هل في واقعة الطف كان الأمام الحسين يبكي ولما سألته السيدة زينب عن سبب بكائه فاجابها ان سبب بكائه هو ان هؤلاء سيقتلونني ويدخلون النار بسببي ، هل هذا القول صحيح؟
السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته
أهلاً بكم في تطبيقكم المجيب
ولدي العزيز، نجيب على هذا التساؤل باختصار، وينبغي أن يكون البحث في نقاط:
١- إن الإمام الحسين (عليه السلام) فرع من الدوحة النبوية المباركة، وقد خاطب القرآن النبي الكريم فقال له: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (الكهف: ٦).
وقال له: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء: ٣).
وقال تعالى: ﴿ ... المزید فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ...﴾ (فاطر: ٨).
وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحاربهم ويقتل فراعنتهم ولكنه يتحسر أيضاً على عدم قبولهم للحق وللدين.
وهناك آيات عديدة أخرى تشير إلى هذا المعنى. فلا غرو إذا اقتدى الحسين (عليه السلام) بجده (صلوات الله وسلامه عليه وآله).
٢- هل للواقعة ثبوت تاريخي؟
لقد تتبعنا أغلب المصادر، فلم نجد الرواية.
نعم، وجدناها عند بعض من ذكرها مرسلة من غير سند.
والمنقوله هي:
الحادثة التي تقول: (أن السيدة زينب رأت الإمام الحسين يبكي، ولما سألته عن سبب بكائه قال: أبكي لهؤلاء القوم الذين يدخلون النار بسببي).
لم نجدها في المقاتل الشيعية ولا في كتب المخالفين المعتبرة أو المشهورة.
أما الحوادث التي تنقل في تلك المقاتل فهي حادثة ينقلها الإمام زين العابدين عن حوار دار بين السيدة زينب وبين أخيها الإمام الحسين، عندما سمعت الإمام ينشد: «يادهر أفٍ لك من خليل...» وقد ترقرت عيناه الشريفتان بالدموع، لعله لحالها أو لما سيحل بهم بعده، وهذا الحوار خالٍ من سؤالها عن سبب البكاء، إنما كان الحوار حول تصبير السيدة زينب وتهيئتها لما سيحل بهم.
ولكن يمكن النقاش في الحادثة باعتبار احتمالية الصدور، وعلى ذلك ينبغي أن تفهم دلالاتها ضمن قيم الدين وثوابته وسيرة المعصومين.
٣- دلالة النص نفسه.
العبارة التي تنقل هي (أبكي لهؤلاء القوم الذين يدخلون النار بسببي). وهي تعلل سبب البكاء أي الحالة الخاصة التي أصابت الإمام ، وفي النص دلالة واضحة أن القوم هم من (أهل النار) وهذا توصيف لحالهم حيث أقر بأنهم أشقياء من خلال فعلهم الذي يرتكبونه في مجابهة ومحاربة ابن بنت رسول الله.
وكلمة بسببي، لا تعني أنه المتسبب كما هو معلوم، إنما بيان سبب دخولهم النار وهو أنهم ظلموني.
فيكون المعنى أحد وجهين:
الأول: إما أن يكون بكاؤه لأنهم وصلوا لهذا الحال من خلال ظلم سيد شباب أهل الجنة، (كما قال سابقاً بما معناه أنني أكره أن أكون أول من يستحل به بيت الله).
الثاني: وإما أن يكون سبب البكاء هو الحال الذي وصل إليه الإنسان من العدوان والخسران، والحال أنه يتمنّى لكافة البشر الهداية، إلا أنهم خسروها. كما كان جده رسول الله، في قول الله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ. وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ (الشعراء: ٣-٤-٥).
٤ - إن الإمام بما أنه معصوم كان قلبه يسع الجميع ورحيماً بالجميع ولذا نرى الإمام (عليه السلام) كان حريصاً على أن لا يبدأ القوم بالقتال، وحريصاً على أن يستنفذ كل الوسائل من أجل انقاذ ما يمكن انقاذه من الكثير ممن غرر بهم وخدعوا، وأيضاً القاء الحجة عليهم.
ولذا نرى في نفس الجيش من كانت قلوبهم مع الحسين (عليه السلام) ولكن سيوفهم عليه.
وكان (عليه السلام) يحاول تحريرهم من الخوف، ولو فرضنا أن ذلك وقع فلا أقل من أن الحسين (عليه السلام) كان قلبه يرق لهم لعظم ما يقدمون عليه من معصية الله سبحانه وتعالى، ثم يمكن القول أن ذلك قد وقع من الحسين (عليه السلام) أي: الرقة والحزن عليهم، قبل أن يقع القتال والسيف بينهم.
وهم قبل أن يقع السيف بينهم لا يزالون في فسحة من العودة إلى الحق والتوبة، وهذا ما حصل فعلاً من بعض الأشخاص الذين انسلوا من جيش عمر بن سعد إلى جيش الإمام وقاتلوا إلى جنب الحسين (عليه السلام)، ولم يكن هذا فقط بل إن الأمر قد جاوز ليلة المعركة إلى يومها حيث موقف (الحر وولده) ثم إن الأخبار وردت عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما قاتله أهل الجمل كان يبكي في خيمته ويرى أصحابه الحزن الشديد لما لحق بالأمة من الهوان والخذلان واتباع الشيطان.
٥- إن هناك فرقاً بين الأسف على الإنسان الذي يتخذ طريق الكفر والجريمة، وتمني أن لو كان قد اهتدى والتزم طريق الحق، وبين الرأفة بالمجرم التي تعني حب التخفيف من عقوبته، الذي يعني تضييع الحق، وعدم إجراء أحكام الله سبحانه على حدها.
ولأجل ذلك جاء التقييد بقوله: ﴿... فِي دِينِ اللَّهِ ...﴾ إذ أن الرأفة في الدين هي الرقة، والتنزل من الدرجة المطلوبة إلى درجة أخف منها، ولازم ذلك هو التساهل في إجراء الأحكام.
ولم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) يقيم الحد على أعدائه، ولا كان يحب تخفيف العذاب عنهم في الآخرة، بل كان يتمنى لهم الهداية ويتحسر عليهم لاتخاذهم طريق الضلال والجريمة.
وأما بعد ارتكابهم الجريمة وهتك الحرمات الإلهية، فلم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) ليهتم بتخفيف العقوبة عنهم.
٦- نقطه أخيره في مناقشه هذه الحادثة من جهة الدلالات الموضوعية:
في فهم النص المرتبط بحدث معين، لابد من دراسة الحدث بشكل موضوعي لكي تتكشف لنا دلالات النص الحقيقية والواقعية، وعندما يبتر النص من سياقاته التاريخية والموضوعية، فإنه قد يفهم بشكل خاطئ، ولذلك نضع بعض النقاط عبارة عن إشارات للفهم الموضوعي:
أ) وقت المقولة غير معلوم تحديداً، ولكن بحسب من ينقلها لا يفارقها عن (يوم العاشر عند وداع الإمام) وبين (يوم العاشر قبيل مقتل الإمام).
ب) قبل هذا الوقت كانت للإمام خطب وكلمات وتوصيفات موجهة للقوم، والكثير منها إما دعاء عليهم وإما توصيف حالهم السيء، وهي كثيرة جداً وتحتاج بنفسها إلى دراسة وتحليل، ومنها مثلاً: «ويحكم ياشيعة الشيطان ...» و «اللهم فاحصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً ولا تغفر لهم أبداً» و «يا أمة السوء بئسما خلفتم محمداً في عترته» و «يلقي بأسكم بينكم ويسفك دماءكم ثم يصب عليكم العذاب الأليم» و «اللهم فامنعهم بركات الأرض وإن منعتهم ففرقهم تفريقاً» إلى آخره.
ج) فبعض عندما اقتطع الحدث (مع فرض حدوثه) عن سياقه، فَهَمَ أن الإمام الحسين (عليه السلام) أشفق عليهم بأن لم يلعنهم ولم يوصفهم بسوء ولم يدع عليهم.
وهذا فهم خاطئ ومغاير للواقع ومغاير لتعاليم الدين، فإن الإمام الحسين (عليه السلام) يشفق عليهم باعتبار مكانته الرسالية التي يتمنى لهم الهداية، ومن مظاهر الإشفاق أنه خطب فيهم كثيراً وألقى الحجة عليهم لكي يختاروا الطريق الصحيح.
ومن يفهم أن بكاء الإمام هو دليل على عدم جواز توصيف حالهم فإما أن يحذف التاريخ الثابت، وإما أن يؤمن بأنه لا يصح أبداً توصيف أحد بشيء مهما بلغ من ظلم وضلال، وهذا مناقض لتعاليم الدين.
د) الإشفاق وتمني الهداية لا يعني ميوعة الموقف، فتوصيف حقيقتهم التي اختاروها لابد منها، لكي يعلموا أي موقف وقفوه وأي جرم اقترفوه، وهذا لا يمنع من يريد الهداية أن يهتدي، بل قد يهز وجدانه ويجعله يعيد التفكير ليرى أنه من الأمة الملعونة فيعيد التموضع (كما فعل الحر الرياحي) الذي أسمعه الإمام الكلمات التي لا يتمناها، ولكن لم يمنعه ذلك من التوبة، بل أن توبته سبقتها توصيفات لحال الجيش من الإمام وقد كان الحر في الطرف الآخر.
وكذا كما أخبر الإمام علي (عليه السلام) في صفين أن الجيش المقابل هم الفئة الباغية بنص رسول الله، ولم يمنع ذلك من رجوع الكثير منهم عن موقفهم، فمن رجع انتفت عنه الصفة ودخل ضمن الأخيار.
ودمتم موفقين.