ابو محمد الخزرجي - الكويت
منذ 4 سنوات

 هل قدرة الأئمة (عليهم السلام) في طي الأرض تعد من المعاجز؟

أقول: 1- لم تُجيبوا على الإشكال القائل: أن كثيراً من الأديان بما فيها الأديان غير السماويّة يدّعون لآلهتهم ولأنبيائهم مُعجزات, والإشكال هُنا أننا لو صدقنا أتباع كُل ديانة بصحة مُعجزاتها يلزم من ذلك وجوب الالتزام بكُل هذه الأديان, وهذا أمر واضح البُطلان لا أقل على منهجيّة الإسلام التي تُحرّم اعتناق غير دين الإسلام. نعم، أنتم أجبتم بأن مُعجزات أنبياء الأديان السماويّة كاليهوديّة والنصرانيّة لا تتعارض مع مُعجزات نبي الإسلام لأنها تقع عرضيّة معها لا طوليّة [هذا مضمون جوابكم], ولكن هذا الجواب لا يصلح للردّ على المُعجزات التي يدّعيها أصحاب الديانات الأخرى غير السماويّة. فتعدد ادّعاءات المُعجزات من قِبل كثير من الأديان المُتعارضة يلزم تصديق الجميع, وهذا أمر واضح البُطلان كما ذكرنا سابقاً. أما بالنسبة لدعوى أن الإسلام خاتم الأديان, فهي دعوى غير مُسلّمة بالنسبة لغير المُسلم. 2- قُلتم أن هناك مُعجزات منقولة بطُرق مُستفيضة تُفيد العِلم, فأين هذه المُعجزات؟ هلّا ضربتم بعض الأمثلة! بشرط أن لا يكون نقلها محصوراً بالمُسلمين المحسوبين على نبيّهم, فشهادة المُسلم لنبيّه مجروحة لأنه محسوب عليه. 3- بالنسبة لدعوى أن القرآن هو المُعجزة الخالدة التي تلزم حسب ادّعائكم صدق نبوّة نبي الإسلام, فيُمكننا الإجابة عليها بشكل مُجمل بالآتي: لكي يكون القرآن حُجّةً ومُعجزةً يجب إثبات ثلاث مُقدّمات: المُقدّمة الأولى: قطعيّة الصدور من الله تبارك وتعالى (قطعيّة الثبوت). المُقدّمة الثانيّة: قطعيّة الدلالة على الإعجاز المُدّعى. المُقدّمة الثالثة: إثبات مُلازمة أن الإعجاز يُفيد صدق النبوّة. بالنسبة للمُقدّمة الأولى (قطعيّة الصدور): يُمكن الإشكال عليها بالآتي: أ‌- أنتم مُطالبون بإثبات تواتر القرآن جيلاً بعد جيل بصورة عمليّة, وليس مُجرّد ادعاءات هكذا وأخذها من باب المُسلّمات, فمن قال أن القرآن متواتر فعلاً؟! ب‌- ثم أنتم مُطالبون كذلك بإثبات أن القرآن لم يصبه التحريف في نقله, إذ نجد مصادر الشيعة الحديثيّة وكذلك مصادر العامّة مليئة بروايات يُفيد ظاهرها حصول التحريف بالقرآن, ولا نعتقد أننا بحاجة إلى نقل هذه الروايات, فأنتم أعرف بها, وهذه الروايات تولّد شكاً في دعوى ثبوتيّة القرآن ونسبته إلى الله. مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الروايات (روايات التحريف) مُتواترةٌ معنوياً كما اعترف بذلك جمع من عُلماء الشيعة والعامّة, ولا نعتقد أننا بحاجة إلى نقل كلماتهم بهذا الصدد, فأنتم أعلم بما قال المجلسي حول روايات التحريف وكثرتها ومضاهاتها عدديّاً بروايات الإمامة وما قاله غيره من عُلماء العامة كالآلوسي بأن أخبار التحريف لا تُحصى, وهناك الكثير الكثير من الاعترافات بهذا الصدد مذكورة في كُتب الدفاع عن القرآن. نُكتة هامشيّة: العجيب أن روايات التحريف مذكورة في كُتب الدفاع عن القرآن, وهي تطعن في القرآن وهذه مُفارقةٌ عجيبة, ولعل السبب في ذلك أن كُل طائفة تُحاول اتهام الطائفة الأخرى بالتحريف, فكل طرف يحاول جمع أكبر قدر من الإدانات ضد الطرف الآخر, ولم يلتفت هؤلاء أن هذه الطريقة تقوي أعداء الإسلام الذين سيتفيدون من هذا التطاعن في التشكيك في ثبوتيّة القرآن وصيانته من التحريف حتى قرأنا في كُتب أحد النصارى قوله أن المُسلمين مُجمعون على تحريف القرآن إذ يؤلف السُنة مؤلفات لاتهام الشيعة بالقول بالتحريف ويؤلف الشيعة مؤلفات لاتهام السُنة بذلك, وهذه الاتهامات تؤكّد إجماعهم على التحريف!!! ج- مَنْ قال أن الذي جاء لمُحمّد هو جبريل؟ هناك احتمالات كثيرة يُحتمل أن الذي جائه كان جنيّاً أو شيطاناً, وهذا الاحتمال يُشككنا في أصل ثبوت نسبة القرآن إلى الله. د- لو فرضنا أن الذي جاء محمد كان جبريل فعلاً, مَنْ قال أن جبريل معصوم لا يكذب ولا يُخطئ؟! إذن يجب إثبات عصمة جبريل. هـ- مَنْ قال أن مُحمداً لم يكذب مثلاً؟ نحتاج دليل على عصمة مُحمد حتى تصح نسبة القرآن إلى الله. ز- ثم مَنْ قال أن الذي جاء لمُحمّد لم يكن حالة من حالات الصرع أو الهلوسة التي تخيّل فيها أن الذي جاءه وحي؟! فقد قال لي أحد الدارسين في علم النفس أن في مُستشفى الطب النفسي كثير من الأنبياء الذين يدّعون نزول الوحي عليهم, فمن يُدرينا أن مُحمّداً لم يكن من هؤلاء المرضى؟! فالحاصل, لكي يتم إثبات قطعيّة الصدور (قطعيّة صدور القرآن من الله) يجب إثبات عِدة أمور, وهي: عصمة الوسائط (جبريل+مُحمّد), نفي احتماليّة أن الوحي كان مرضاً عقليّاً (هلاوس أو نوع من أنواع الصرع), إثبات أن الوحي كان من جبريل لا من غيره, نفي احتماليّة التحريف في القرآن, وإثبات تواتره بصورة عمليّة لكل سورة وآية وكلمة وحرف]. فهذه هي الشروط اللازمة لإثبات قطعيّة صدور القرآن من الله تبارك وتعالى. بالنسبة للمُقدّمة الثانية (قطعيّة الدلالة): يُمكن الإشكال عليها بالآتي: أ‌- مَنْ قال أن القرآن هو قمة في البلاغة؟! هذه دعوى إسلاميّة تحتاج إلى إثبات. ب‌- ثم مَنْ قال أن أحداً لم يتمكّن من مُعارضة القرآن؟ هل استقصيتم كل مَنْ رد على القرآن حتى تدّعون ذلك؟! ت‌- ثم لو سلّمنا بأن القرآن في غاية البلاغة ولم يتمكّن أحدٌ من مُعارضته, فهل يدل ذلك بالضرورة على الإعجاز؟! البعض يقول: أنه يُحتمل أن مُحمداً كان أبلغ العرب, بحيث صاغ القرآن بطريقة لم يتمكّن أحدٌ من مُعارضته, وبهذه الحالة لا يلزم من إثبات البلاغة إثبات المُعجزة فضلاً عن إثبات النبوّة. البعض يقول: أن سبب عدم قدرة العرب على مُعارضه القرآن أو الإتيان بمثله (وفقاً للدعوى الإسلاميّة المزعومة التي يجب إثباتها) هي أن الله صرف العرب عن الإتيان بمثله, وهذه المقولة هي مقولة طائفة من المُسلمين تُسمى في كُتب التفسير بالطائفة الصرفيّة التي تقول بأن القرآن بحد ذاته ليس مُعجزاً بلاغيّاً, فالعرب قادرون على الإتيان بمثله, بل بأعظم منه, ولكن الله صرفهم عن الإتيان بذلك, فالقرآن ليس مُعجزاً ذاتيًاً, وبالجُملة فإن هذا القول (قول الصرفيّة) قاله بعض عُلماء الشيعة وهو السيّد المُرتضى في كتابه (الصرفة), وقاله كذلك بعض عُلماء المُعتزلة كما نُقِل عنهم في بعض كُتب التفسير. البعض يقول: يُحتمل أن الجن قد أوحى لمُحمد هذا القرآن البليغ, ويقول البعض أن المُسلمين اعترفوا بأن للجِن قدرات خارقة كما ورد ذلك بالقرآن, فيُحتمل أنه جاء بكُل هذه البلاغة من الجِن, وهذا الاحتمال ينفي الإعجاز المُدّعى. البعض يقول: يُحتمل أن جبريل هو من صاغ القرآن بهذه البلاغة وأعطاه لمُحمد, ولم يثبت أن جبريل معصومٌ, وبالتالي يُحتمل أن جبريل كذب على الله وصاغ القرآن بهذه البراعة لقدراته البارعة, لذلك لم يتمكّن العرب من مُعارضته, وهذا الاحتمال ينفي دعوى الإعجاز. معنى ذلك كله, أن البلاغة بحد ذاتها ليست دليلاً على الإعجاز فضلاً عن أنها ليست دليلاً على النبوّة. خُلاصة القول في النُقطة رقم [3]: لكي يصلح احتجاجكم بإعجاز القرآن على صحة نبوّة نبي الإسلام يجب ثلاث مُقدّمات, وهي قطعيّة الصدور وقطعيّة الدلالة ومُلازمة الإعجاز لصدق النبوّة. 4- بالنسبة لاحتماليّة أن يكون النبي (ص) ساحراً, فهي احتماليّة وجيهة جداً حتى لو قال بها عدد قليل, فالعِبرة بالاحتمال وليس بالعدد, فالاحتمال يكفي لنقض الاستدلال, وكما تقولون [إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال], فاحتماليّة أن الذي كان يُمارسه النبي (ص) سحراً احتمال كافٍ للتشكيك بنبوّته. فهو احتمال عقليٌ موجود على كل حال. أما بالنسبة لإيمان بعض من طعن فيه به بعد ذلك وشهادة بعض النصارى وبعض المُشركين بطهارته...إلخ. فإيمانهم ليس حُجةً علينا هذا من جهة, والشهادات المنقولة لمدح نبي الإسلام تحتاج إلى مصدر موثوق (و ليس مصادر المُسلمين المُحسوبة عليهم), بل حتى لو ثبتت, فهي ليست حُجةً لأن الدليل العلمي هو الحُجة وليس أقوال وآراء الناس وانطباعاتهم الشخصيّة. ثم لماذا لا تأخذون ببقيّة الشهادات الذامة للنبي (ص) من المُشركين والنصارى؟ لماذا تقتصرون فقط على شهادات المدح والثناء (إن ثبت وجودها أساساً) دون شهادات الذم والتكذيب؟! خُلاصة الرسالة: المطلوب الآن أمور نُلخصها بشكل نُقاط: أ‌- الرد على إشكاليّة تعدد دعاوى المُعجزات عند كثير من الأديان حتى غير السماويّة منها مع تحديد الموقف الصحيح منها, وكيفيّة التمييز بين صحيحها وسقيمها. ب‌- الإتيان بالمُعجزات المُستفيضة لنبي الإسلام من مصادر يُمكن الوثوق بها. ت‌- إثبات قطعيّة صدور القرآن من الله وقطعيّة دلالته على المُعجز, ثم إثبات مُلازمة المُعجز لصدق النبوّة. ث‌- نفي احتماليّة السحر من جهة نبي الإسلام لكي يتم الاطمئنان بصدق ما جاء به. و لكم جزيل الشُكر.


الأخ أبا محمد  المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أولاً: لا نسلم أن كل ما جاء به شخص مما ظاهره خرق للعادة هو معجزة ضرورة أن المعجزة هي خرق عادة يأتي به النبي عند التحدي وعند طلب القوم منه الآية والمعجزة على صدق دعواه، وهذا ينطبق على معجزات الانبياء ولا ينطبق على مزخرفات البراهمة والهنوس والبوذيين وأشباههم من التيارات والمذاهب الباطلة الذين يأتون بها من دون تحدي لأجل أن يكونوا محلا للثناء أو التعجب وبدافع تحصيل المال أو الجاه او المنزلة في القلوب، حتى ولو ادعوا أنها من قبيل المعجزات لما يتراءى فيها لأول وهلة أنها خرق للعادة، وحتى لو اقتنع الظاهريون بأن ما أتى به هؤلاء هو من المعجزات. وقد ذكر الشيخ جعفر السبحاني محاضرات في الإلهيات ص 258 - 259 في المقصود من المعجزة ما هذا نصه ننقله بتمامه زيادة للفائدة: (المشهور في تعريف المعجزة أنها: "أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة". وإليك توضيحه: إن هناك أمورا تعد خارقة (مضادة) للعقل، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما، ووجود المعلول بلا علة ونحو ذلك، وأمورا أخرى تخالف القواعد العادية، بمعنى أنها تعد محالات حسب الأدوات والأجهزة العادية، والمجاري الطبيعية، ولكنها ليست محالا عقلا لو كان هناك أدوات أخرى خارجة عن نطاق العادة، وهي المسماة بالمعاجز، وذلك كحركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه، في فترة زمانية لا تزيد على طرفة العين بلا تلك الوسائط العادية، فإنه غير ممتنع عقلا ولكنه محال عادة، ومن هذا القبيل ما يحكيه القرآن من قيام من أوتي علما من الكتاب بإحضار عرش بلقيس ملكة سبأ، من بلاد اليمن إلى بلاد الشام في طرفة عين بلا توسط شئ من تلك الأجهزة المادية المتعارفة، فتحصل أن الإعجاز أمر خارق للعادة لا للعقل . ثم إن الإتيان بما هو خارق للعادة لا يسمى معجزة إلا إذا كان مقترنا بدعوى النبوة، وإذا تجرد عنها وصدر من بعض أولياء الله تعالى يسمى "كرامة" وذلك كحضور الرزق لمريم عليها السلام بلا سعي طبيعي ولأجل ذلك كان الأولى أن يضيفوا إلى التعريف قيد: "مع دعوى النبوة". ولا يتحقق الإعجاز إلا إذا عجز الناس عن القيام بمعارضة ما أتى به مدعي النبوة، ويترتب على هذا إن ما يقوم به كبار الأطباء والمخترعين من الأمور العجيبة خارج عن إطار الإعجاز، كما أن ما يقوم به السحرة والمرتاضون من الأعمال المدهشة، لا يعد معجزا لانتفاء هذا الشرط . ومن شرائط كون الإعجاز دليلا على صدق دعوى النبوة أن يكون فعل المدعي مطابقا لدعواه، فلو خالف ما ادعاه لما سمي معجزة وإن كان أمرا خارقا للعادة، ومن ذلك ما حصل من مسيلمة الكذاب عندما ادعى أنه نبي، وآية نبوته أنه إذا تفل في بئر قليلة الماء، يكثر ماؤها، فتفل فغار جميع ماؤها)) انتهى. وكنا قد أوضحنا لكم في ردنا السابق أن الأديان الإلهية قبل الاسلام لا تصلح لجميع العصور وإلا لما كانت هناك ضرورة في تعددها، وأن الدين المطلوب الإيمان به في العصور التالية على ظهور نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله هو الإسلام لا غير، وأن الحجة قد قامت على أهل الاديان الأخرى بضرورة اعتناق الاسلام وإلا لزم عن عدم اعتناقه الكفر، لأن تكذيب نبي الإسلام وعدم الاعتقاد بما جاء به يؤدي حتما إلى الكفر مع ثبوت كون الاسلام آخر الاديان وقد بشرت النصرانية واليهودية بدين هو آخر الاديان واشارت الى شخص النبي الخاتم، وحيث قد مضى على زمان اليهودية والنصرانية آلاف الأعوام من دون أن ياتي الدين الذي بشرت به كتبهم المقدسة على ألسنة أنبيائهم، فيثبت أن الدين المبشر به هو الإسلام لا غير لاسيما مع انطباق ما ورد في صفة النبي الخاتم وموضع ظهور الدين الجديد وغير ذلك من الاوصاف والعلائم على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وعلى ما جاء به... وأما التصديق بمعجزات الانبياء عليهم السلام فلا يلزم منه اتباع كافة الاديان كما ذكرتم، لأن المسلمين اليوم يعتقدون بجميع معجزات الانبياء ومع ذلك لا يتبعون إلا الاسلام فحسب، فلا ملازمة اذن بين تصديق معجزات الانبياء واتباع الاديان جميعا مما يترتب عليه البطلان المشار إليه. والإسلام هو الوحيد من بين جميع الاديان الذي يدعو أتباعه الى الاعتقاد بنبوة الانبياء ومعجزاتهم ولكنه لا يدعوهم إلى اعتناق أي دين آخر غيره، قال تعالى: (( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَينَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ وَإِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَالأَسبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِم لَا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِنهُم وَنَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ )) (البقرة:136). وأما عدم تسليم غير المسلمين بدعوى ختم الاسلام للأديان فهو مصداق التكذيب المشار إليه، ولا دليل عليه بل هو من قبيل المناوءة له والمعاندة تشبثا بما عندهم وأنفة واستكبارا على الحق. ثانياً: يمكن للمنكر أن يرجع إلى المصادر التي تطرقت لذكر معاجز النبي صلى الله عليه وآله، ومن مجموعها يحصل التواتر الإجمالي أو المعنوي بوجود معاجز للنبي صلى الله عليه وآله غير معجزته الخالدة القرآن الكريم، وأما دعوى كون شهادة المسلم مجروحة بنسبة المعجزة إلى نبيه لكونه من اتباعه وانه محسوب عليه فيردها أن عدم تصديق غير المسلم بها فرع عدم تصديقه بالإسلام المؤيد بالمعجزة الخالدة (القرآن الكريم)، فمن لم يصدق بمعجزة ماثلة ناطقة بالتحدي في كل آن وداعية الناس الى معارضتها فمن باب أولى أن يكذب بسائر المعجزات الأخرى، وليست القضية قضية أتباع ومتبوعين لاسيما بعد مضي زمان تلكم المعجزات. ثالثاً: 1- قطعية الصدور: أ- قطعية صدور القرآن لا تحتاج إلى دليل خارج التواتر، وإلا لم يكن قطعيا، والتواتر عبر الاجيال انتهاءا الى زمان الرسول صلى الله عليه وآله هو من اسباب حصول القطع، وليس هو من قبيل الادعاءات، لان الادعاء هو أن يزعم البعض أن القرآن قطعيا مع كونه ليس كذلك لعدم استناد القطع إلى سبب واضح يزول معه الشك، كما أن الادعاء إنما يكون في زمان محدد ولا يستمر على مدى الأزمنة، لأنه إن استمر على مدى الازمنة وتم تلقيه بالقبول فمن المحال أن يكون ادعاءا. ب- نفي تهمة تحريف القرآن من جميع الاطراف ولو بضميمة اتهام الطرف الآخر بالقول بالتحريف دلالة على عدم التحريف، لأن دفع تهمة تحريف القرآن من كل طرف عن نفسه هو القدر المتيقن، وليس القدر المتيقن هو التهمة نفسها. وأما الروايات التي تتضمنها التهمة بالتحريف سواء أكانت من طرف أو من الطرف الآخر فيعارضها عشرات الادلة النافية للتحريف مما يأتي به كل طرف، فما ذكرتموه ليس بتام، وإن هو إلا محاولة بائسة لجعل القدر المتيقن هو التهمة المنفية (التي يفندها كلا الطرفين) لأجل اثبات التحريف، وهذا خلاف الحق. ج- لو لم يكن جبريل عليه السلام هو الذي أوحى بالقرآن إلى محمد صلى الله عليه وآله عن الله عزوجل، وأن الموحي كان شيطانا أو جنا أو نحو ذلك لكان ينبغي أن لا نجد مدحا لجبريل عليه وغيره من الملائكة في القرآن الكريم، كما ينبغي أن لا يأتي ذم الشيطان وحبائله ومكائده واضاليله وأعوانه، وأيضا لكان الواجب أن لا تذكر في القرآن فروض الايمان والدعوة إلى محاسن الاخلاق وفضائل الاعمال مع استقباح الشر والظلم والفساد والضلال والمفاسد جميعا، ولو جاز أن يكون هذا الآمر أو الموحي شيطانا لجاز أن تنقلب المفاهيم وتضيع الحقائق وتتعطل العقول. د- عصمة جبريل بل سائر الملائكة عليهم السلام ثابتة بشهادة القرآن الكريم، على الاقل في تبليغ الوحي، ويكفي في ثبوت عصمة التبليغ قوله تعالى: (( وَلِلَّهِ يَسجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ مِن دَابَّةٍ وَالمَلَائِكَةُ وَهُم لَا يَستَكبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِن فَوقِهِم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ )) (النحل:49-50) وقال في طائفة من ملائكته: (( مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ )) (التحريم:6). وتثبت عصمة جبريل بالدليل العقلي بالاستناد إلى وظيفته في التبليغ ووساطته بين المرسل والمرسل إليه، فلو لم يكن معصوما لكان معنى ذلك أن يعطي الله تعالى هذه الوظيفة وهذه المهمة لوسيط ليس جديرا بها، مما يترتب عليه والعياذ بالله القول بجهل الله (تعالى عن الجهل علوا كبيرا)، حيث لم يحسن اختيار من يصلح لأداء مهمة الوحي. هـ- لا يمكن أن يكون القرآن الكريم من تأليف محمد صلى الله غليه وآله مما يمكن معه اتهامه بالكذب وحاشاه، وذلك لأمور من أهمها أن ما ورد في القرآن الكريم من الحقائق والاخبار والشرائع والاحكام علاوة على نظمه وبلاغته لا يمكن أن يأتي بكل ذلك رجل لا صلة له بالوحي، والمعروف الثابت أن محمدا صلى الله عليه وآله كان أمياً ولم يطلع على شيء من ثقافات الامم السابقة فكيف له يا ترى أن يؤلف كتابا بمثل هذا الإحكام؟ وليس هو من نتاج العبقرية البشرية لان الانسان العبقري لا يمكنه أن يخبر عن تفاصيل الغيب سواء منه ما مضى أو ما سوف يأتي ولا يسعه أن يضع هذا الدستور الشامل من التعاليم والأصول والمباديء والشرائع من دون طروء التناقض والتعارض والاختلاف... ز- حالات الصرع والهلوسة والهستيريا لا يمكن لها أن تنتج كتابا بمثل دقة القرآن وعقلانيته وترابط اجزائه وابعاضه وشهادة كل فقرة منه على اختها من جهة التنظيم والحكمة والعلم... المصاب بالهلوسة تصدر عنه كلمات لا تنظيم فيها ولا مناسبة معقولة لذكرها سوى الإصابة بالعارض الذي ربما يكون من الجن او الشياطين أو يكون نتيجة لافرازات العقل الباطن الذي يصحو حال العارض لبرهة ثم يزول. 2- قطعية الدلالة: أ- تثبت هذه الدعوى بعجز البلغاء عن معارضة القرآن الكريم، واعتراف بعضهم بأنه أعلى رتبة من كلام البشر، ويكفي في المقام أن نستشهد بكلام سيد البلغاء والمتكلمين علي بن ابي طالب عليه السلام الذي قال فيه: ((وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به)) وقوله: ((وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص)). وقال عليه السلام في بعض خطبه في نهج البلاغة: ((واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب. وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان في عمى. واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال. فاسألوا الله به وتوجهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله. واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدق . وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة: "ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن" فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم . العمل العمل، ثم النهاية النهاية. والاستقامة الاستقامة، ثم الصبر الصبر، والورع الورع)) الخطبة. ب- من زعم أن أحدا قد تمكن من معارضة القرآن في الماضي أم في الحاضر فعليه أن يأتي بتلك المعارضة، مع أنه لو وجدت ثمة معارضة له لظهرت وانتشر خبرها، من دون حاجة الى استقصاء وبحث، لأنها لو حصلت لطارت في الآفاق عبر اعداء القرآن وخصوم الاسلام، ولجعلوها دليلا على المناقضة وقبول التحدي. ت- الاعجاز والتعجيز سيان، ومادام القوم قد عجزوا عن الإتيان بما يعارضه حينما تحداهم بأن يأتوا ولو بسورة من مثله ولم يتمكنوا من ذلك فقد ثبت كونه معجزا. وأما ما ذكره البعض من عزو اعجازه إلى الصرفة دون البلاغة، فيثبت بثبوت أحدهما إعجازه وهو المطلوب. وأما عزوه الى الجن فقد تم رد هذه الشبهة حينما أجبنا على اشكال من افترض نسبته الى الشيطان فالكلام هناك هو الكلام هنا من دون فرق. رابعاً: احتمال السحر منفي، لأن تهمة السحر تقتضي أن يكون العرب قد علموا عن محمد صلى الله عليه وآله قبل البعثة تعاطية للسحر، والحال أن هذا لم يحصل الا بعد البعثة، فإنهم قد وصفوه قبلها بالصادق الأمين، واتهام النبي محمد صلى الله عليه وآله بالسحر قضية يمكن ردها بما ذكرناه. وأما شهادات غير المسلمين بعظمة الرسول صلى الله عليه وآله فهو من قبيل الفضل الذي شهدت به الاعداء، وحينما تتفق آراء بعض العلماء والباحثين والمستشرقين من الملل الاخرى على تنزيهه وتعظيمه صلى الله عليه وآله فإن تلك الآرء تصلح أن تكون شهادات ضد خصومه الآيديولوجيين الذين يحاولون الإساءة إليه. وتلك الشهادات بانفرادها لا ترتقي إلى رتبة الحجة والدليل العلمي ولكن باجتماعها تكون حجة لتأييد لقول المسلمين، فلا يقال بعدها ان المسلمين فقط هم من شهد لمحمد صلى الله عليه وآله بالفضل، بل يؤيدها كذلك أقوال وشهادات غير المسلمين. ودمتم في رعاية الله