السلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته
أهلاً وسهلاً بكم في تطبيق المجيب
ولدي العزيز، للعلامة المجلسي (رحمه الله تعالى) في مرآة العقول كلام يُفهم منه القول بالتحريف، ومع ذلك لا يمكن القول بأن المجلسي يعتقد بهذا الكلام لأنّه في كتابه الآخر (البحار) قد قرر كلام المفيد (رحمه الله تعالى) دون أن يعقب عليه بشيء، فهو بعد أن روى الروايات الدالة على النقصان أجاب عليها بكلام المفيد (رحمه الله تعالى) الذي قال: (فإن قال قائل: كيف يصح القول بأنّ الذي بين الدفتين هو كلام الله تعالى على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان وأنتم تروون عن الائمة (عليهم السلام) انهم قرأوا: (كنتم خير أئمة أُخرجت للناس) وكذلك: (جعلناكم أئمة وسطاً)، وقرأوا: (ويسئلونك الأنفال)، وهذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس؟
قيل له: قد مضى الجواب عن هذا، وهو: أن الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله تعالى بصحتها، فلذلك وقفنا فيها ولم نعدل عما في المصحف الظاهر على ما أمرنا به حسب ما بينّاه، مع أنه لا ينكر أن تأتي القراءة على وجهين منزلتين أحدهما ما تضمنه المصحف والثاني ما جاء به الخبر كما يعترف مخالفونا به من نزول القرآن على وجوه شتى (البحار 92: 75 وهو في المسائل السروية للشيخ المفيد : 82).
ومما ينبغي أن يعلم أنّ الشيعة الإمامية تؤمن بأنّ باب الاجتهاد مفتوح وأنّ لكل فرد الحق في البحث في سند الروايات جرحاً وتعديلاً ولا يلزمهم قول أحد العلماء في ذلك.
ثم أنّ الحكم بصحة رواية ما لا يلزم منه الأخذ بها في المسائل العقائدية لأنها لا تخرج عن كونها خبر آحاد ظني الدلالة، والمطلوب في العقائد القطع فضلاً عن أنّ نص القرآن متواتر مقطوع لا يقف أمامه خبر واحد ظني، فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، حتى لو كان الخبر صحيحاً في غير العقائد (أي في الفروع) فأنه لا يؤخذ به إلا بعد أن يعرض على القرآن ليوافقه ويقابل بالأخبار المعارضة له وحتى يترجح أحدها، فإن كان هو الراجح فيكون حجة في العمل لا العلم، ولذا قالوا أنّ الخبر الواحد لا يورث العلم بل يثبت العمل، فتأمل.
ولو ثبت أنّ الشيخ المجلسي كان يقول بالتحريف فهذا لا يمثل رأي المدرسة، لأنّ الاحتجاج على المدرسة لا يكون إلا بمشهوراتها، والمشهور المعروف في مدرستنا ومذهبنا هو القول بعدم تحريف القرآن الكريم، وعصمة وصيانة الكتاب العزيز من التحريف، فالمشهور المعروف بين علمائنا الأعلام من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين هو القول بعدم تحريف القرآن الكريم، ونسبة التحريف إلينا غير صحيحة جزماً، فإنّ القرآن الكريم مصون من التحريف بأيّ وجه كان، وهذه عقيدة ثابتة عندنا، وعليها مشهور علمائنا لأنّ اللّه تعالى هو الذي تكفل بحفظ القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} (الحجر: ٩).
إضافة إلى الروايات الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) والمعبرة عن عصمة القرآن الكريم من التحريف بصورة مباشرة أو غير مباشرة مثل الحديث القطعي التالي:
«إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابداً»؛ فاذا كان القرآن محرفاً فكيف يكون سبباً لعدم الضلال والانحراف؟!
وكذلك أنّ الثابت عندنا نحن معاشر الشيعة أنّ من معايير صحة الرواية وعدمها من ناحية المضمون عرضها على القرآن الكريم فما وافق القرآن الكريم أخذنا به وما خالف القرآن ضربنا به عرض الجدار، فإذا كان القرآن محرفاً فكيف يكون ميزاناً لتقييم الأحاديث، حسب وصية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)؟!
وقد ألف علماء الشيعة كتباً في اثبات عدم التحريف، انظر على سبيل المثال كتاب [صيانة القرآن الكريم من التحريف] للشيخ هادي معرفة، وكتاب قراءة جديدة لروايات التحريف، للشيخ المسجدي، وكتاب نفي التحريف عن القرآن الشريف، للسيد علي الميلاني.
وإليك طائفة من أقوال أبرز شخصياتهم القدامى والمتأخّرين والمعاصرين نذكرها على سبيل المثال لا الحصر:
أـ قال الشيخ الصدوق (المتوفي ٣٨١ هـ) في رسالته التي وضعها لبيان معتقدات الشيعة الامامية:
(اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللّه تعالى على نبيه محمد (صلى اللّٰه عليه وآله) هو ما بين الدفتين وهو ما بأيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ثم قال: ومن نسب إلينا أنا نقول إنه أكثر من ذلك فهو كاذب).
ب ـ قال الشريف المرتضى (المتوفي عام ٤٣٦ هـ): (إنّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة. فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه، لأنّ القرآن معجزة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من اعرابه وقرائته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً ومنقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟!).
ت- قال الشيخ الطوسي (المتوفي ٤٦٠ هـ):
(وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق بهذا الكتاب المقصود منه العلم بمعاني القرآن، لأنّ الزيادة مجمع علي بطلانها والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا).
ث- قال العلاّمة الحلّي (المتوفي ٧٢٦ هـ) في أحد مؤلفاته: (الحق أنه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه (أي القرآن) وأنّه لم يزد ولم ينقص ونعوذ باللّه تعالى من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك، فإنّه يوجب التطرّق إلى معجزة الرسول (صلى اللّٰه عليه وآله) المنقولة بالتواتر).
ج- قال السيد محسن الأمين العاملي (المتوفي عام ١٣٧١ هـ): (لا يقول أحد من الإمامية لا قديما ولا حديثاً أنّ القرآن مزيد فيه قليل أو كثير فضلا عن كلّهم، بل كلّهم متفقون على عدم الزيادة ومن يعتدّ بقوله من محققيهم متفقون على أنّه لم ينقص منه، ومن نسب إليهم خلاف ذلك فهو كاذب مفتر مجترئ علي اللّه و رسوله).
ح- قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (المتوفي عام ١٣٧٣هـ): (إنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله اللّه إليه(صلى اللّٰه عليه وآله) للإعجاز والتحدي ولتعليم الأحكام ولتمييز الحلال والحرام، وإنّه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة وعلى هذا إجماعهم. أي اجماع الشيعة الإمامية).
خ- قال الإمام شرف الدين العاملي (المتوفي عام ١٣٧٧هـ): (كل من نسب إليهم تحريف القرآن فإنّه مفتر ظالم لهم، لأنّ قداسة القرآن الحكيم من ضروريات الدين الإسلامي ومذهبهم الإمامي ... المزید إلى أن قال: ـ وتلك كتبهم في الحديث والفقه والأصول صريحة بما نقول: والقرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنّما هو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً ولا تبديل لكمة بكلمة ولا لحرف بحرف، وكل حرف من حروفه متواتر في كل جيل تواتراً قطعياً إلى عهد الوحي والنبوة).
ذ- قال السيد الخميني (قدس سره): (إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه قراءة وكتابة يقف على بطلان تلك المزعمة وما ورد فيه من أخبار ـ حسبما تمسكوا ـ إمّا ضعيف لا يصلح للاستدلال به، أو مجعول تلوح عليه امارات الجعل، أو غريب يقضي بالعجب، أمّا الصحيح منها فيرمي إلى مسألة التأويل والتفسير وأنّ التحريف إنما حصل في ذلك لا في لفظه وعباراته، وتفصيل ذلك يحتاج إلى تأليف كتاب حافل ببيان تاريخ القرآن والمراحل التي قضاها طيلة قرون ويتلخّص في أنّ الكتاب العزيز هو عين ما بين الدفتين لا زيادة فيه ولا نقصاناً ...).
د- قال السيد الكلبايگاني (قدس سره): (الصحيح من مذهبنا أنّ كتاب اللّه الكريم الذي بأيدينا بين الدفتين هو ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه من لدن عزيز حكيم، المجموع المرتّب في زمانه، أي النبي (صلى اللّٰه عليه وآله) وعصره، بأمره بلا تحريف وتغيير وزيادة ونقصان والدليل علي ذلك تواتره بين المسلمين، كُلاً وبعضاً ترتيباً وقراءة...)
ر- وللسيد الخوئي (قدس سره) بحث مفصل يؤكد فيه علي خلو القرآن الكريم من أيّة زيادة أو نقيصة في مقدمة تفسيره البيان.
وإن أردت الوقوف تفصيلاً على أقوال علمائنا الأعلام قديماً وحديثاً فعليك بالرجوع إلى كتاب النص الخالد لم ولن يحرف، للسيد علي الموسوي.
هذه هي نماذج صريحة تعكس عقيدة الشيعة الإمامية منذ قديم الوقت وحديثه وإلى الآن حول القرآن الكريم، وكلّها تؤكد على صيانة الكتاب العزيز من أيّة زيادة أو نقيصة وخلوّه من كل تغيير أو تبديل، فكيف يُتهم الشيعة الإمامية بأنهم يطعنون في القرآن بعد ذلك؟!
أمّا الروايات يستدل بها على التحريف فهي مضافاً إلى كونها ضعيفة وشاذة، أو مجعولة وموضوعة، لا يأبه بها الشيعة الإمامية ولا تشكل عقيدة الشيعة الإمامية، إذ ليس كل ما في الروايات يعكس عقيدتهم، حتى تكون عليهم حجة، والحال أنّها ـ كما قلناه ـ ليست بصحيحة، أو مؤولة ومفسرة بنحو لا يلزم منه التحريف.
إنّ القرآن الكريم حسب عقيدة المسلمين سنّة وشيعة الذي بأيدي الناس هو ما نزل على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في جميع خصوصياته الحاضرة، وكما لا يعبأ أعلام السنّة بروايات التحريف الواردة في مصادرهم، كذلك لا يأخذ علماء الشيعة أيضاً بما ورد في بعض مصادرهم لضعفها وشذوذها، وظهور آثار الاختلاق عليها، وما إلى ذلك.
وأخيراً: قال الشيخ المظفر (رحمه الله تعالى) في كتابه الذي هو منهج يُدرس في الحوزات العلمية:
(عقيدتنا في القرآن الكريم، نعتقد أن (القرآن) هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم فيه تبيان كل شيء، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي، ومن ادعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه، وكلهم على غير هدى، فإنه كلام الله الذي ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾.
وفقكم الله تعالى لكل خير.