السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سؤال. ماهو اليقين ممكن شرح مفصل
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أهلاً وسهلاً بكم في برنامج المجيب
إنّ اليقين صفة ذات مراتب ودرجات، وليس كل المؤمنين الموقنين على درجة واحدة من اليقين، فاليقين عند الأنبياء (عليهم السلام) غير اليقين عند الأوصياء، ويقين الأوصياء غير يقين العلماء، ويقين الشهداء غير يقين الآخرين، وهكذا الأمثل فالأمثل.
ولاريب في أن للعلم واليقين مراتب ودرجات، وأعلى مرتبة للعلم واليقين هي مرتبة عين اليقين التي تحصل بالمشاهدة بصورة مباشرة، فقد قال الله عَزَّ و جَلَّ في سورة التكاثر: ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ ، فقد يبلغ الإنسان مرتبة علم اليقين وقد يتجاوز علمه هذه المرتبة و يبلغ أعلى مراتب اليقين و هي مرتبة عين اليقين فيكون كالمشاهد عياناً دون حجاب، و قول أمير المؤمنين عليه السلام: " لَوْ كُشِفَ [لِيَ] الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً"، يشير إلى أنّه قد بلغ أعلى مراتب اليقين فكان كالمشاهد عياناً، فكان رغم وجود الموانع المادية التي تعيق المشاهدة العينية كالذي رأى بأم عينيه عالم الآخرة والحساب والجنة والنار مباشرة.
و لقد كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله قد نالوا بعض مراتب اليقين، و من هؤلاء حارثة بن مالك فقد روى أبو بصير عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنّه قال: اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله حَارِثَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيَّ ، فَقَالَ لَهُ: "كَيْفَ أَنْتَ يَا حَارِثَةَ بْنَ مَالِكٍ"؟
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ حَقّاً. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله: "لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ ، فَمَا حَقِيقَةُ قَوْلِكَ"؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرَتْ لَيْلِي وَ أَظْمَأَتْ هَوَاجِرِي وَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي- [وَ] قَدْ وُضِعَ لِلْحِسَابِ، وَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِي الْجَنَّةِ، وَ كَأَنِّي أَسْمَعُ عُوَاءَ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله: "عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ ، أَبْصَرْتَ فَاثْبُتْ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يَرْزُقَنِي الشَّهَادَةَ مَعَكَ. فَقَالَ: "اللَّهُمَّ ارْزُقْ حَارِثَةَ الشَّهَادَةَ ". فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا أَيَّاماً حَتَّى بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله سَرِيَّةً فَبَعَثَهُ فِيهَا، فَقَاتَلَ فَقَتَلَ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً ثُمَّ قُتِلَ.
والإيمان دعامة عمل الإنسان وتحركه، ما لم ينجذب الإنسان إلى شيء وينشدّ إليه قلبه فلن يتحرك فـي سبيله.
الإيمان يختلف عن العلم. أحياناً يدرك الإنسان حقيقةً ما لكنه لا ينجذب إليها. أي أن العلم والاطلاع على صدق الفكرة لا يكفي لحصول الإيمان. ثمة شيء لابد منه إضافة إلى هذا العلم. وطبعاً، الإيمان بدوره غير متاح من دون العلم ـ لا معنى للإيمان إلى جانب الشك والارتياب ـ غير أن العلم لوحده أيضاً لا يكفي للإيمان. تلاحظون أن القرآن يقول حول قضايا موسى وفرعون: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً﴾ . أي أن موسى حين أطلق دعوته أدرك الملأ الفرعونـي أنه صادق وأن كلامه الحق، ولكن بعد أن جاء موسى بهذه المعجزة العجيبة، وبعد أن اعترف السحرة والمشعوذون أنفسهم ـ والذين جرى التصور أن عمل موسى هو أيضاً من قبيل أعمالهم ـ أن هذا ليس من سنخ أعمالهم وسجدوا رغم تهديدات فرعون، وآمنوا بموسى وتقبلوا الموت، اتضح للملأ أن موسى ينطق بالحق، لكنهم مع ذلك أنكروا. لماذا؟ السبب هو ﴿ظلماً وعلواً﴾ . لأن استكبارهم وأهواءهم النفسية والظلم الذي أرادوا ممارسته لم يسمح لهم بالتسليم.
الإيمان والانجذاب ضربٌ من التسليم، التسليم لحقيقة من الحقائق فأحياناً يدرك الإنسان الحقيقة لكنه لا يُسلِّم قلبه لها بل يقف بوجهها، لذلك تلاحظون أنّ ما يقابل العلم هو الجهل والشك، أمّا فـي مقابل الإيمان فلا يأتون بالجهل، بل يواجهونه بالكفر، أي التغطية والتعتيم فأحياناً يقتنع الإنسان بحقيقة ما لكنه يخفيها ويسترها، فالموقف المضاد للإخفاء هو الإيمان، أي الهيام والانجذاب والخضوع، وتقبل الحقيقة بكل الوجود والتسليم لها. كل ما تتصورونه حقيقة، إذا آمنتم به فسيكون هذا أساس عملكم.
من بداية عصر الفلسفة كان هذا السؤال مطروحاً، حيث ادعى السفسطائيون استحالة معرفة الواقع، ثم تبعهم من عرف بالشكاكين، لكن بعض الإتجاهات الفلسفية كانت تقول بالإمكانية، مع الاختلاف في الكيفية، وهل أنّها بالتجارب الحسية وهم التجريبيون، أم بالعقل.
وقد تعمّق وتوسع البحث حول هذا السؤال في العصر الحديث، ويمكن القول أنّ الإتجاه الشكي هو الذي غلب، خصوصاً بعد أطروحة ديكارت، ثم أخذت الفرضيات العلمية تتكاثر في هذا السياق، وفي ضوئها جاءت الهرمنوطيقا وبعض فرضيات الأنثروبولوجيا وعلم تاريخ الأديان الحديث، التي تقول بنسبية المعرفة، ومع ذلك فقد برز في الغرب بعض المناهضين اليقينيين.
أمّا النص القرآني فقد أجابنا عن ذلك بأسلوب واضح وعملي، من خلال حديثه في سور ثلاث عن إبراهيم الخليل، ففي سورة الصافات قال سبحانه: ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾. وهو القلب السليم من الشك كما في التفسير الروائي لعلي بن إبراهيم.
وفي سورة الأنعام والبقرة بيّنت الآيات كيفية إحرازه لليقين، وذلك عبر طريقين:
١- إختبار الأفكار الخارجية (الطارئة من الخارج)، من خلال تشكيكه في معتقدات قومه.
٢- البحث عن أدلة واقعية للأفكار الداخلية، كما في طلبه من الله سبحانه كيفية إحياء الموتى.
ودمتم في رعاية الله وحفظه.