عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
من الثابت المتواتر أنّ أهل البيت قد أباحوا التدوين (خلافًا للمخالفين فانهم منعوا تدوين الحديث ) ، إذ كتب الاِمام عليّ عليه السلام صحيفة عن رسول الله صلى الله عليه واله طولها سبعون ذراعاً بخطّه وإملاء رسول الله
ويمكن مراجعة ما جمعه الدكتور رفعت فوزي عبد المطّلب ما رُوي من أحاديث هذه الصحيفة متناثراً في أبواب الفقه في كتاب أسماه بـ (صحيفة عليّ بن أبي طالب عن رسول الله، دراسة توثيقيّة فقهيّة)
وقد كانت الصحيفة عند الاَئمّة من ولد عليّ يتوارثونها ويحرصون عليها غاية الحرص،
فعن الحسن بن عليّ: إنّ العلم فينا، ونحن أهله، وهو عندنا مجموع كلّه بحذافيره، وإنّه لا يحدث شيءٌ إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش إلاّ هو عندنا مكتوب بإملاء رسول الله وخطّ عليّ بيده
ولمّا سئل عن رأي أبيه في الخيار، أمر بإحضار ربعة وأخرج منها صحيفة صفراء تضمّ آراء عليّ في ذلك
وقد كان هذا الكتاب عند الاِمام الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ الباقر، ثمّ الصادق و ... المزید
فيبدو واضحاً للعيان اهتمام أولاد الامام عليّ (عليه السلام ) اهتماماً لا نظير له بهذه الصحيفة حتّى أنّ الامام الحسين عليه السلام
لم يشغله ما هو فيه أن يودع ما عنده عند ابنته الكبرى فاطمة لتسلّمها إلى الاِمام عليّ بن الحسين عليهم السلام ، لكون تلك الكتب كنزاً من كنوز آل محمّد ووديعة الرسول (صلى الله عليه واله ) عندهم.
وقد وصل الاهتمام بفاطمة الزهراء بنت رسول الله أن تقول لجاريتها فضّة حين افتقدت الصحيفة (ويحك! اطلبيها فإنّها تعدل عندي …).
هذا الاهتمام لم يكن اعتباطيّاً نابعاً عن رغبة شخصيّة، لاَنّ معادلة الصحيفة بريحانتي رسول الله أمر يستحقّ التوقّف الطويل،
إذ يبدو أنّ العلم المكنون في هذه الصحيفة يعادل ما عند الاِمامين الحسن والحسين مثلًا من علم عن رسول الله، وأنّ ما ترفد به هذه الصحيفة المسلمين يعادل ما يرفد به الاِمامان أُمّة رسول الله (صلى الله عليه واله ).
هذه الرعاية المتزايدة للمدوّنات بصورة عامّة، وكتاب عليّ خاصّة، لانجد لها أثراً عند المدرسة المقابلة ـ مدرسة الرأي والاجتهاد ـ
فأُثِرَ عن أبي بكر حرقه لمدوّنته، وعن عمر حرقه لمدوّنات الآخرين، وعن عثمان حرقه للمصاحف، وعن معاوية أمره بالاِقلال من الحديث إلاّ حديث روي على عهد عمربن الخطّاب، وهكذا باقي الملوك،
بخلاف أهل البيت عليهم السلام الذين واصلوا التدوين وحفظوا المدوّنات منذ بداية التشريع الاِسلاميّ ونزول الوحي إلى وقت متأخّر.
فقد ورد أنّ رسول الله (صلى الله عليه واله ) أمَرَ عليّاً بالتدوين وقال له: اكتب ما أُملي عليك، فقال عليّ: يا رسول الله ! أتخاف عَلَيَّ النسيان؟ قال: لا، ولكن دوّن لشركائك، قال: ومن شركائي يا رسول الله؟ قال: الاَئمّة الذين يأتون من بعدك.
وهذا يجعلنا نتيقّن بأنّ النبيّ (صلى الله عليه واله ) أراد أن يحفظ شريعته بواسطة التدوين عند أهل بيته وغيرهم لتبقى المدوّنات ذخراً وتراثاً علميّاً لاَجيال المسلمين في العصور المتأخّرة.
فاستعانة أئمّة أهل البيت بكتاب عليّ ونظرهم فيه وإشهادهم الآخرين عليه جاء لتوثيق ما يقولونه وينقلونه عن رسول الله وأنّه لم يأتِ جزافاً عن رأي بل له أصل عن الرسول فعن الامام الصادق أنّه قال: كان عليّ بن الحسين إذا أخذ كتاب عليّ فنظر فيه، قال: من يطيق هذا ؟!
وفي الاِرشاد للمفيد: عن الباقر: أنَّ والده السجّاد قال له: يابنيّ أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب، فأعطيته، فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثمَّ تركها من يده تضجّراً وقال: من يقوى على عبادة عليّ
والذي يستوقفنا هذين النصّين: هو هل اختص كتاب عليّ ببيان الفرائض الشرعيّة والاَحكام الفقهيّة فقط؟
أم أنّه شمل علوماً أُخرى غيرها؟!
الذي ينصّ عليه هذان النصّان هو أنّ الكتاب كان يحتوي على أُصول العبادات ومستحبّاتها وقد حفظ في طيّاته جميع أُصول ومباني الدين الاِسلاميّ كوحدة متجانسة متكاملة وفيه ما يحتاج إليه المسلمون،
ولمّا وقف الاِمام زين العابدين على المستحبّات والنوافل والسنن التي في الكتاب قال وهو ذو الثفنات المعروف بكثرة عبادته وقيامه وصيامه : من يطيق هذا؟
فنهج التدوين والمحافظة على المدوّنات كان ديدن أئمّة أهل البيت وأتباعهم، مقابل الاِحراق والاِتلاف ومنع التحديث والتدوين الذي دأب عليه أصحاب مدرسة (الاجتهاد والرأي)
وهذا ما لا يدع مجالاً للشكّ بأوثقيّة وأضبطيّة «ما هو الحجّة» عند أهل البيت ونهج التعبّد دون ما عند المدرسة المقابلة من موروث مختلط متأثّر بشتّى العوامل وشتّى الآراء بدءاً من تشريع الاجتهاد والرأي قبال النصّ ومروراً بتثبيت القياس والاستعانة بالاَُصول الجديدة المطروحة لاحقاً، وانتهاءً بما لا نهاية له من آراء واتّجاهات.
وإذا رجعنا إلى حديث الصحيفة التي كانت في حوزة الاِمام محمّدبن عليّ الباقر وابنه جعفر بن محمّد الصادق وجدنا التركيز والاهتمام المتزايد عليها.
فعن عذافر الصيرفيّ قال: كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر (أي الباقر) فجعل يسأله، وكان أبو جعفر له مكرماً، فاختلفا في شيء! فقال أبو جعفر: يا بنيّ! قم، فأخرِج كتاب عليٍّ.
فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً وفتحه، وجعل ينظر، حتّى أخرج المسألة، فقال أبو جعفر: هذا خط عليّ وإملاء رسول الله.
وأقبل على الحكم، وقال: يا أبا محمّد! اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم ـ يميناً وشمالاً ـ فوالله لا تجدون العلم، أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل (ع)
وفي حديث آخر جاء في جواب الباقر للحكم بن عتيبة حينما سأله عن تقسيم الاَسنان؟ قوله (هكذا وجدناه في كتاب عليّ)
وعن زرارة بن أعين، قال: سألت أبو جعفر عن الجدّ، وذكر الحديث إلى أن قال : فأقبل على ابنه جعفر وقال له: أقْرىَ زرارة صحيفة الفرائض، فأخرج إليَّ صحيفة مثل فخذ البعير، فلمّا ألقى إليَّ طرف الصحيفة، إذا كتاب غليظ، يُعرف أنّهُ من كتب الاَوّلين، فنظرتُ فيها، فلمّا أصبحت لقيت أبا جعفر، فقال لي: أقرأت صحيفة الفرائض؟ فإنّ الذي رأيت والله يا زرارة هو الحقّ، الذي رأيت إملاء رسول الله وخطّ عليّ بيده، وقد حدّثني أبي عن جدّي أنّ أمير المؤمنين حدّثه بذلك
وعن أبي أيّوب الخزّاز، عن أبي عبد الله (الصادق) قال: إنّ في كتاب عليّ: أنّ كلّ ذي رحم بمنزلة الرحم الذي يجر به...
وعن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله قال: في كتاب عليّ: أنّ نبيّاً من الاَنبياء شكا إلى ربّه القضاء
وهذا النصّ يؤكّد قولنا عن موسوعيّة «كتاب عليّ» وأنّه شمل العلوم الدينيّة والدنيويّة التي جاء بها النبيّ (صلى الله عليه واله ) عن الله عزّ وجلّ،
إذ إنّ هذا النصّ يؤكّد وجود أخبار الاَنبياء والاَُمم السالفة في كتاب عليّ، وأنّه دونها من فلق فم رسول الله، وقد وصلنا من كتاب عليّ أخبار الديانات السابقة ومن مسخوا وعذّبوا و...