السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرحباً بكم في تطبيقكم المجيب
جاء في تفسير الأمثل للشيخ مكارم الشيرازي، ج٥، ص٣٢٢-٣٢٣):
سبب النزول:
روى بعض المفسرين "كالعلامة الطبرسي في مجمع البيان" أن أهل مكة قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كان لك ارتباط بالله، أفلا يطلعك الله على غلاء السلع أو زهادتها في المستقبل، لتهئ عن هذا الطريق ما فيه النفع والخير وتدفع عنك ما فيه الضرر والسوء، أو يطلعك الله على السنة الممحلة "القحط" أو العام المخصب العشب، فينتقل إلى الأرض الخصيبة؟ فنزلت عندئذ الآية - محل البحث - وكانت جواب سؤالهم.
لا يعلم الغيب إلا الله:
بالرغم من أن هذه الآية لها شأن خاص في نزولها، إلا أن ارتباطها بالآية السابقة واضح، لأن الكلام كان في الآية السابقة على عدم علم أحد بقيام الساعة إلا الله، والكلام في هذه الآية على نفي علم الغيب عن العباد بصورة كلية.
ففي الجملة الأولى من هذه الآية خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله}.
ولا شك أن كل إنسان يستطيع أن ينفع نفسه، أو يدفع عنها الشر، ولكن على الرغم من هذه الحال فإن الآية - محل البحث، كما نلاحظ - تنفي هذه القدرة عن البشر نفياً مطلقاً.
وذلك لأن الإنسان في أعماله ليس له قوة من نفسه، بل القوة والقدرة والاستطاعة كلها من الله، وهو سبحانه الذي أودع فيه كل تلك القوة والقدرة وما شاكلهما.
وبتعبير آخر: إن مالك جميع القوى والقدرات وذو الاختيار المستقل - وبالذات - في عالم الوجود هو الله (عزَّ وجلَّ) فحسب، والآخرون حتى الأنبياء والملائكة يكتسبون منه القدرة ويستمدون منه القوة، وملكهم وقدرتهم هي بالغير لا بالذات ... المزید
وجملة "إلا ما يشاء الله" شاهد على هذا الموضوع أيضاً.
وفي كثير من آيات القرآن الأخرى نرى نفي المالكية والنفع والضرر عن غير الله، ولذلك فقد نهت الآيات عن عبادة الأصنام وما سوى الله سبحانه...
ونقرأ في الآيتين (٣) و (٤) من سورة الفرقان واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاُ فكيف يملكون لغيرهم؟!
وهذه هي عقيدة المسلم، إذ لا يرى أحداً "بالذات" رازقاً ومالكاً وخالقاً وذا نفع أو ضرر إلا الله، ولذا فحين يتوجه المسلم إلى أحد طالباً منه شيئاً فهو يطلبه مع التفاته إلى هذه الحقيقة، وهي أن ما عند ذلك الشخص فهو من الله (فتأمل بدقة).
ويتضح من هذا إن الذين يتذرعون بمثل هذه الآيات لنفي كل توسل بالأنبياء والأئمة، ويعدون ذلك شركاً، في خطأ فاضح، حيث تصوروا بأن التوسل بالنبي أو الإمام مفهومه أن نعد النبي أو الإمام مستقلاً بنفسه في قبال الله - والعياذ بالله - وأنه يملك النفع والضرر أيضاً.
ولكن من يتوسل بالنبي أو الإمام مع الاعتقاد بأنه لا يملك شيئاً من نفسه، بل يطلبه من الله، أو أنه يستشفع به إلى الله، فهذا الاعتقاد هو التوحيد عينه والإخلاص ذاته.
وهو ما أشار إليه القرآن في الآية محل البحث بقوله: {إلا ما شاء الله} أو بقوله: {إلا بإذنه} في الآية {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}.
فبناءً على ذلك فإن فريقين من الناس على خطأ في مسألة التوسل بالنبي والأئمة الطاهرين...
الفريق الأول: من يزعم أن النبي أو الإمام له قدرة وقوة مستقلة بالذات في قبال الله، فهذا الاعتقاد شرك بالله.
والفريق الآخر: من ينفي القدرة - بالغير - عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، فهذا الاعتقاد انحراف عن مفاد آيات القرآن الصريحة.
إذن: الحق هو أن النبي والأئمة يشفعون للمتوسل بهم بإذن الله وأمره، ويطلبون حل معضلته من الله.
وبعد بيان هذا الموضوع تشير الآية إلى مسألة مهمة أخرى رداً على سؤال جماعة منهم فتقول: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء}.
لأن الذي يعرف أسرار الغيب يستطيع أن يختار ما هو في صالحه، وأن يجتنب عما يضره.
ثم تحكي الآية عن مقام النبي الواقعي ورسالته، في جملة موجزة صريحة، فتقول على لسانه: {إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}.
ألم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم الغيب؟!
يحكم بعض السطحيين لدى قراءتهم لهذه الآية - وبدون الأخذ بنظر الاعتبار الآيات القرآنية الأخرى، بل حتى القرائن الموجودة في هذه الآية أيضاً - أن الآية آنفة الذكر دليل على نفي علم الغيب عن الأنبياء نفيا مطلقاً...
مع أن الآية - محل البحث - تنفي علم الغيب المستقل وبالذات عن النبي، كما أنها تنفي القدرة على كل نفع وضر بصورة مستقلة.
ونعرف أن كل إنسان يملك لنفسه وللآخرين النفع أو الضر.
فبناء على ذلك فإن هذه الجملة المتقدمة شاهد واضح على أن الهدف ليس هو نفي مالكية النفع والضرر أو نفي علم الغيب بصورة مطلقة، بل الهدف نفي الاستقلال، وبتعبير آخر: إن النبي لا يعرف شيئاً من نفسه، بل يعرف ما أطلعه الله عليه من أسرار غيبه، كما تقول الآيتان (٢٦) و (٢٧) من سورة الجن {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول} فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً.
وأساساً، فإن كمال مقام القيادة لا سيما إذا كان الهدف قيادة العالم بأسره، وفي جميع المجالات المادية والمعنوية، هو الإحاطة الواسعة بالكثير من المسائل الخفية عن سائر الناس، لا المعرفة بأحكام الله وقوانينه فحسب، بل المعرفة بأسرار عالم الوجود، والبناء البشري، وقسم من حوادث المستقبل والماضي، فهذا القسم من العلم يطلعه الله على رسله، وإذا لم يطلعهم عليه لم تكمل قيادتهم!...
وبتعبير آخر: إن أحاديث الأنبياء والرسل وسيرتهم ستكون محدودة بظروف عصرهم ومحيطهم، لكن عندما يكونون عارفين بهذا القسم من أسرار الغيب فسيقومون ببناء حضارة على مستوى الأجيال القادمة، فتكون مناهجهم صالحة لمختلف الظروف والمتغيرات.
ودمتم في رعاية الله وحفظه.