تواتر الروايات في شأن نزول آية الولاية
الاستدلال بروايات التصدّق بالخاتم. سنذكر أوّلاً؛ جميع الروايات التي وردت مسندة من طرق القوم في هذا الشأن، ونتكلّم في أسانيدها، ثمّ ننظر في متونها: الرواية الأولى: ((الصدوق: أخبرني علي بن حاتم، قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن سعد (سعيد) الهمداني، قال: حدّثنا جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: حدّثنا كثير بن عياش، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر، في قول الله عزّ وجلّ: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا )) (المائدة:55)، قال: ((إنّ رهطاً من اليهود أسلموا، منهم: عبد الله بن سلام، وأسد، وثعلبة، وابن خيامين، وابن صوريا، فأتوا النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقالوا: يا نبيّ الله! إنّ موسى(عليه السلام) أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله؟ ومن وليّنا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ )) ، ثمّ قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (قوموا)، فقاموا فأتوا المسجد، فإذا سائل خارج، فقال: (يا سائل! أما أعطاك أحد شيئاً؟) قال: نعم، هذا الخاتم، قال: (من أعطاكه؟) قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلّي، قال: (على أي حال أعطاك؟) قال: كان راكعاً، فكبر النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكبر أهل المسجد، فقال النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (عليّ بن أبي طالب وليّكم بعدي)، قالوا: رضينا بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد نبيّاً، وبعليّ بن أبي طالب وليّاً، فأنزل الله عزّ وجلّ: (( وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزبَ اللَّهِ هُم الغَالِبُونَ )) (المائدة:56) )) (1) . أقول: كثير بن عياش، ضعيف (2) . أمّا أبو الجارود زياد بن المنذر، فهو زيدي المذهب، والاختلاف فيه بيّن عند القوم، والأكثر على ذمّه، والخوئي بعد أن أورد الروايات الذامّة فيه على لسان الباقر والصادق ضعّف بعضها واضطرب في أُخرى، وخلص إلى القول بأنّه ثقة، فقط لوقوعه في أسانيد (كامل الزيارات)، وقد شهد ابن قولويه بوثاقة جميع رواتها، ولشهادة علي بن إبراهيم في (تفسيره) بوثاقة كلّ من وقع في إسناده (3) . أمّا وثاقة كلّ من وقع في أسانيد (كامل الزيارات) فقد أوقفناك على بطلان ذلك، وذكرنا استظهار بعضهم من أنّ قول ابن قولويه هذا إنّما هو محمول على مشايخه الذين صدّر بهم أسانيد روايات كتابه، لا كلّ من ورد في أسناد الروايات، ويكفيك دليلاً على ذلك: روايتنا هذه؛ فعلي بن حاتم من شيوخ ابن قولويه، وهو وإن كان ثقة في نفسه إلاّ أنّه يروي عن الضعفاء، كما ذكرنا.. وأمّا القول في وثاقة كلّ من وقع في أسانيد (تفسير القمّي) فستقف عليه قريباً إن شاء الله. الرواية الثانية: ((الصدوق: حدّثنا أحمد بن الحسن القطّان، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن محمد الحسني، قال: حدّثني أبو جعفر محمد بن حفص الخثعمي، قال: حدّثنا الحسن بن عبد الواحد، قال: حدّثني أحمد بن التغلبي، قال: حدّثني أحمد بن عبد الحميد، قال: حدّثني حفص بن منصور العطّار، قال: حدّثنا أبو سعيد الورّاق، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال... - وذكر حديثاً طويلاً فيه قول عليّ بن أبي طالب لأبي بكر رضي الله عنه - قال: (أنشدك بالله ألي الولاية من الله مع ولاية رسول الله في آية زكاة الخاتم أم لك؟) قال: بل لك)) (4) . أقول: سند هذه الرواية ظلمات بعضها فوق بعض، وحسبنا قول محقّق الكتاب فيه: الظاهر هو - أي: التغلبي - أحمد بن عبد الله بن ميمون التغلبي؛ قال ابن حجر: ثقة زاهد، وأمّا بقية رجال السند فمهملون أو مجاهيل (5) ، وهو كما قال. الرواية الثالثة: ((الصدوق: حدّثنا أحمد بن الحسن القطّان، ومحمد بن أحمد السناني، وعلي بن موسى الدقّاق، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هاشم المكتب، وعلي بن عبد الله الورّاق، قالوا: حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن يحيى بن زكريا القطاّن، قال: حدّثنا بكر بن عبد الله بن حبيب، قال: حدّثنا تميم بن بهلول، قال: حدّثنا سليمان بن حكيم، عن ثور بن يزيد، عن مكحول، قال:... - وذكر حديثاً طويلاً جداً في احتجاج الأمير على الصديق رضي الله عنهما، قال فيه: - (كنت أصلّي في المسجد، فجاء سائل فسأل وأنا راكع، فناولته خاتمي من إصبعي، فأنزل الله تبارك وتعالى فِيّ: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ )) ) )) (6) . أقول: سند هذه الرواية كسابقتها، فالسناني (7) ، والورّاق، والمكتب، وتميم بن بهلول، وابن زكريا القطّان، وثور بن يزيد جميعهم مجهولون (6) ، والبقية تقدّمت تراجمهم. الرواية الرابعة: ((الكليني: عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محمد الهاشمي، عن أبيه، عن أحمد بن عيسى، عن أبي عبد الله، في قول الله عزّ وجلّ: (( إنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا )) ، قال: إنّما يعني أولى بكم، أي: أحقّ بكم وبأموركم وأنفسكم وأموالكم (الله ورسوله والذين آمنوا) يعني: عليّاً وأولاده الأئمّة إلى يوم القيامة، ثمّ وصفهم الله عزّ وجلّ، فقال: (( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ )) وكان أمير المؤمنين في صلاة الظهر وقد صلّى ركعتين وهو راكع وعليه حلّة قيمتها ألف دينار، وكان النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كساه إياها، وكان النجاشي أهداها له، فجاء سائل فقال: السلام عليك يا ولّي الله وأولى بالمؤمنين من أنفسهم، تصدّق على مسكين، فطرح الحلّة إليه، وأومأ بيده إليه أن احملها: فأنزل الله عزّ وجلّ فيه هذه الآية، وصيّر نعمة أولاده بنعمته، فكلّ من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله، فيتصدّقون وهم راكعون، والسائل الذي سأل أمير المؤمنين من الملائكة، والذين يسألون الأئمّة من أولاده يكونون من الملائكة)) (9) . أقول: حسب الرواية هذه أنّ في سندها ضعفاء ومجاهيل؛ فمعلى بن محمد مضطرب الحديث والمذهب، ويروي عن الضعفاء (10) ، ورغم هذا يقول عنه الخوئي: الظاهر أنّ الرجل ثقة يعتمد على رواياته. وأمّا قول النجاشي من اضطرابه في الحديث والمذهب، فلا يكون مانعاً من وثاقته؛ وأمّا اضطرابه في المذهب فلم يثبت كما ذكره بعضهم، وعلى تقدير الثبوت فهو لا ينافي الوثاقة؛ وأمّا اضطرابه في الحديث فمعناه أنّه قد يروي ما يعرف، وقد يروي ما ينكر، وهذا أيضاً لا ينافي الوثاقة.. وأنّ روايته عن الضعفاء على ما ذكره ابن الغضائري، فهي على تقدير ثبوتها لا تضر بالعمل بما يرويه عن الثقات؛ فالظاهر أنّ الرجل معتمد عليه، والله أعلم. أقول: والظاهر أنّ الخوئي اضطر إلى كلّ هذا؛ لأنّ صاحبنا وقع في أسانيد كتاب (كامل الزيارات) لابن قولويه، وقد عرفت رأيه في ذلك. والحسن بن محمد الهاشمي ضعيف (11) ، وأبوه (12) وأحمد بن عيسى مجهولان (13) . الرواية الخامسة: ((الطبرسي، حدّثنا أبو الحمد مهدي بن نزار الحسني القايني، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني، قال: حدّثنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه الصيدلاني، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الشعراني، قال: حدّثنا أبو علي أحمد بن علي بن رزين البياشاني، قال: حدّثني المظفّر بن الحسين الأنصاري، قال: حدّثنا السدّي بن علي الورّاق، قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية بن ربعي، قال: بينا عبد الله بن عبّاس جالس على شفير زمزم يقول: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): إذ أقبل رجل متعمّم بعمامة، فجعل ابن عبّاس لا يقول: قال رسول الله، إلا قال الرجل: قال رسول الله، فقال ابن عبّاس: سألتك بالله من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه، وقال: يا أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي، أنا جندب بن جنادة البدري أبو ذرّ الغفاري، سمعت رسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهاتين وإلاّ فَصُمَّتَا، ورأيته بهاتين وإلاّ فعميتا، يقول: (عليّ قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله)، إنّي صلّيت مع رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوماً صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئاً، فرفع السائل يده إلى السماء، وقال: اللّهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً، وكان عليّ راكعاً، فأومأ بخنصره اليمنى إليه وكان يتختم فيها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم). فلمّا فرغ النبيّ من صلاته رفع رأسه إلى السماء، وقال: (اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال: (( قَالَ رَبِّ اشرَح لِي صَدرِي * وَيَسِّر لِي أَمرِي * وَاحلُل عُقدَةً مِن لِسَانِي * يَفقَهُوا قَولِي * وَاجعَل لِي وَزِيراً مِن أَهلِي * هَارُونَ أَخِي * اشدُد بِهِ أَزرِي * وَأَشرِكهُ فِي أَمرِي )) (طه:25-32) فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: (( قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجعَلُ لَكُمَا سُلطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيكُمَا )) (القصص:35)، اللّهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك، اللّهمّ فاشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي، عليّاً اشدد به ظهري)، قال أبوذر: فوالله ما استتم رسول الله الكلمة حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله، فقال: يا محمد، اقرأ، قال: ما أقرأ؟ قال: اقرأ: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا )) )) (14) . أقول: آفة هذه الرواية: عباية بن ربعي؛ فهو مجهول عند القوم (15) ، وغالٍ وملحد ومتروك الحديث عند أهل السُنّة، وابن الربيع مجهول الحال عند القوم وهو من البترية (16) ، والحماني قال فيه الخوئي: إنّه لم تثبت وثاقته (17) ، وكذا قال فيه البعض من أهل السُنّة واتّهموه بسرقة الحديث، وبقية السند لم أقف لهم على ترجمة. الرواية السادسة: ((القمّي، حدّثني أبي، عن صفوان، عن أبان بن عثمان، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر، قال: بينما رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) جالس وعنده قوم من اليهود فيهم عبد الله بن سلام، إذ نزلت عليه هذه الآية، فخرج رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المسجد، فاستقبله سائل، فقال: (هل أعطاك أحد شيئاً؟) قال: نعم، ذاك المصلّي. فجاء رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإذا هو عليّ أمير المؤمنين)) (18) . قلت: أمّا والد القمّي إبراهيم بن هاشم رغم كلّ ما قيل فيه، إلاّ أنّه لم يصرّح أحد بوثاقته، حتى قال الحلّي في ذلك: لم أقف لأحدٍ من أصحابنا على قول في القدح فيه، ولا تعديل بالتنصيص، والروايات عنه كثيرة، والأرجح قبول روايته (19) . وقد استمات الخوئي وغيره (20) في إثبات وثاقته ضاربين عرض الحائط كلّ الأمور التي تثبت بها الوثاقة أو الحسن، كنصّ أحد المعصومين، أو نصّ أحد الأعلام المتقدّمين، أو نصّ أحد الأعلام المتأخّرين، أو دعوى الإجماع من قبل الأقدمين، وغيرها من الأُصول التي وضعوها في ذلك، وجاؤوا بأمور لا تخلو من إشكال، منها: قول القمّي نفسه بصحّة كلّ ما ورد في تفسيره. ومنها: وقوعه في أسناد (كامل الزيارات). ولا شك أنّ الخوئي وغيره معذورون في ذلك؛ لأنّ رواياته تبلغ ستة آلاف ومائتين وأربعة عشر مورداً، فعزَّ عليهم إسقاط كلّ ذلك، ولكن الذي ينبغي أن لا نعذر فيه الخوئي ولا غيره على اجتهادهم في إثبات صحّة هذا التفسير، هو تلك المصائب التي ملأ بها القمّي تفسيره؛ كالقول بتحريف القرآن (انظر: قوله في ذلك (22، 23) من تفسيره، وقد ذكرنا نماذج من مروياته في التحريف في الباب الثاني)، والطعن في الصحابة، وقذف أمّهات المؤمنين بالفاحشة.. وغيرها، والروايات في ذلك كثيرة لا يسعنا ذكر شيء منها لعدم مناسبة المقام لذلك. ولكن لا بأس من ذكر مثال على هذا الأخير - وهو قذف أمهات المؤمنين بالفاحشة رضي الله عنهنّ وأرضاهنّ -: روى القمّي في تفسير قوله عزّ وجلّ: (( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمرَأَةَ نُوحٍ وَاِمرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحتَ عَبدَينِ مِن عِبَادِنَا صَالِحَينِ فَخَانَتَاهُمَا )) (التحريم:10): ((عن أبي الحسن، قال: والله ما عنى بقوله: فخانتاهما، إلاّ الفاحشة، وليقيمن الحدّ على فلانة في ما أتت في طريق البصرة، وكان فلان يحبّها، فلمّا أرادت أن تخرج إلى البصرة، قال لها فلان: لا يحلّ لك أن تخرجي من غير محرّم، فزوجت نفسها من فلان)) (21) . ولا شك أنّك عرفت من هو فلان، وفي بعض النسخ جاء التصريح باسمه، وهو: طلحة (22) . ولأمثال هذه الرواية وغيرها طعن بعض المحقّقين (23) من القوم في نسبة التفسير إلى القمّي، أو القول أنّ التفسير ليس للقمّي وحده، وإنّما هو ملفّق ممّا أملاه القمّي على تلميذه أبي الفضل العبّاس، وما رواه التلميذ بسنده الخاص، عن أبي الجارود، عن الإمام الباقر، وأبو الفضل العبّاس هذا ليس له ذكر في الأُصول الرجالية ولا يعرف من هو، وأبو الجارود مرّت ترجمته. ومن الذين فصّلوا القول في هذا: الشيخ جعفر السبحاني، حيث خلص إلى القول: بأنّه كيف يمكن الاعتماد على ما ذكر في ديباجة الكتاب (24) لو ثبت كون الديباجة لعلي بن إبراهيم نفسه؟ وقال: ثمّ إنّ الاعتماد على هذا التفسير بعد هذا الاختلاط مشكل جداً، خصوصاً مع ما فيه من الشذوذ في المتون (25) . ونختم تعليقنا بإيراد هذه الرواية: ((روى الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، قال: استأذن على أبي جعفر قوم من أهل النواحي من الشيعة، فأذن لهم فدخلوا، فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة، فأجاب وله عشر سنين)) (26) . فهذه الرواية مردودة عقلاً، وإسنادها مكون من علي بن إبراهيم وأبيه فقط، فواضع الرواية أحدهما لا محالة، وهما من تصدرا إسناد روايتنا السابقة. الرواية السابعة: ((العيّاشي، عن خالد بن يزيد، عن المعمر بن المكّي، عن إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسن، عن الحسن بن زيد، عن أبيه زيد بن الحسن، عن جدّه، قال: سمعت عمّار بن ياسر، يقول: وقف لعليّ بن أبي طالب سائل وهو راكع في صلاة تطوّع، فنزع خاتمه، فأعطاه السائل، فأتى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأعلمه بذلك، فنزل على النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذه الآية: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ )) ، فقرأها رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) علينا، ثمّ قال: (من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه) )) (27) . أقول: العيّاشي نفسه وإن كان ثقة إلاّ أنّه يروي عن الضعفاء كثيراً (28) ، أمّا تفسيره فجلّ رواياته محذوفة الأسانيد (29) ، وبقية رجال السند غير معروفين وليس لهم ذكر في كتب الرجال، والحسن بن زيد وردت فيه ذموم كثيرة (30) . الرواية الثامنة: ((فرات: حدّثني الحسين بن سعيد معنعناً، عن أبي جعفر، قال: إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يصلّي ذات يوم في مسجد، فمرّ مسكين فقال له رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (هل تُصُدِّقَ عليك بشيء؟) قال: نعم، مررت برجل راكع فأعطاني خاتمه، وأشار بيده، فإذا هو عليّ بن أبي طالب، فنزلت هذه الآية: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ )) ، فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (هو وليّكم من بعدي) )) (31) . الرواية التاسعة: ((فرات: حدّثني جعفر بن أحمد (محمد) معنعناً، عن عبد الله بن عطاء، عن أبي جعفر: نزلت في عليّ بن أبي طالب: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ )) )) (32) . الرواية العاشرة: ((فرات، حدّثني الحسين بن سعيد معنعناً، عن جعفر: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ )) ، نزلت في عليّ بن أبي طالب)) (33) . الرواية الحادية عشرة: ((فرات: حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدّثنا محمد بن الحسين (الحسن) بن أبي الخطّاب، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن ثعلبة بن ميمون، عن سليمان بن طريف، عن محمد بن مسلم، أنّ سلاماً الجعفي قال لأبي جعفر: يا ابن رسول الله، حدّثني عنك خيثمة عن قول الله تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ )) ، أنّ الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب، قال: صدق خيثمة)) (34) . الرواية الثانية عشرة: ((فرات: حدّثني جعفر بن محمد بن سعيد الأحمسي معنعناً، عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، قال: أقبل سائل فسأل رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: (هل سألت أحداً من أصحابي؟) قال: لا، قال: (فائت المسجد فاسألهم، ثمّ عد إليَّ فأخبرني)، فأتى المسجد فلم يعطه أحد شيئاً، قال: فمر بعليّ وهو راكع فناوله يده فأخذ خاتمه، ثمّ رجع إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأخبره، فقال: (هل تعرف هذا الرجل؟) قال: لا، فأرسل معه فإذا هو عليّ بن أبي طالب، قال: ونزلت هذه الآية: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ )) )) (35) . الرواية الثالثة عشرة: ((فرات: حدّثنا الحسين بن الحكم الحبري، قال: حدّثنا حسن بن حسين، قال: حدّثنا حبّان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ )) : نزلت في عليّ بن أبي طالب خاصّة)) (36) . الرواية الرابعة عشرة: ((فرات: حدّثني عبيد بن كثير معنعناً، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ )) : أتى عبد الله بن سلام ورهط معه من مسلمي أهل الكتاب إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند الظهر، فقالوا: يا رسول الله!، بيوتنا قاصية ولا متحدّث لنا دون هذا المسجد، وإنّ قومنا لمّا رأونا قد صدقنا الله ورسوله وتركنا دينهم أظهروا لنا العداوة، وأقسموا أن لا يخالطونا ولا يجالسونا ولا يكلّمونا فشقّ علينا، فبينا هم يشكون إلى النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذ نزلت هذه الآية: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ )) ، فتلا عليهم، فقالوا: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين، وأذّن بلال بالصلاة، وخرج رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المسجد والناس يصلّون بين راكع وساجد وقاعد، وإذا مسكين يسأل فدعاه النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: (هل أعطاك أحد شيئاً؟) قال: نعم، قال: (ماذا؟) قال: خاتم من فضّة، قال: (من أعطاك؟) قال: ذاك الرجل القائم. فإذا هو عليّ بن أبي طالب، قال: (أنّى أعطاك؟) قال: أعطانيه وهو راكع. فزعموا أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) كبَّر عند ذلك يقول: (( وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزبَ اللَّهِ هُم الغَالِبُونَ )) (المائدة:56) )) (37) . الرواية الخامسة عشرة: ((فرات: حدّثني أبو علي أحمد بن الحسين الحضرمي معنعناً، عن ابن عبّاس، قال: لمّا نزلت: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ )) جاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المسجد فإذا سائل فدعاه، فقال: (من أعطاك من هذا المسجد؟) قال: ما أعطاني إلاّ هذا الراكع الساجد - يعني: عليّاً - فقال النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الحمد لله الذي جعلها فِيَّ وفي أهل بيتي)، قال: وكان في خاتم عليّ الذي أعطاه السائل: سبحان من فخري بأنّي له عبد)) (38) . الرواية السادسة عشرة: ((فرات: حدّثنا جعفر بن أحمد معنعناً، عن عليّ، قال: نزلت هذه الآية على نبيّ الله وهو في بيته: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ وَرَسُولُهُ )) إلى قوله: (( وَهُم رَاكِعُونَ )) ، خرج رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فدخل المسجد، ثمّ نادى سائل فسأل، فقال له: (أعطاك أحد شيئاً؟) قال: لا، إلاّ ذاك الراكع أعطاني خاتمه. يعني: عليّاً)) (39) . أقول: المرويات السابقة جميعها من تفسير فرات، وقد أوقفناك على قيمته، وحال مؤلفه، هذا فضلاً عن المجاهيل والمهملين فيها، ناهيك عن عنعنتها وانقطاعها. فالحسين بن سعيد لا أظنّه الأهوازي الثقة، كما توهّم محقّق التفسير في ذكر مشايخه، بل المؤكّد أنّه ليس هو؛ فالأهوازي يروي عن الرضا وأبي جعفر الثاني وأبي الحسن الثالث، فهو في طبقة إبراهيم بن هاشم. وفرات من أعلام الغيبة الصغرى، ومن معاصري الكليني صاحب الكافي، فكيف يروي عن الأهوازي وهو لم يدركه؟ وابن عطاء، وابن طريف، والجعفي، والحبري، مجاهيل عند القوم (40) . وإسماعيل بن إبراهيم، والأحمسي، والحضرمي، لم أقف لهم على ترجمة. وأبو هاشم لم يرد ذكره في الأُصول الرجالية، وقال فيه صاحب (المناقب): كان ثقة جليلاً، ولكن ليس في المناقب المطبوع من هذا شيء، كما ذكر الخوئي (41) ، والكلبي متروك الحديث. وعبيد كذّبه كلّ من ترجم له من الفريقين (42) . الرواية السابعة عشرة: ((الطوسي: المفيد، عن علي بن محمد الكاتب، عن الحسن بن علي الزعفراني، عن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن محمد بن علي، عن العبّاس بن عبد الله العنبري، عن عبدالرحمن بن الأسود اليشكري، عن عون بن عبيد الله، عن أبيه، عن جده أبي رافع، قال: دخلت على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوماً وهو نائم وحيّة في جانب البيت، فكرهت أن أقتلها فأوقظ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فظننت أنّه يوحى إليه، فاضطجعت بينه وبين الحيّة، فقلت: إن كان منها سوء كان إلي دونه، فمكثت هنيئة، فاستيقظ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يقرأ: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا )) ، حتى أتى على آخر الآية، ثمّ قال: (الحمد لله الذي أتم لعليّ نعمته، وهنيئاً له بفضل الله الذي آتاه) )) (43) . أقول: أمّا الكاتب فقد مرَّ الكلام عنه، والزعفراني مهمل (44) ، وكذا حال الثقفي (45) ، والعنبري لم أجد من ترجم له عند القوم، وابن الأسود مجهول الحال أيضاً (46) . الرواية الثامنة عشرة: ((الطوسي: أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال: حدّثنا الحسن بن علي بن زكريا العاصمي، قال: حدّثنا أحمد بن عبيد الله العدلي، قال: حدّثنا الربيع بن يسار، قال: حدّثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذرّ رضي الله عنه في حديث طويل، قال فيه الأمير رضي الله عنه: (هل فيكم أحد آتى الزكاة وهو راكع ونزلت فيه: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ )) غيري؟...) الرواية)) (47) . أقول: أبو المفضّل مرَّ الكلام عنه، وكذا الأعمش، ولم أجد ترجمة للعاصمي أو العدلي، وكذا ابن يسار. الرواية التاسعة عشرة: ((النجاشي، محمد بن جعفر، عن أحمد بن محمد بن سعيد، عن أحمد بن يوسف، عن علي بن الحسن بن الحسين بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين، عن إسماعيل بن الحكم، عن عبد الله بن عبيدالله بن أبي رافع، عن أبيه، عن أبي رافع، قال: وذكر تمام القصّة السابقة)) (48) . أقول: أحمد بن يوسف إن كان القصباني فلم يرد فيه توثيق صريح، وإن كان مولى بني تيم الله فمحال أن يرويَ عنه ابن عقدة المولود سنة (249هـ)، والذي ذكر النجاشي روايته عنه سنة (209هـ) (49) ، وإسماعيل بن محمد وابن الحكم مجهولان (50) . الرواية العشرون: ((محمد بن سليمان الكوفي، قال: أجاز لي أبو أحمد عبد الرحمن بن أحمد الهمداني، قال: حدّثني إبراهيم بن الحسن، قال: حدّثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدّثنا حبّان بن علي، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ )) : فخرج رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المسجد والناس يصلّون بين راكع وساجد وقاعد، وإذا مسكين يسأل، فدعاه النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: (هل أعطاك أحد شيئاً؟) قال: نعم. قال: (ماذا؟) قال: خاتم من فضّة. قال: (من أعطاك؟) قال: ذاك الرجل القائم. قال: (على أي حال أعطاك؟) قال: أعطاني وهو راكع. وإذا هو عليّ بن أبي طالب، فكبّر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) )) (51) . أقول: الهمداني مجهول، وإبراهيم بن الحسن مشترك بين عدّة مجاهيل عند الشيعة. الرواية الحادية والعشرون: ((محمد بن سليمان الكوفي (بالسند المتقدّم عن عبد الله بن محمد بن إبراهيم): حدّثنا عبد ربّه بن عبد الله بن عبد ربه العبدي البصري، قال: حدّثنا أبو اليسع أيوب بن سليمان الحبطي، قال: حدّثنا محمد بن مروان السدّي، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح مولى أمّ هانئ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما... فذكر رواية شبيهة بالرواية الرابعة عشرة)) (52) . أقول: حسب السند أنّ فيه مجاهيل، بل إنّ الإسناد الذي فيه السدّي عن السائب الكلبي معدود في سلاسل الكذب الشهيرة!! الرواية الثانية والعشرون: ((محمد بن سليمان الكوفي، قال: حدّثنا عبيد الله بن محمد، قال: حدّثنا محمد بن زكريا، قال: حدّثنا قيس بن حفص وأحمد بن يزيد، قالا: حدّثنا حسين بن حسن، قال: حدّثنا أبو مريم، عن المنهال، عن عبيد الله بن محمد بن الحنفية، عن أبيه قال:.. فذكر رواية شبيهة بالرواية الثانية عشرة)) (53) . أقول: محمد بن الحنفية نفسه ليس له توثيق خاص في كتب الشيعة، وابنه عبيد الله مجهول، والمنهال بن عمرو ضعيف عند أهل السُنّة، مجهول عند الشيعة. الرواية الثالثة والعشرون: ((الطبري الشيعي، قال: حدّثني أبو الفرج المعافا، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن زكريا المحاربي، قال: حدّثنا القاسم بن هاشم بن يونس النهشلي، قال: حدّثنا الحسن بن الحسين، قال: حدّثنا معاذ بن مسلم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عامر... فذكر الرواية الرابعة عشرة)) (54) . أقول: عطاء بن السائب مجهول عند الشيعة، ثقة عند السُنّة، اختلط في آخر عمره، والقاسم النهشلي مجهول، والحسن بن الحسين مشترك بين كثيرين. وبعد.. فهذه حال كلّ الروايات المسندة التي وقفنا عليها من كتب القوم المعتبرة وغير المعتبرة في شأن هذه القصّة، وقد رأيت أنّه لم يصحّ منها شيء أصلاً من طرق الشيعة، فضلاً عن طرق أهل السُنّة، رغم كلّ التهويلات التي استخدمها القوم عند الكلام في هذا الاستدلال، من تواتر وصحّة القصّة في طرق أهل السُنّة، ومن عدم خلو كتبهم منها، ضاربين عرض الحائط بيان الفرق بين الإيعاز وبين التخريج والتحقيق كما ذكرنا، ممّا يلبس الأمر على القارئ البسيط، مع أنّ مجرد عزو الحديث إلى كتاب ليس دليلاً على صحته باتّفاق المسلمين شيعتهم وسُنّتهم. ولا شك أنّ الروايات في شأن نزول هذه الآية في تصدّق عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) بخاتمه في الصلاة قد أوردها الكثير من علماء أهل السُنّة، إمّا لبيان ضعفها، أو من باب إيراد كلّ ما له شأن بنزول الآية دون اشتراط الصحّة، أو إيرادها بأسانيدها مبرئين الذمة بذلك، ولكن لم يصحّ منها شيء. حتى الأميني الذي كان ديدنه الاستماتة في إثبات أحاديث الإمامة حتى لو كانت واهية، كحديث بدء الدعوة الذي مرَّ بك مثلاً، لم يورد في هذه القصّة ولا رواية واحدة مناقشاً فيها سندها؛ لعلمه التام بعدم صحّة شيء في ذلك، وإنّما اكتفى بإيراد من ذكرها من علماء أهل السُنّة، موهماً قارئه بأنّ صحّة القصّة هذه من المسلّمات عندهم، دون أن يبيّن حقيقة قول الكثير ممّن ذكرهم في هذه الروايات في بيان عدم صحّة شيء منها، وهذه هي الأمانة التي يتبجّح بها ويطالبنا بها. وعلى أي حال، لا نطيل الكلام في أسانيد روايات هذه القصة، فالمحك أن يدلنا القوم على سند صحيح للقصّة من كتب أي من الفريقين. ولننتقل إلى الكلام في متونها: الكلام في متون روايات تصدّق عليّ(عليه السلام) بخاتمه وهو راكع: من دلائل ضعف هذه القصّة والاضطراب البيّن فيها: الاختلاف في رواياتها؛ ففي روايات: أنّ نزول هذه الآية إنّما كان في بيته(صلّى الله عليه وآله وسلّم).. وفي أُخرى: في مجلسه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع اليهود.. وأُخرى: في مسجده(صلّى الله عليه وآله وسلّم).. بل ذكرت بعض الروايات أنّ نزولها إنّما كان في المسجد الحرام، حيث دخل الأمير(عليه السلام) يوماً إلى الكعبة يصلّي، فلمّا ركع أتاه سائل فتصدّق عليه بحلقة خاتمه، فأنزل الله الآية (55) . وكذا الاختلاف في المتصدّق به، بين خاتم كما في أكثر الروايات، وبين حلّة، كما في رواية (الكافي)، ولم يتردّد البعض في القول بأنّ القصّة ربّما تكرّرت، فمرّة تصدّق بخاتم وأُخرى بحلّة (56) . والاختلاف أيضاً في الخاتم، بين كونه من فضة كما في بعض الروايات، وذهب كما في أُخرى (57) . والاختلاف في نقشه أيضاً، بين (الملك لله) (58) ، وبين (سبحان من فخري بأنّي له عبد) (59) . وكذا الاختلاف في الصلاة، بين تطوّع الظهر، أو فريضته خلف النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) (60) . وكذا دعاء السائل، بين (السلام عليك يا وليّ الله وأولى بالمؤمنين من أنفسهم، تصدّق على مسكين)، هكذا ابتداءً، وبين (اللّهمّ أشهدك أنّي سألت في مسجد رسول الله)، كما في أكثر الروايات. والاختلاف في وقت نزول الآية؛ ففي بعض الروايات: أنّها نزلت قبل القصّة، وأُخرى: بعد دعاء الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم). والاختلاف في كيفية التصدّق بالخاتم، بين نزع عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) للخاتم بنفسه، وبين نزع السائل له. وكذا الاختلاف في وقت تبليغ الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لقومه، بين إخبارهم فور نزول الآية، وبين إرجاء ذلك إلى يوم الغدير (61) . والاختلاف في سؤال السائل؛ ففي بعض الروايات: أنّ السائل سأل رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) التصدّق عليه أوّلاً، وفي أُخرى: أنّ السائل سأل أوّلاً في مسجد النبيّ، ثمّ مرَّ به (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسؤال النبيّ له: هل تصدّق عليك بشيء؟ (62) . والتضارب في الروايات كثير ونجتزئ بما أوردناه. ونذكر الآن بعض الردود على هذا الاستدلال: 1) منها: إن دلّت هذه الآية على نفي إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، كذلك تدلّ على سلب الإمامة عن بقية الأئمّة الاثني عشر بعين ذلك التقرير، فالدليل يضرّ الشيعة أكثر من أهل السُنّة، فهؤلاء لم يؤت أحدهم الزكاة وهو راكع لو كان ذلك شرطاً فيمن يتولّى أمر المسلمين. 2) ومنها: أنّ (صيغة الذين يؤتون الزكاة وهم راكعون) صيغة جمع، فكيف يصدق على عليّ(عليه السلام) وحده، حتى وإن كان ذلك جائزاً في اللغة، وعلى ذلك شواهد من القرآن، ولكن حمله على المفرد دون دليل هو الخلاف، والأميني الذي يبدو أنّه لم يجد له مخرجاً أمام ضعف أسانيد هذه الروايات وتهافت الاستدلال بها؛ فقد أسهب في بيان أنّ في القرآن آيات عدّة نزلت بصيغة الجمع وكان المراد بها المفرد (63) ، ولا شك أنّ ما ذكره صحيح ولكن لا يفيد في ما نحن فيه؛ حيث إنّ الأمثلة التي أوردها إنّما وردت فيها روايات صحيحة خلاف رواياتنا هذه. 3) ومنها: أنّ الله تعالى لا يثني على المرء إلاّ بمحمود، وفعل ذلك في الصلاة ليس بمستحب، ولو كان مستحباً لفعله الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولحضّ عليه، ولكرّر عليّ(عليه السلام) فعله، وإن في الصلاة لشغلاً. والغريب أنّ القوم يرون بطلان صلاة أهل السُنّة بالتكفير (أي: وضع اليمنى على اليسرى في حال القيام)، ويعدّون ذلك عملاً يستوجب البطلان (64) ، ولا يعدّون عمل الأمير(عليه السلام) من انشغاله بالسائل والاستماع إليه والإشارة إليه ونزع الحلّة أو الخاتم من يده وإلقائه إليه.. إلى آخر ما ذكرته الروايات، حركات مبطلة للصلاة، رغم أنّ ذلك أيضاً يتعارض مع ما ذكره القوم في ذلك عنه وعن الأئمّة كما في هذه الأمثلة.. فضلاً عن معارضته لقولـه عزّ وجلّ: (( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ )) (الأنفال:3)؛ فعن رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه رأى مصلّياً يعبث بلحيته، فقال: (أمّا هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه) (65) . وذكروا أنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) كان إذا حضر وقت الصلاة تلوّن وتزلزل، فقيل له: ما لك؟ فقال: (جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، وأنا في ضعفي فلا أدري أحسن أداء ما حملت أو لا) (66) . وهو القائل(عليه السلام) كما يروي القوم: (طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشتغل قلبه بما تراه عيناه ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه) (67) . وهذا في غير الصلاة، فكيف لو كان في الصلاة، وكأنّ القوم يريدون أنّ يقولوا: إنّه(عليه السلام) من الذين يقولون ما لا يفعلون. وعن الصادق، قال: (إذا كنت في صلاتك فعليك بالخشوع والإقبال على صلاتك؛ فإنّ الله يقول: (( الَّذِينَ هُم فِي صَلاتِهِم خَاشِعُونَ )) (المؤمنون:2) ) (68) . وعنه أيضاً، قال: (إذا استقبلت القبلة فانس الدنيا وما فيها، والخلق وما هم فيه، واستفرغ قلبك عن كلّ شاغل يشغلك عن الله) (69) . وقد أورد القوم عن الإمام زين العابدين رحمه الله روايات كثيرة عن صلاته وخشوعه فيها، نذكر منها: أنّه كان قائماً يصلّي حتى وقف ابنه الباقر وهو طفل إلى بئر في داره بالمدينة بعيدة القعر، فسقط فيها، فنظرت إليه أمّه، فصرخت وأقبلت نحو البئر تستغيث، وتقول: يا ابن رسول الله! غرق ولدك محمّد. وهو لا ينثني عن صلاته، وهو يسمع اضطراب ابنه في قعر البئر، فلمّا طال عليها ذلك قالت حزناً على ولدها: ما أقسى قلوبكم يا أهل بيت رسول الله! فأقبل على صلاته ولم يخرج عنها إلاّ عن كمالها وإتمامها، ثمّ أقبل عليها وجلس على أرجاء البئر ومد يده إلى قعرها وكانت لا تنال إلاّ برشاً طويل، فأخرج ابنه محمداً على يديه يناغي ويضحك لم يبتل به ثوب ولا جسد بالماء، فقال: هاك ضعيفة الإيمان بالله. فضحكت لسلامة ولدها، وبكت لقوله: يا ضعيفة اليقين بالله، فقال: لا تثريب عليك اليوم، لو علمت أنّي كنت بين يدي جبّار لو ملت بوجهي عنه لمال بوجهه عنّي، أفمن يرى راحم بعده؟ (70) وعن الثمالي، قال: رأيت عليّ بن الحسين يصلّي فسقط رداؤه عن أحد منكبيه، فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته، فسألته عن ذلك؟ فقال: (ويحك! بين يدي من كنت؟ إنّ العبد لا يُقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه) (71) . وعن الصادق، قال: (كان أبي يقول: كان عليّ زين العابدين إذا قام إلى الصلاة كأنّه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلاّ ما حرّكت الريح منه) (72) . وفي رواية: إنّ إبليس تمثّل لعليّ بن الحسين وهو في صلاته في صورة أفعى لها عشرة رؤوس محدّدة الأنياب، منقلبة الأعين، وطلع عليه من الأرض من موضع سجوده، ثمّ تطاول في قبلته فلم يرعه ذلك، فانخفض إلى الأرض، وقبض على عشر أنامل رجلي عليّ بن الحسين فجعل يكدمها بأنيابه، فكان لا يكسر طرفه إليه، ولا يحوّل قدميه عن مقامه (73) . وعن الجعفي، قال: صلّى أبو جعفر ذات يوم فوقع على رأسه شيء فلم ينزعه من رأسه حتى قام إليه جعفر فنزعه من رأسه (74) . والروايات في الباب كثيرة جداً، وما أوردناه أقل القليل (75) . ولكن انظر كيف توفّق بينها وبين فعل عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) من استماعه إلى السائل وانشغاله به، حتى لفت نظره إليه من دون بقية المصلّين، وفي بعض الروايات أنّه كان يصلّي خلف النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) (76) ، ولا شكّ أنّه في الصف الأوّل، ونزع الخاتم من إصبعه وألقاه إليه، أو نزع الحلّة كما في (الكافي)، وهذا أشدّ، وطرحها إليه و.. و.. والكاظم لمّا سئل: عن الرجل يكون في الصلاة فيستمع الكلام أو غيره فينصت ليسمعه، ما عليه إن فعل ذلك؟ قال: (هو نقص) (77) . فكيف بمن فعل كلّ ما فعل الأمير(عليه السلام)، وهو القائل بزعم القوم: إنّ وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة عمل، وليس في الصلاة عمل (78) . على أي حال، نعود إلى ما كنّا فيه من ذكر الردود: 4) ومنها: أنّه لو قدّر أن هذا مشروع في الصلاة لم يختص بالركوع، بل يكون في القيام والقعود أولى منه في الركوع، فلو تصدّق المتصدّق في حال القيام والقعود أما كان يستحقّ هذه الموالاة؟ 5) ومنها: أنّ عليّاً(عليه السلام) لم يكن ممّن تجب عليه الزكاة على عهد النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ فإنّه كان فقيراً، والزكاة إنّما تجب على من ملك النصاب حولاً، وهو لم يكن من هؤلاء، وفقر أهل البيت غير خافٍ.. فقد روى القوم: أنّ عليّاً(عليه السلام) قال يوماً لفاطمة رضي الله عنها: يا فاطمة! هل عندك شيء تطعميني؟ قالت: والذي أكرم أبي بالنبوّة وأكرمك بالوصية، ما أصبح عندي شيء يطعمه بشر، وما كان من شيء أطعمك منذ يومين إلاّ شيء أؤثرك به على نفسي وعلى الحسن والحسين، قال: أعلى الصبيين ألا أعلمتني فآتيكم بشيء؟ قالت: يا أبا الحسن! إنّي لأستحيي من إلهي أن أكلّفك ما لا تقدر، فخرج فاستقرض ديناراً... الرواية (79) . وفي رواية أُخرى: دخل(صلّى الله عليه وآله وسلّم) على فاطمة ووجدها صفراء من الجوع، فقال: ما لي أرى وجهك أصفر؟ قالت: يا رسول الله! الجوع (80) . فلا غرابة إذاً أن يقترض(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من شدّة الفاقة ليؤمن قوت نفسه وعياله، وله في ذلك حكايات رواها القوم، منها: ما رواه عليّ(عليه السلام) من أنّ يهودياً كان له على رسول الله دنانير فتقاضاه، فقال له: يا يهودي! ما عندي ما أعطيك، قال: فإنّي لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني، فقال: إذاً أجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء الآخرة، والغداة (81) . وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: إنّ رسول الله توفّي ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود على ثلاثين صاعاً من شعير، أخذها رزقاً لعياله (82) . وعن الصادق: (مات رسول الله وعليه دَين) (83) . كلّ هذا رغم تشدّده في أمر الدَين حتى ثبت عنه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) تركه للصلاة على من كان عليه دين حتى لو كان قليلاً؛ فهذا رجل مات على عهده(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليه ديناران، فأخبر بذلك فأبى أن يصلّي عليه (84) . ورجل آخر من الأنصار مات وعليه دَين فلم يصلّ عليه النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقال: لا تصلّوا على صاحبكم حتى يقضي دَينه (85) . ورووا أنّه جعل الدَّين قرين الكفر في الاستعاذة منهما؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: أعوذ بالله من الكفر والدَين، قيل: يا رسول الله! أيعدل الدَين بالكفر؟ فقال: نعم (86) . ورووا عن الصادق: (قال(صلّى الله عليه وآله وسلّم): الدَين راية الله عزّ وجلّ في الأرض، فإذا أراد أن يذل عبداً وضعه في عنقه) (87) . وعن الباقر: (كلّ ذنب يكفّره القتل في سبيل الله، إلاّ الدَين؛ فإنّه لا كفّارة له إلاّ أداؤه) (88) . وغيرها. فما الذي اضطرّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى التديّن وموته وهو عليه، رغم كلّ ما أورده القوم عنه في ذلك؟ فهل من كانت هذه حالهم تجب عليهم الزكاة؟ وكذا كان حال عليّ(عليه السلام) إلى وفاته؛ فيوم أن تزوّج الزهراء رضي الله عنها عيّرتها نساء قريش بفقره، فجاءت أباها(صلّى الله عليه وآله وسلّم) شاكية: إنّك زوّجتني فقيراً لا مال له. وفي أُخرى: قلن: زوّجك رسول الله من عائل لا مال له (89) . وهكذا عاش (عليه السلام)؛ ففي إحدى خطبه قال: (والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها) (90) ؟ حتى اضطر أن يبيع متاعه ليوفّر ثمن قوت يومه؛ فعنه (عليه السلام) أنّه قال: (من يشتري سيفي هذا؟ فوالله لو كان عندي ثمن إزار ما بعته) (91) . وكان لا يزال (عليه السلام) يشكو إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الدين إلى أن مات مديوناً (92) . فعن الباقر، قال: (قبض عليّ وعليه دين ثمانمائة ألف درهم) (93) . وهكذا كان حال أبنائه رضي الله عنهم؛ فعن الصادق، قال: (مات الحسن وعليه دَين، ومات الحسين وعليه دَين) (94) .. بل إنّ الحسين(عليه السلام) أتعب من جاء بعده؛ فقد أصيب وعليه دَين بضعة وسبعون ألف دينار، فاهتم عليّ بن الحسين بدَين أبيه حتى امتنع من الطعام والشراب والنوم في أكثر أيامه ولياليه (95) . ولا نطيل المسألة، ولكن هل ترى على هؤلاء زكاة لمالٍ يبلغ النصاب ويحول عليه الحول، ويفيض عن الحاجة، ويسلم من الدين؟ ونختم هذا برواية وضعها القوم في قصّتنا هذه، تبيّن أنّ فقر عليّ(عليه السلام) من المسلّمات، مختصرها قول البعض: وأيّ مال لعليّ حتى يؤدّي منه الزكاة (96) ؟ 6) ومنها: أنّ الروايات التي ذكرت أنّ خاتمه(عليه السلام) كان من ذهب (97) ، خلاف ما ورد في النهي عن ذلك.. فعن الرضا، قال: (لا تصلّ في خاتم ذهب) (98) . وعن الباقر، قال: (نهى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن سبع: ذكر منها: التختّم بالذهب) (99) . وعن الصادق، قال: (قال النبيّ لعليّ: إيّاك أن تتختّم بالذهب) (100) . وعن عليّ(عليه السلام)، قال: (نهاني رسول الله - ولا أقول: نهاكم - عن التختّم بالذهب) (101) ، فكيف توفّق بينها؟ 7) ومنها: أنّ إعطاء الخاتم لا يجزئ في الزكاة عند الإمامية، فهم لا يرون زكاة الحليّ، وعلى هذا أيضاً كثير من فقهاء المسلمين (102) . 8) ومنها: أنّ الزكاة تؤدّى فور وجوبها ولا ينتظر فيها السؤال. وعليه لا يمتدح من لم يخرج الزكاة إلاّ بعد أن تطلب منه، وإنّما يمتدح من أخرجها ابتداءً فور وجوبها. 9) ومنها: أنّ هذه الآية بمنزلة قولـه: (( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاركَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ )) (البقرة:43)، وهي تحثّ على صلاة الجماعة؛ لأنّ المصلّي في الجماعة إنّما يكون مدركاً للركعة بإدراك ركوعها، بخلاف الذي لم يدرك إلاّ السجود؛ فإنّه قد فاتته الركعة، أمّا القيام فلا يشترط فيه الإدراك. 10) ومنها: أنّ الركوع يطلق ويراد به: الخضوع، وذلك مثل قوله سبحانه: (( يَا مَريَمُ اقنُتِي لِرَبِّكِ وَاسجُدِي وَاركَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ )) (آل عمران:43) فالمراد بالركوع: الخضوع؛ إذ أنّ المرأة لا يطلب منها صلاة الجماعة، فالمراد بقوله: (( وَهُم رَاكِعُونَ )) أي: خاضعون لله، وليس المراد أنّهم يؤتون الزكاة حال الركوع؛ فتأمل! 11) ومنها: أنّ هذه الآيات إنّما نزلت في النهي عن موالاة الكفّار والأمر بموالاة المؤمنين، وأنّ سياق الكلام يدلّ على ذلك لمن تدبّر، وهو قولـه تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللَّهَ لا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَ بِالفَتحِ أَو أَمرٍ مِن عِندِهِ فَيُصبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِم نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقسَمُوا بِاللَّهِ جَهدَ أَيمَانِهِم إِنَّهُم لَمَعَكُم حَبِطَت أَعمَالُهُم فَأَصبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَومَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُم اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ )) (المائدة:51-55). فالآيات واضحة كلّ الوضوح أنّها في النهي عن موالاة اليهود والنصارى، وقد وصف الله الذين في قلوبهم مرض بأنّهم يوالون الكفّار والمنافقين والمرتدّين، وبيَّن أنّهم لن يضرّوا الله شيئاً، ثمّ وصف المؤمنين بما وصفهم به، فهذا السياق العام يوجب لمن قرأه علماً يقينياً لا يمكنه دفعه عن نفسه، وهو أنّ الآية عامّة في كلّ المؤمنين المتّصفين بهذه الصفات لا تختص بواحد بعينه، وهل هؤلاء يرون - أيضاً - أنّ الولاية عند أهل الكتاب تكون بالمعنى نفسه (الوصاية) فتفسّر بها على ذلك في هذه الآيات؟ أي: أنّ بعضهم وصيّ على بعض؟ كيف يكون ذلك؟ نعوذ بالله من صدأ الأذ
الأخ أبا محمد المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أولاً: سنقدّم نقاط تحوي بعض القواعد لكي يتوضّح جوابنا طبقاً لها:
1- إنّ تصنيف الحديث ينقسم إلى: متواتر وآحاد، والمتواتر ما وصلت طرقه إلى حدّ يمتنع تواطؤ رواته على الكذب، والآحاد بخلافه، فإذا وصل الحديث إلى حدّ التواتر وحصل القطع منه، فلا يبحث في السند عندئذ، ولا يلتفت إلى صحّة أو وثاقة أو حسن أو ضعف الأسانيد؛ لأنّها من أقسام الخبر الآحاد وتتدرّج حجّيته حسبها، والمتواتر قد تجاوز ذلك إلى القطع، وهو حجّة بنفسه.
2- إنّ الشيعة لا يستدلّون في العقائد إلاّ بالقطع واليقين، فإذا كان دليلهم نقلياً فيجب أن يثبت بالقطع، كالتواتر مثلاً.
3- هناك قاعدة في علم الحديث موجودة عند الشيعة والسُنّة، وهي أنّ الضعيف ينجبر ضعفه بالضعيف, فكلّما كثرت الطرق الضعيفة فسوف تجبر السند، وأنّ السند الذي يوجد فيه وضّاع أو كذّاب لا ينجبر بسند فيه وضّاع أو كذاب مثله بل يزداد ضعفاً وسقوطاً.
4- إنّ مناقشة أي مذهب أو فرقة يجب أن يكون حسب مبانيها، ومناقشة الشيعة الإمامية في حديثهم يجب أن يكون حسب مبانيهم في علمي الرجال والحديث. ثانياً: الجواب على ما جاء في السؤال كالآتي:
1- ذكر المستشكل نفسه ثلاثة وعشرين طريقاً مختلفاً، كان في ما أحصيناه منها على عجالة: خمسة عن الإمام الباقر(عليه السلام)، وثلاثةً عن الإمام الصادق(عليه السلام)، واثنين عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، واثنين عن أبي ذرّ(رضي الله عنه)، وواحداً عن عمّار بن ياسر(رضي الله عنه)، وخمسةً عن ابن عبّاس(رضي الله عنه)، ثلاثةً منها ترجع إلى طريق واحد، واثنين عن محمد بن الحنفية(رضي الله عنه) بطريق واحد، واثنين عن أبي رافع(رضي الله عنه) بطريق واحد، وواحداً عن ابن عامر.
وترك العديد من الطرق نقتصر على ذكر مصادر بعضها على نحو العجالة؛ لحصول الغرض منها:
- (الكافي2/513ح1 باب المباهلة).
- (الخصال/479ح36 أبواب الاثني عشر).
- (تحف العقول/458 ماروي عن الإمام الحسن بن علي بن محمد(عليه السلام)).
- (روضة الواعظين/92 مجلس في ذكر الإمامة).
- (شرح الأخبار1/228ح217 ولاية عليّ(عليه السلام)، 2/193ح529 احتجاجه(عليه السلام) في الشورى، 2/346ح697 عليّ في القرآن).
- (الاحتجاج1/66 احتجاج النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم الغدير).
- (تفسير العسكري/460 قصّة عبد الله بن سلام).
- (تفسير فرات1/125 حديثان، 1/126 سورة المائدة).
- (فضائل أمير المؤمنين لابن عقدة/188 الفصل الثاني والعشرون قوله تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ