ابو إلياس - المغرب
منذ 4 سنوات

 معنى قوله تعالى (لم تحرم ما أحل الله لك)

تفسير قول الله تعالى في سورة هود (( خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ )) هل الخلود أبدي أو مقرون بالسماوات والأرض؟


الأخ أبا إلياس المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي  ج 11  ص 23 – 28 : وقوله : (( ما دامت السماوات والأرض )) نوع من التقييد يفيد تأكيد الخلود والمعنى دائمين فيها دوام السماوات والأرض لكن الآيات القرآنية ناصة على أن السماوات والأرض لا تدوم دوام الأبد وهي مع ذلك ناصة على بقاء الجنة والنار بقاء لا إلى فناء وزوال . ومن الآيات الناصة على الأول قوله تعالى : (( ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى )) (الأحقاف:3), وقوله : (( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين )) (الأنبياء:104), وقوله : (( والسماوات مطويات بيمينه )) (الزمر:67), وقوله : (( إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا )) (الواقعة:6) . ومنها في النص على الثاني قوله تعالى : (( جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا )) (التغابن:9 ), وقوله : (( وأعدلهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا )) (الأحزاب:65). وعلى هذا يشكل الامر في الآيتين من جهتين : أحدهما تحديد الخلود المؤبد بمدة دوام السماوات والأرض وهما غير مؤبدتين لما مر من الآيات . وثانيتهما تحديد الامر الخالد الذي تبتدئ من يوم القيامة وهو كون الفريقين في الجنة والنار واستقرارهما فيهما, بما ينتهي أمد وجوده إلى يوم القيامة وهو السماوات والأرض, وهذا الاشكال الثاني أصعب من الأول لأنه وارد حتى على من لا يرى الخلود في النار أو في الجنة والنار معا بخلاف الأول . والذي يحسم الاشكال أنه تعالى يذكر في كلامه أن في الآخرة أرضا وسماوات وإن كانت غير ما في الدنيا بوجه, قال تعالى : (( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار )) (إبراهيم:48), وقال حاكيا عن أهل الجنة : (( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوء من الجنة حيث نشاء )) (الزمر:74), وقال يعد المؤمنين ويصفهم : (( أولئك لهم عقبى الدار )) (الرعد:22) . فللآخرة سماوات وأرض كما أن فيها جنة ونارا ولهما أهلا, وقد وصف الله سبحانه الجميع بأنها عنده, وقال : (( ما عندكم ينفد وما عند الله باق )) (النحل:96) فحكم بأنها باقية غير فانية . وتحديد بقاء الجنة والنار وأهلهما بمدة دوام السماوات والأرض إنما هو من جهة أن السماوات والأرض مطلقا ومن حيث إنهما سماوات وأرض مؤبدة غير فانية, وإنما تفنى هذه السماوات والأرض التي في هذه الدنيا على النظام المشهود, وأما السماوات التي تظل الجنة مثلا والأرض التي تقلها وقد أشرقت بنور ربها فهي ثابتة غير زائلة فالعالم لا تخلو منهما قط, وبذلك يندفع الاشكالان جميعا . وقد أشار في الكشاف إلى هذا الوجه إجمالا حيث قال : " والدليل على أن لها سماوات وأرضا قوله سبحانه :  (( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات )) وقوله سبحانه :  (( وأورثنا الأرض نتبوء من الجنة حيث نشاء )) ولأنه لابد لأرض الآخرة مما تقلهم وتظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش, وكل ما أظلك فهو سماء " انتهى . وإن كان الوجه الذي أشار إليه ثانيا سخيفا لأنه إثبات للسماء والأرض من جهة الإضافة وأن الجنة والنار لابد أن يتصور لهما فوق وتحت فيكون الجنة والنار أصلا وسماؤهما وأرضهما تبعين لهما في الوجود, ولازمة تحديد بقاء سمائهما وأرضهما بمدة دوامها لا بالعكس كما فعل في الآية . على أن لازم هذا الوجه لزوم أن يتحقق للجنة والنار أرض وسماء وأما السماوات بلفظ الجمع كما في الآية فلا, فيبقى الاشكال في السماوات على حاله . وبما تقدم يندفع أيضا ما أورده عليه القاضي في تفسيره حيث قال : وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه . انتهى . ومراده أن الآية تشبه دوام الجنة والنار بأهلهما بدوام السماوات والأرض فلو كان المراد بهما سماوات الآخرة وأرضها ولا يعرف أكثر الخلق وجودها ودوامها كان ذلك من تشبيه الاجلى بالأخفى وهو غير جائز في الكلام البليغ . وجوابه : أنا إنما عرفنا دوام الجنة والنار بأهلهما من كلامه تعالى كما عرفنا وجود سماوات وأرض لهما وكذا أبدية الجميع من كلامه فأي مانع من تحديد إحدى حقيقتين مكشوفتين من كلامه من حيث البقاء بالأخرى في كلامه, وإن كانت إحدى الحقيقتين أعرف عند الناس من الأخرى بعد ما كانت كلتاهما مأخوذتين من كلامه لا من خارج . ويندفع به أيضا ما ذكره الآلوسي في ذيل هذا البحث أن المتبادر من السماوات والأرض هذه الاجرام المعهودة عندنا فالأولى أن يلتمس هناك وجه آخر غير هذا الوجه انتهى ملخصا . وجه الاندفاع أن الآيات القرآنية إنما تتبع فهم أهل اللسان في مفاهيمها الكلية التي تعطيها اللغة والعرف, وأما في مقاصدها وتشخيص المصاديق التي تجرى عليها المفاهيم فلا, بل السبيل المتبع فيها هو التدبر الذي أمر به الله سبحانه وإرجاع المتشابه إلى المحكم وعرض الآية على الآية فإن القرآن يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض ويصدق بعضه بعضا - كما في الروايات - فليس لنا إذا سمعناه تعالى يقول : إنه واحد أحد أو عالم قادر حي مريد سميع بصير أو غير ذلك أن نحملها على ما هو المتبادر عند العرف من المصاديق بل على ما يفسرها نفس كلامه تعالى ويكشفه التدبر البالغ من معانيها, وقد استوفينا هذا البحث في الكلام على المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب . وقد وردت في الروايات وفي كلمات المفسرين توجيهات أخرى للآية نورد منها ما عثرنا عليه, وليكن الذي أوردناه أولها . الوجه الثاني : أن المراد سماوات الجن ة والنار وأرضهما أي ما يظلهما وما يقلهما فإن كل ما علاك وأظلك فهو سماء وما استقرت عليه قدمك فهو أرض, وبعبارة أخرى المراد بهما ما هو فوقهما وما تحتهما . وهذا هو الوجه الذي ذكره الزمخشري في آخر ما نقلناه من كلامه آنفا, وقد عرفت الاشكال فيه على أن هذا الوجه لا يفي لبيان السبب في إيراد السماوات في الآية بلفظ الجمع كما تقدم . الوجه الثالث : أن المراد ما دامت الآخرة وهي دائمة أبدا كما أن دوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بقائها, ولعل المراد أن قوله " ما دامت السماوات والأرض " موضوع وضع التشبيه كقولك : كلمته تكليم المستهزئ الهازئ به أي مثل تكليم من يستهزئ ويهزء به . وفيه : أنه لو أريد بذلك التشبيه كما ذكرناه أفاد خلاف المقصود أعني الانقطاع, ولو أريد غير ذلك لم يف بذلك اللفظ . الوجه الرابع : أن المراد به التبعيد وأفادة الأبدية لا أن المراد به التحديد بمدة بقاء السماوات والأرض بعينها فأن للعرب ألفاظا كثيرة يستخدمونها في إفادة التأييد من غير إن يريدوا بها المعاني التي تحت تلك الألفاظ كقولهم : الامر كذا وكذا ما اختلف الليل والنهار, وما ذر شارق, وما طلع نجم, وما هبت نسيم, وما دامت السماوات وقد استراحوا إليها وإلى أشباهها ظنا منهم أن هذه الأشياء دائمة باقية لا تبيد إبدا ثم استعملوها كأنها موضوعة للتبعيد . وفيه : أنهم إنما استعملوها في التأبيد وأكثروا منه ظنا منهم أن هذه الأمور دائمة مؤبدة, وأما من يصرح في كلامه بأنها مؤجلة الوجود منقطعة فانية ويعد الايمان بذلك إحدى فرائض النفوس فلا يحسن منه وضعها في الكلام موضع التأبيد بأي صورة تصورت . كيف لا ؟ وقد قال تعالى : (( ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى )) (الأحقاف:3) وكيف يصح مع ذلك أن يقال : إن الجنة والنار خالدتان أبدا ما دامت السماوات والأرض . الوجه الخامس : أن يكون المراد أنهم خالدون بمده بقاء السماوات والأرض التي يعلم انقطاعها ثم يزيدهم الله سبحانه على ذلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم, وهذا مثل أن يقال : هم خالدون كذا وكذا سنة, ثم يضيف تعالى إلى ذلك ما لا يتناهى من الزمان كما يقال في قوله تعالى : (( لابثين فيها أحقابا )) (النبأ:23) أي أحقابا ثم يزادون على ذلك . وفيه : أنه على الظاهر مبني على استفاده بعض المدة من قوله : (( ما دامت السماوات والأرض )) والبعض الآخر الذي لا يتناهى من قوله : (( إلا ما شاء ربك )) ودلالته على ذلك تتوقف على تقدير أمور لا دلالة عليه من اللفظ أصلا . الوجه السادس : أن المراد بالنار والجنة نار البرزخ وجنتها وهما خالدتان ما دامت السماوات والأرض, وإذا انتهت مدة بقاء السماوات والأرض بقيام القيامة خرجوا منها لفصل القضاء في عرصات المحشر . وفيه : أنه خلاف سياق الآيات فإن الآيات تفتتح بذكر يوم القيامة وتوصيفها بما له من الأوصاف, ومن المستبعد أن يشرع في البيان بذكر أنه يوم مجموع له الناس, وأنه يوم مشهود, وأنه يوم إذا أتى لا تكلم نفس إلا بإذنه حتى إذا أتصل بأخص أوصافه وأوضحها وهو الجزاء بالجنة والنار الخالدتين عدل إلى ذكر ما في البرزخ من الجنة والنار الخالدتين إلى ظهور يوم القيامة المنقطعتين به . على أن الله سبحانه يذكر عذاب أهل البرزخ بالعرض على النار لا بدخول النار قال تعالى : (( وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب )) (المؤمنون:46) . الوجه السابع : إن المراد بدخول النار الدخول في ولاية الشيطان وبالكون في الجنة الكون في ولاية الله فإن ولاية الله هي التي تظهر جنة في الآخرة يتنعم فيها السعداء . وولاية الشيطان هي التي تتصور بصورة النار فتعذب المجرمين يوم القيامة كما تفيده الآيات الدالة على تجسم الأعمال . فالأشقياء بسبب شقائهم يدخلون النار وربما خرجوا منها إن أدركتهم العناية والتوفيق كالكافر يؤمن بعد كفره والمجرم يتوب عن إجرامه, والسعداء يدخلون الجنة بسعادتهم وربما خرجوا منها إن أضلهم الشيطان وأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم كالمؤمن يرتد كافرا والصالح يعود طالحا . وفيه : ما أوردناه على سابقه من كونه خلاف ما يظهر بمعونة السياق فإن الآيات تعد ما ليوم القيامة من الأوصاف الخالصة الهائلة المدهشة التي تذوب القلوب وتطير العقول باستماعها والتفكر فيها لتنذر به أولوا الاستكبار والجحود من الكفار ويرتدع به أهل المعاصي والذنوب . فيستبعد أن يذكر فيها إنه يوم مجموع له الناس ويوم مشهود ويوم لا تتكلم فيه نفس إلا بإذنه ثم يذكر أن الكفار وأهل المعاصي في نار منذ كفروا وأجرموا إلى يوم القيامة وأهل الايمان والعمل الصالح في جنة منذ آمنوا وعملوا صالحا فإن هذا البيان لا يلائم السياق - أولا - من جهة إن الآيات تذكر أوصاف يوم القيامة الخاصة به لا ما قبله المنتهي إليه, و - ثانيا - من جهة أن الآيات مسوقة للانذار والتبشير, وهؤلاء الكفار والمجرمون أهل الاستكبار والطغيان لا يعبؤن بمثل هذه الحقائق المستورة عن حواسهم, ولا يرون لها قيمة ولا ينتهون بالخوف من مثل هذه الشقاوة والرجاء لمثل هذه السعادة المعنوية وهو ظاهر, نعم هو معنى صحيح في نفسه في باطن القرآن . وههنا وجوه أخر يمكن أن يستفاد من مختلف أنظارهم في تفسير قوله تعالى : (( إلا ما شاء ربك )) طوينا ذكرها ههنا إيثارا للاختصار ولأنها تشترك مع الوجوه الآتية التي سنوردها في تفسير الجملة, ما يرد عليها من الاشكال فنكتف بذلك . ودمتم في رعاية الله

2