إن حضور الله تعالى في كل مكان واتساع قدرته في العالم يفهمنا أن ذاته المقدسة غير محتاجة لأي ناصر أو معين، لكنه لإظهار عظمته للخلائق ولتكون ذكرى لمن يتعظ اختار ملائكة وجنودا كثيرين مطيعين لأمره تعالى.
وقد ذكرت الروايات عبارات عجيبة حول كثرة وعظمة وقدرة جنود الله والسماع لهذه الأخبار يثير العجب والدهشة ولا تتفق مع مقاييسنا المتعارفة، ولذا نقنع بقراءة الخطبة في نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) حول هذا الموضوع حيث يقول (عليه السلام):
" ثم فتق ما بين السماوات العلا، فملأهن أطوارا من ملائكته، فهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، صافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان، ومنهم أمناء على وحيه، وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظة لبعاده والسدنة لأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم، متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة، وأستار القدرة، لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر " وكلمة (ملك) مفهوما واسعا حيث يشمل الملائكة الذين يملكون العقل والشعور والطاعة والتسليم، وكذلك كثير من عناصر وقوى عالم الوجود.
فقوله تعالى : (ولله جنود السماوات والأرض) الجند هو الجمع الغليظ من الناس إذا جمعهم غرض يعملون لأجله ولذا أطلق على العسكر المجتمعين على إجراء ما يأمر به أميرهم، والسياق يشهد أن المراد بجنود السماوات والأرض الأسباب الموجودة في العالم مما يرى ولا يرى من الخلق فهي وسائط متخللة بينه تعالى وبين ما يريده من شئ تطيعه ولا تعصاه.
وإيراد الجملة أعني قوله: (ولله جنود) الخ، بعد قوله: (هو الذي أنزل السكينة) الخ، للدلالة على أن له جميع الأسباب والعلل التي في الوجود فله أن يبلغ إلى ما يشاء بما يشاء ولا يغلبه شئ في ذلك، وقد نسبت إلى زيادة إيمان المؤمنين بانزال السكينة في قلوبهم.
وقوله: (وكان الله عزيزا حكيما) أي منيعا جانبه لا يغلبه شئ متقنا في فعله لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته والجملة بيان تعليلي لقوله: (ولله جنود) الخ، كما أنه بيان تعليلي لقوله: (هو الذي أنزل السكينة) الخ، كأنه قيل: أنزل السكينة لكذا وله ذلك لان له جميع الجنود والأسباب لأنه العزيز على الاطلاق والحكيم على الاطلاق.