السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
اختلفت الاحتمالات في سكنى الإمام الصادق (عليه السلام) الكوفة، فالبعض احتمل أنّه (عليه السلام) سكن الكوفة مدّة سنتين، وذهب بعض إلى أنّه (عليه السلام) زار العراق مدّة ولم يحدّدها، بينما ذهب آخرون أنّه (عليه السلام) لم يسكن العراق أصلاً بل تردّد عليه ومن المواطن التي زارها هي الكوفة وقد زارها أكثر من مرّة وحدّث بها.
فقد ذكر القول الأول بعض المعاصرين ومنهم الشيخ السبحاني في (دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية) قال: (وكان قد أعان على ازدهار مدرسة الكوفة مغادرة الإمام الصادق (عليه السلام) المدينة المنوّرة إلى الكوفة أيام أبي العباس السفّاح حيث بقي فيها مدّة سنتين) (1).
ومن الذين اختاروا القول الثاني هو الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل)، قال: (هو ذو علم غزير في الدين وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات، وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين إليه، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل العراق وأقام بها مدّة) (2).
ومن أصحاب القول الثالث هو الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (الإمام الصادق حياته وعصره- آراؤه وفقهه)، قال: (ولكنّه مع ذلك زار العراق عدّة مرّات، وكان ذلك بطلب العباسيين له، إمّا تكريماً وتقريباً، وإمّا تظنناً واتهاما) (3).
وعلى أي حال فهناك قرائن توحي أنّه (عليه السلام) مكث في الحيرة دون أن تحدّد المدّة ومنها:
1- قول الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّي لما كنت بالحيرة عند أبي العباس كنت آتي قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) ليلاً وهو بناحية نجف الحيرة إلى جانب غري النعمان، فأصلي عنده صلاة الليل وانصرف قبل الفجر) (4).
وهو يكشف عن أنّه (عليه السلام) كان قد مكث مدّة بالحيرة يأتي قبر أميرالمؤمنين (عليه السلام)، ولكن لا يُعلم مقدار هذه المدّة.
وقوله (عليه السلام): (آتي قبر أميرالمؤمنين (عليه السلام)) يشير إلى أنّ تردّده على القبر كان أكثر من مرّة ما يعني أنّه لم يكن زار الحيرة عابراً.
2- قول الحسن بن علي الوشّاء لأحمد بن محمد بن عيسى: (فإنّي أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كل يقول: حدّثني جعفر بن محمد) (5)، يوحي بأنّ الإمام (عليه السلام) مكث فترة يحدّث بالكوفة، فمن البعيد أنّه كان يريد أدرك ذلك مرّة واحدة، بل المنصرف هذا الكلام أنّه (عليه السلام) حدّث مدّة في الكوفة، نعم مقدار ذلك غير معلوم.
3-ما رواه طرخان النخّاس، قال: مررت بأبي عبد الله (عليه السلام) وقد نزل الحيرة، فقال لي: ما علاجك؟
قلت: نخّاس ... المزید (6).
وهي ظاهرة في أنّ للإمام الصادق (عليه السلام) نزل الحيرة والناس تمرّ به، وهذا عادة ينافي مرورة سريعاً للزيارة.
4- روى هارون بن خارجة، قال: كان رجل من أصحابنا طلق امرأته ثلاثاً فسأل أصحابنا، فقالوا: ليس بشيء، فقالت امرأته: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله وكان بالحيرة إذ ذاك أيام أبي العباس، قال: فذهبت إلى الحيرة ولم أقدر على كلامه إذ منع الخليفة الناس من الدخول على أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا أنظر كيف ألتمس لقاءه فإذا سوادي عليه جبة صوف يبيع خيارا فقلت له: بكم خيارك هذا كله؟
قال: بدرهم فأعطيته درهما وقلت له: أعطني جبتك هذه، فأخذتها ولبستها وناديت من يشتري خيارا ودنوت منه فإذا غلام من ناحية ينادي يا صاحب الخيار فقال (عليه السلام) لي لما دنوب منه: ما أجود ما احتلت، أي شئ حاجتك؟
قلت: إني ابتليت فطلقت أهلي في دفعة ثلاثا فسألت أصحابنا فقالوا: ليس بشئ وإن المرأة قالت: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: ارجع إلى أهلك فليس عليك شيء (7).
والحديث صريح أنّ الإمام (عليه السلام) مكث في الحيرة وأن الناس كانوا يقصدونه ولو كان قد أتاها زائراً لم يقتض الأمر أن يقصده الرجل بل كان ينتظر عودته من الزيارة.
5- تصريح البعض أنّه أقام بالعراق ومنهم- كما ذكرنا- الشهرستاني في (الملل والنحل) قال: (ثم دخل العراق وأقام بها مدّة) (8).
ومن مجموع هذه القرائن نخلص إلى أنّ الإمام (عليه السلام) مكث في الكوفة ولكن وللأسف لا يعلم مقدار هذه المدّة، فما اُشتهر عنه من أنّه أقام في الكوفة مدّة سنتين لم نعثر على دليل يورث الاطمينان به، نعم عدم الوجدان لايعني عدم الوجود، فأقصى ما نخلص به في المقام عدم عثورنا على دليل يساعد على هذا القول.
(1)دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية: 122.
(1) الملل والنحل: 1/166.
(3) الإمام الصادق (عليه السلام) حياته وعصره- آراؤه وفقهه: 48.
(4) الغارات: 2/853.
(5) رجال النجاشي: 39.
(6) اختيار معرفة الرجال: 2/559.
(7) الخرائج والجرائح: 2/642.
(8) الملل والنحل: 1/166.