك لم يمنعه من بيع دينه لمعاوية بمليون درهم فقط ، حيث نسي ولديه ، بعد أن نسي ربه ، وخان إمامه . . واللافت : أن بنود هذا العهد لتبطل أمر معاوية حتى قبل أن يبدأ ، إذ أننا لو أخذنا بنداً واحداً من هذه البنود ، وهو البند الذي يشترط أن لا يقيم الإمام الحسن [ عليه السلام ] شهادة عند معاوية ، فإن هذا البند الذي لا يخطر على بال أحد أن يذكر في صلح بهذه الخطورة ، تحقن به دماء ألوف من المسلمين ، ولا يخطر على بال أحد أن يكون هناك حديث عن إقامة شهادة عند قاض ، قد لا يحتاج إليها على مدى عمر الإنسان كله ، ولو لمرة واحدة ، فضلاً عن أن يسجل ذلك في هذا الصلح الخطير . . نعم إننا لو لاحظنا ذلك لرأينا : أن معاوية يقبل بأن لا يقيم الإمام الحسن [ عليه السلام ] عنده حتى الشهادة ، مع أنه يعلم : أن الشهادة قد لا تزيد على حفظ حق إنسان مّا في أرض أو فرس ، أو الاقتصاص للطمة أو جرح . وذلك الشرط إنما يعني إبطال أمر معاوية من أساسه ، حتى قبل أن يتصدى ويمارس أمور الحكم ، لأن معنى هذا الشرط أن معاوية : إما غير قادر على معرفة أحكام الله ، ولو في مثل هذه الأمور الجزئية والبسيطة ، فكيف يتصدى إذن لموقع خلافة الرسول [ صلى الله عليه وآله ] ، الذي يعني لزوم أداء مهماته [ صلى الله عليه وآله ] في تعليم الدين ، وبيان شرائعه وأحكامه ، وفي التصدي للشبهات ، وحل المعضلات ؟ وإما أن معاوية كان يعرف كيف يقضي بين الناس - لكنه لم يكن مأموناً على القضاء بالحق . فمن لا يؤمن على القضاء في فرس ، أو دار ، أو لطمة أو نحو ذلك ، فهل يؤمن على دماء الأمة ، وأعراضها وأموالها ، وعلى دينها ومستقبلها ؟ وإذا كان معاوية لا يستطيع أو لا يؤتمن على القضاء بهذا المستوى فكيف يفي بتعهداته بالعمل بالكتاب والسنة ؟ وإذا كان هو المؤسس والأساس لدولة بني أمية ، فقد اتضح أن هذا الأساس لا يملك ما يؤهله لهذا الموقع باعتراف منه ، وبتوقيع عهد وعقد مع من ينكر له أي حق فيما يدعيه . . ثم إنه يسجل ذلك ويوقع عليه في مقام لا بد له فيه من وضع النقاط على الحروف بكل دقة وحرص . . وحيث لا مجال للتغاضي ، ولا للغفلة ولا للتسامح . . فإذا كان هذا البند يعطينا ذلك كله فما بالك بسائر البنود ؟ ! مثل أن لا يسميه الإمام الحسن [ عليه السلام ] بأمير المؤمنين ، فمن كان رأس أهل الإيمان ، لا يرضاه أميراً للمؤمنين ، فهل يرضاه أميراً له ؟ ! . كما أنه هو بنفسه يسجل : أن ليس لأحد من ولده ، ولا من قومه أي حق في هذا الأمر . . بل الأمر يرجع إلى الحسن ، ثم للحسين [ عليهما السلام ] . وبعدما تقدم يتضح : أن إمامة الإمامين الحسن والحسين [ عليهما السلام ] تصبح مفروضة ولازمة ، بمقتضى جميع الأعراف ، وعند سائر الأمم . . فالحسنان [ عليهما السلام ] بنظر المسلم الملتزم إمامان : قاما أو قعدا . بمقتضى نص رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] . . والحسن [ عليه السلام ] هو وصي أبيه [ سلام الله عليه ] ، كما سجله لنا التاريخ أيضاً . راجع " الحياة السياسية للإمام الحسن [ عليه السلام ] " وذلك يكفي حجة على من يرى لزوم العهد من الخليفة السابق للاحق . . أضف إلى ما تقدم : أن هذا العقد الذي تم بين الإمام الحسن [ عليه السلام ] ومعاوية لا بد من الوفاء به حتى عند أهل الجاهلية . بل إن كل المجتمعات الإنسانية حتى التي لا تدين بدين أصلاً تحتم الالتزام به ، ولا تجيز نقضه . . وذلك لأن المجتمعات الإنسانية تعتبر الوفاء بالالتزامات والعهود والعقود أساساً لبناء حياتهم في مختلف المجالات ، حتى السياسية والاجتماعية منها ، وعلى وفق هذه الرؤية ومن هذا المنطلق تنظم علاقاتها بالأمم والشعوب ، والجماعات . . ولا تجد أحدا يجيز لأحد الطرفين نقض العهد والعقد إلا بالتراضي والتوافق ، والاتفاق مع سائر الأطراف . < فهرس الموضوعات > يزيد هو الباغي : < / فهرس الموضوعات > يزيد هو الباغي : وبذلك يتضح لكل أحد وفق هذا المنطق الشرعي ، والعقلي ، والعقلاني ، والإنساني ، أن يزيد بن معاوية هو الباغي على الحسين [ عليه السلام ] ، وهو الخارج عليه ، حتى لو أعلن أبوه معاوية نقضه للعهد . فإن العهد لا ينتقض بذلك . . بل إن العهد نفسه قد سلب معاوية حق نقض العهد لو توهم جاهل أن له أي حق في ذلك . وذلك حين صرح بقوله : ولا يحق لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده . . < فهرس الموضوعات > فترة تأسيس الدين : < / فهرس الموضوعات > فترة تأسيس الدين : ومن جهة أخرى نقول : لقد كانت الفترة التي تلت وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] . . هي فترة تأسيس الدين ، وترسيخ دعائمه ، وتقرير أحكامه وشرائعه ، وسياساته وقيمه . . فكل ما يقال ويمارس في هذه الفترة سوف يصبح جزءاً من الدين ، وستتداوله الأجيال ، حقا كان أو باطلاً . . وحتى لا يبقى الباطل وحده هو سيد الموقف ، والمطروح للتداول ، كان لا بد لأمير المؤمنين [ عليه السلام ] والخلص من أصحابه من أن يشاركوا في هذا التأسيس ، وأن يطرحوا للناس الحق الذي يسعى الآخرون ، إما لتجاهله والابتعاد عنه ، أو للعبث والتلاعب به . . ولذلك دخل عمار ، وسلمان ، وحذيفة ، ومالك الأشتر ، وأضرابهم في مناصب الدولة ، فتولى عمار الكوفة ، وسلمان المدائن ، وحذيفة كان قائداً للجيوش الفاتحة ، في فتح نهاوند المعروف بفتح الفتوح ، وكان هو السبب في زوال ملك الأكاسرة . وشارك الأشتر في الحروب معهم ، وشترت عينه فيها فقيل له الأشتر - ولا شك في أن ذلك كان برضى من أمير المؤمنين [ عليه السلام ] ، أو بتوجيه منه . . وقد كان [ عليه السلام ] يسعى لحفظ التوازن والهدوء في العلاقة مع الخلفاء . وكان يحضر مجالسهم ، ويشارك في بيان مسائل الدين ، وحل معضلات الأمور ، حتى لقد كثر قول عمر : لولا علي لهلك عمر . ولكن الأمر كان أعظم من ذلك أيضاً . . فقد كان الخلفاء يدّعون : أن لهم ما للرسول [ صلى الله عليه وآله ] ، وأنهم يقومون بما يقوم به ، فلهم القضاء ، والحكم ، وقيادة الجيوش ، وتعليم الناس أحكام دينهم ، وتربيتهم ، وسياستهم وتدبير أمورهم . تماماً كما كان ذلك لرسول الله [ صلى الله عليه وآله ] . بل لقد زعموا أن لهم حق التشريع في الدين ، والفتوى بآرائهم فيه . وقد مارسوا ذلك بالفعل ، ومنعوا الناس من رواية حديث رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] ، ومن كتابته وتدوينه ، وحبسوا كبار الصحابة بالمدينة ، واستعاضوا عن سنة الرسول [ صلى الله عليه وآله ] ، وأقواله وسيره ، بثقافات أهل الكتاب ، وملأوا عقول الناس بها ، ومنعوا الناس من السؤال عن معاني القرآن ، ومن كتابة تفسيره . ثم إنهم قد عملوا على أن يضفوا على أنفسهم هالة من القداسة ، لا مجال لإختراقها ، فكان من آثار هذه القداسة أن أصبحت سياسات الخلفاء هذه دينا يدان به وشرعاً يتبع . وكانت النتيجة هي ما ذكرنا من أنه " لم يبق من الدين إلا رسمه ، ومن الإسلام إلا اسمه " . . فكان لا بد من إسقاط هذه الهالة ، وإسقاط قناع الزيف عن وجوه أولئك المجرمين . وقد قام أمير المؤمنين [ عليه السلام ] بما كان يمكن القيام به في هذا السبيل ، فأعاد التأكيد على الخطوط العامة ، وأصحر للناس بالعقائد الحقة ، وبين سياسات الإسلام تجاه كل هذا الواقع الذي يواجهه . . وحارب الناكثين والمارقين والقاسطين . . وجاء الإمام الحسن [ عليه السلام ] ليخطو الخطوات التي أتيح له أن يخطوها أيضاً في نفس هذا الاتجاه ، فأنجز الصلح الذي تحدثنا عنه آنفاً . . ولم يبق إلا أن يحدث الزلزال الذي فرض على الأمة أن تراجع حساباتها ، بعد أن سقط القناع المزيّف الذي حاول الغاصبون والطامعون أن يستروا به حقيقتهم . . وأفاق الناس على واقعهم المرير ، ليجدوا أن ثقافة أهل الكتاب هي التي تهيمن عليهم ، بعد أن سلبت منهم معارف الإسلام ، وليجدوا أنهم يقدسون أشد الناس انحرافاً عن الله . أو أعظمهم طغياناً عليه . وليجدوا أن الذين يقدسونهم ليسوا هم الأمناء على وحي الله سبحانه وتعالى ، ولا هم العالمون بشرايعه سبحانه . . وليجدوا . . وليجدوا . . إلى ما لا نهاية . . وقد جاءت حركة الإمام الحسين [ عليه السلام ] الجهادية بصورة لا تقبل التأويل ، ولا مجال فيها لإثارة أية شبهة أو لبس ، فأسقطت هالة القداسة ، وفرضت على الناس أن يعيدوا النظر في كل شيء ، وأن يبحثوا عن الإسلام وأهله ، وأن يميزوا بين مصادر المعرفة فيه من جديد . . وأصبح هذا الأمر هو الوظيفة المفروضة على كل إنسان إلى يوم القيامة . . لماذا الحسين [ عليه السلام ] ولماذا على يزيد بالذات : هذا ، ولقد كان الناس يعرفون الكثير الكثير مما أخبر به النبي [ صلى الله عليه وآله ] عن مصير أبي عبد الله الحسين [ عليه السلام ] ، وكانوا قد عرفوا أيضاً الحسين [ عليه السلام ] ، وأخاه وأباه [ سلام الله عليهم أجمعين ] . . عرفوهم في ممارساتهم ، وفي توجهاتهم ، وفي كل حالاتهم . وعرفوا في مقابل ذلك : رموز الشجرة الملعونة وأهدافها ، وسيرتها ، ووقفوا على حالاتها . وكذلك على حالات وسير وأخلاق خصوم أهل البيت [ عليهم السلام ] بصورة عامة ، الذين يريدون أن يكونوا ملوكاً جبارين . . والناس أيضاً . . قد عرفوا بنود صلح الإمام الحسن [ عليه السلام ] مع معاوية . . وقرأوا على صفحات الواقع والتجربة ، والمعايشة القريبة ، خصائص الشخصية العلوية ، والحسنية ، والحسينية . وهم أهل بيت النبوة [ سلام الله عليهم ] . . ثم إن الناس قد قرأوا أيضاً على صفحات الواقع والتجربة ، والمعايشة القريبة خصائص خصوم أهل البيت [ عليهم السلام ] ، من أمثال معاوية ويزيد وغيرهما . . ثم إن الناس كذلك . . قد رأوا بأم أعينهم كيف أن هذا الباغي والمعتدي ، والمدعي لمقام خلافة الرسول [ صلى الله عليه وآله ] لا يتحمل حتى أن يرفض إنسان واحد الانقياد له مع أنه هو المعتدي على حق هذا الإنسان ، ومع أن أباه بالذات قد سجل أن لا حق له ، ولا لأحد من ولده في هذا الأمر ، وأنه الحسين [ عليه السلام ] بالذات هو صاحب الحق . . نعم . . إن يزيد لم يتحمل حتى أن يرفض هذا الإنسان بالذات الانقياد له . فراح يلاحقه بثلاثين ألف مقاتل إلى قلب الصحراء ، ليقتله مع أهل بيته ، وثلة يسيرة جداً من أصحابه ، ويسبي نساءه وأطفاله . رغم أنه من أهل بيت النبوة ، وسيد شباب أهل الجنة الحسين [ عليه السلام ] بالذات ، فكيف - يا ترى - سيتعامل مع سائر الناس ، لو بدرت منهم أية بادرة مهما كانت تافهة وصغيرة ؟ ! . المعايير هي الأقوى والأبقى في الأمة : ثم إن الإمام الحسين [ عليه السلام ] قد أعطى للمعايير الفطرية والعقلية ، والإنسانية قوتها وفاعليتها ، حين قال للناس في بداية حركته الجهادية : " إنا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم . ويزيد رجل شارب الخمور ، وقاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله " [1] . ولتوضيح هذه الكلمة الشريفة نقول : إنه لا ريب في أن قاتل النفس المحترمة لا يمكن أن يكون هو الأمين على دماء الناس ، فهل يؤمن على أعراضهم وأموالهم ؟ ! . ثم على مصيرهم ومستقبلهم ، ويصبح هو الحاكم المتصرف في ذلك كله ؟ ! . وهو لا يملك - بسبب معاقرته للخمر - في أوقات كثيرة ، حتى التوازن العقلي ، الذي يحمي قراره من الضعف والرعونة ، ومن أن يكون قراراً مدمراً للأمة ، أو ملحقاً بها وبمستقبلها أضراراً فادحة على أقل تقدير . . هذا فضلاً عن أن شارب الخمور ، لا يمكن أن يحفظ الأسرار الخطيرة التي منها ما يلامس مستقبل الأمة وحياتها ، حيث لا يجد الذي يتعاطى المسكرات أي وازع ورادع ، من عقل أو دين عن البوح بها لغير أهلها . . وقد قال : " قاتل ، وشارب " الدال على أن ذلك من سجيته ، ولم يقل : قتل وشرب ، لأن ذلك ربما يفسح المجال لادعاء التوبة والصلاح في فترات لاحقة . . كما أنه قد صرح باحترام النفس المقتولة . . كي لا يفسح المجال أيضاً لادعاء أنه انما قتلها بحق . ثم إنه إذا كان معلناً بالفسق أيضاً ، ولا يخجل بفسقه وفجوره ، فإنه لا يعتبر المنكر منكراً ، ليتصدى لدفعه وإزالته من الواقع العام ، كما أن من يكون كذلك لا يتوقع منه أن يربي الأمة على مكارم الأخلاق . . ويغرس فيها خصال الخير والصلاح ويقودها إلى مواقع العزة والكرامة والسؤدد . هذا . . ويلاحظ هنا أيضاً : أنه [ عليه السلام ] قد اقتصر على هذه الأمور ، شرب الخمور ، وقتل النفوس ، والإعلان بالفسق ، ولم يتحدث عن أنه يكذب ، أو يغتاب ، أو يسرق . . أو يرتكب جريمة الزنى وغير ذلك من موبقات . . ولعل ذلك لأن هذه الأمور التي ذكرها هي الأكثر حساسية ، فيما يرتبط بالموقع الذي يسعى إليه ، ويجعل نفسه فيه ، وهو الأكثر ارتباطاً بالقضايا المصيرية للأمة . . وذلك ظاهر ، لا يحتاج إلى مزيد بيان . وفي الطرف المقابل نجد : أن الحسين [ عليه السلام ] هو من أهل بيت النبوة ، على حد هذا التعبير المنقول عنه [ عليه السلام ] . واختيار كلمة النبوة قد جاء ليشير إلى الوحي الإلهي ، الذي هو مصدر المعارف والعلوم الغيبية ، ولم يقل : " أهل بيت النبي " حتى لا يتوهم أن المراد الإشارة إلى الارتباط به كشخص ، لأجل نسب ، أو سبب عادي قد يناله أناس آخرون . فإذا كان يزيد أو غير يزيد يدّعي أنه خليفة لرسول الله [ صلى الله عليه وآله ] ، وله صلاحياته ، فمن أين يمكنه أن يثبت لنفسه هذا المقام إلا من طريق الوحي والنبوة ؟ وأهل بيت النبوة [ عليهم السلام ] ينكرون عليه ذلك . . والحسين [ عليه السلام ] هو المصدر والمرجع للناس كلهم ، وهو الذي لا بد أن يؤخذ منه التشريع والأحكام الإلهية . . لأنه معدن الرسالة . . أي الأصل والمنشأ الذي تؤخذ منه سنن وأحكام الرسالة ومضامينها خالصة من الأغيار , وصافية من الشوائب ، فلا يستطيع يزيد ولا غير يزيد أن يرد عليه ما يخبر به من أحكام الله سبحانه وتعالى وشرائعه ، لأنه أعرف الناس بما يوافق الشرع أو يخالفه . . والحسين [ عليه السلام ] أيضاً هو من نشأ في بيت الطهارة ، والقداسة ، والإيمان ، البالغ أعلى الدرجات في ذلك ، حتى صار بيته مختلف الملائكة . . ولا يستطيع أحد أن يدّعي لنفسه أو لبيته هذا المستوى من الطهارة أبداً ، فهل يستطيع أن يدّعي ذلك يزيد الذي نشأ في بني كلب ، حيث لا دين ، ولا هدى ، بل مفاهيم الجاهلية وأحكامها ، هي المهيمنة ، والطاغية . والأهواء والشهوات والمآثم هي السلوك العام ، وهي القائد والسائق في مختلف الحالات ، وفي شتى المجالات ؟ ! . . بنا فتح الله وبنا يختم : ويستمر الإمام الحسين [ عليه السلام ] في كلماته الهادية تلك فيؤكد على أن الله سبحانه قد فتح أبواب الهداية والصلاح والإصلاح للأمة بالحسين ، وبأهل بيت النبوة [ عليهم السلام ] . وسيختم بهم [ عليهم السلام ] على يد ولي الله الأعظم الحجة القائم المهدي [ صلوات الله وسلامه عليه ] ، فما معنى أن ينازع يزيد ، أو غير يزيد هؤلاء الصفوة الذين يمثلون خط الهداية الإلهية للبشرية ؟ ! . وإذا كان يزيد وغيره ممن سبقه أو لحقه من غير أهل البيت يستطيع أن يدّعي للناس أنهم ليسوا أولى بالنبي [ صلى الله عليه وآله ] منه ، ولا أعرف بشرائعه ، ولا أليق بمقامه ، ولا أجمع للصفات والمزايا المطلوبة في من يفترض فيه أن يأخذ موقع الرسول [ صلى الله عليه وآله ] ، ويضطلع بمهماته ، فقد يجد من يصدقه في ذلك . ولكن هل يستطيع أن يدّعي هؤلاء ذلك في مقابل الحسين [ عليه السلام ] ، ولا سيما بملاحظة كل هذا الذي ذكرناه ، وبملاحظة : ما ذكرناه من دلالات صلح الإمام الحسن [ عليه السلام ] ؟ . ولا بد لنا من التأمل في قوله [ عليه السلام ] : " ومثلي لا يبايع مثله " فإنه عليه لم يقل : إنني أعلن الحرب على يزيد ، أو إنني أريد محاربة النظام وإسقاطه . . بل هو قد اكتفى بالحديث عن رفض بيعته ، لا من منطلق حسابات شخصية ، بل لأن القاعدة الصحيحة هي التي فرضت عليه - كما فرضت على جميع من هم مثله - ذلك ، وهي قاعدة منسجمة مع جميع المعايير المتصورة . فملاحظة ما قرره الله ورسوله . . وأكدته النصوص الصريحة - لا تسمح للحسين [ عليه السلام ] بمبايعة يزيد . . ومع غض النظر عن ذلك ، فإن ملاحظة حال يزيد وحال الحسين [ عليها السلام ] وميزاتها وخصائصهما ، وما يطلب من الحاكم الذي يكون في موقع خلافة النبي [ صلى الله عليه وآله ] . . تفرض على الحسين [ عليه السلام ] وعلى أمثاله عدم البيعة ليزيد أيضاً . . وهو أمر تحكم به الفطرة وتقضي به العقول ، ويفرضه الفكر الصحيح والسليم ، بغض النظر حتى عن الالتزام الديني . والانتماء ، مهما كان نوعه . . أضف إلى ما تقدم : أن أباه معاوية قد التزم رسمياً وبكل صراحة ووضوح ، وذلك في عقد وعهد قطعه على نفسه ، مختاراً ، وحيث هو في موقع القوة ، - التزم - بأن لا حق ليزيد من بعده ، بل الحق للحسن ، ثم لأخيه الحسين [ عليهما السلام ] من بعده . . ويزيد الأمر وضوحاً فيما نرمي إلى بيان كلمته [ عليه السلام ] التي سجلها في رسالة منه إلى أهل الكوفة ، حيث قال فيها : " إني لم أخرج أشراً ، ولا بطراً ، ولا ظالماً ، ولا مفسداً . وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي ، وأبي علي بن أبي طالب [ عليه السلام ] فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحق ، ومن رد علي هذا أصبر ، حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق . والله خير الحاكمين " [1] . فهو [ عليه السلام ] لم يعلن عزمه على حرب شخص . . كيزيد مثلاً . . كما أنه لم يجعل اسقاط الحكم والنظام القائم هو الهدف والغاية من حركته . . بل أعلن : أنه يريد الإصلاح في أمة جده . . والإصلاح أمر مطلوب لدى العقلاء ، ولا بد أن يسعى إليه حتى أركان النظام أنفسهم ، إن كانوا منسجمين مع أحكام العقل والفطرة والدين ، ويتحملون المسؤولية الشرعية والإنسانية . . أضف إلى ذلك : أنه [ عليه السلام ] لم يقل : أريد إصلاح الأمة ، بل هو يريد الإصلاح في الأمة . . وذلك من شأنه أن يبعث الطمأنينة في نفوس الناس . . حيث إنه يبعد عن مخيلتهم شبح التحدي لهم كأشخاص وجماعات ، إذ يفسح المجال لتصور أن المستهدف هو في مواقع أخرى . . لا بد لهم من المشاركة ، والتعاون في إصلاحهم . دون أن يشعروا هم أنفسهم أنهم مستهدفون في ذلك . . هذا . . وقد تضمنت هذه الكلمة المباركة حديثاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو ما لا يمكن لأحد أن يناقش في لزومه ، بل الجميع يرى نفسه ملزماً بالمشاركة في انجازه كتكليف شرعي وإنساني . . ثم تحدث عن قبول الناس له [ عليه السلام ] ليس لأجل علاقات شخصية أو مصلحية ، أو عصبية عشائرية ، أو غير ذلك ، وإنما انطلاقاً من الحق ، وانسجاماً معه ، فقال : " فمن قبلني بقبول الحق " وقبول الحق عمل صالح يقبله الله ويحبه . . ولا يعود نفعه إلى الإمام الحسين [ عليه السلام ] كشخص ، ولذلك قال : " فالله أولى بالحق ، ومن رد علي هذا أصبر " . فلم يقل : أحارب من ردّ عليّ هذا وأعاديه ، بل هو قد أرجع الحكم في ذلك إلى الله سبحانه وتعالى . . ونشير أخيراً إلى أن هذه الكلمة المباركة قد تضمنت أموراً خمسة ، تدور عليها أهداف الذين يتعرضون للحكام وللحكومات ، وهي كلمة عظيمة وهامة يحتاج بحثها إلى جهد فكري عميق . . وحسبنا هذا الذي ذكرناه ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين .