بندر - السعودية
منذ 4 سنوات

 معنى العقل

يدعي بعض الباحثين لزوم التخلي عن أي خلفية دينية أو فكرية حين البحث التاريخي أو العلمي ونحوهما فلا يمكن لمن يريد البحث في نظرية النشوء والارتقاء أو نظرية التطور مثلا أن يقحم النصوص الدينية في هذا الموضوع وبالتالي فإن نظرية التطور مثلا لا يمكن أن تدفع بأن الله هو خالق الكون لورود آية كريمة أو نص شريف عن النبي وإذ أنه لا يوجد بديل علمي لنظرية النشوء والارتقاء فلابد من التسليم بالنظرية وحين البحث التاريخي كذلك فإذ أنه لم يوجد الدليل على وجود النبي إبراهيم أو آدم عليهما السلام فلا يمكن القول بوجودهما وإقحام النصوص الدينية هنا يخالف طبيعة البحث العلمي كما يقولون، فكيف حينئذ يمكن إثبات ما نعتقد بأنه من أساسيات الأديان السماوية عموما والدين الإسلامي خصوصا إذا التزمنا طريقة البحث هذه؟ وهناك في الطرف المقابل من ينفي حجية العقل بدليل أن كل الأدلة المسوقة لإثبات حجية العقل هي من العقل نفسه، فكيف نجيب على هذه المسألة؟ كما أن بعضهم يتهم رجال الدين ورموز التدين بالمراوغة والاحتيال لإثبات العقائد الدينية فهم كما يقولون يطالبون غيرهم بحرية التفكير وضرورة استخدام العقل للوصول للحقيقة ولكنهم يطمسون العقل حين يأتي الدور للعقائد الإسلامية والشيعية مثلا فيرفضون إعمال العقل ويلزموننا باتباع النص. كما أنهم كما يقولون يستخدمون مفردات مثل الفطرة أو البديهة لإثبات ما يريدون فيقولون مثلا بأنه لابد لكل معلول من علة وهكذا حتى يصلون إلى الله ولكنهم لم يجيبونا من أين لهم هذه البديهية التي يدعونها في أنه لابد لكل معلول من علة؟ وهل لهم دليل على ذلك؟ وإذا كان يمكن الاستناد إلى الوجدان في ذلك فلم لم يجز الاستناد إلى الوجدان في عامة المسائل الاعتقادية؟ ثم إنهم لم لم يطبقوا هذه القاعدة البديهية على الله فيقولون بوجود علة لله؟ وإذا جاز أن يكون الله قديما فلم لم يجز أن تكون المادة قديمة وتتصف بنفس الصفات التي ينسبونها لله؟ وحين يحاول بعض العلماء الدينيين أن يوفق بين النص الديني وبين العقل يؤلون النصوص كي لا تتعارض مع العقل كما فعل الشيخ الجسر مفتي طرابلس سابقا في الرسالة الحميدية واقتفى أثره الشيخ علي حب الله في ذلك للتوفيق بين النصوص الدينية وبين القول بنظرية التطور أو النشوء والارتقاء، وأول بعض علماء الأزهر آيات القرآن الكريم بمثل ذلك فأول الطير الأبابيل بداء أو مرض جرثومي أو فيروسات تفتك بجيش أبرهة وأول عالم آخر قوله تعالى (( وخلقكم من نفس واحدة )) بالخلية الحية الأولى التي نشأ منها الكون وأول عالم عراقي ذا القرنين بأنه جلجامش الوارد في الملحمة السومرية والبابلية وأول الشيخ طنطاوي جوهري الايات القرآنية كذلك ليثبت بأن القرآن ذكر المخترعات الحديثة كالصواريخ والطائرات والغواصات وغير ذلك من تأويلات لا تخضع لضابطة معينة؟ ومن المعروف عن الشيعة والمعتزلة بأنهم مؤولة كذلك ولو قرأنا كتابي الشريف المرتضى "تنزيه الأنبياء" و"أمالي المرتضى" لبدى لنا ذلك واضحا ولكن ماهي الأسس التي يعتمد عليها التأويل وهل بالإمكان تأويل كل شيء حسب الذوق فعليه نأول الآية التي تنص على تعدد الزوجات وآية الحجاب وآية الرجم والنصوص الواردة في حد الردة وغير ذلك كما يفعله الكثيرون هذه الأيام؟ أوليس منهج التأويل بهذه الطريقة يقترب من نمط التأويل عند الصوفية وأهل العرفان والإسماعيلية فابن عربي مثلا يؤول قوله تعالى (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) وقوله تعالى (( أينما تولو فثم وجه الله )) بأن المخلوقات لابد أن تعبد الله لأن الأمر تكويني وليس تشريعي كما يدعي وعليه فهو يقول في شعره وصار قلبي ديرا لراهب وملعب لصبيان وكعبة زائر وملهى لغزلان أو نحو ذلك ولو نظرنا لتفسير الملا صدر الدين الشيرازي في كتابه تفسير الآيات لرأينا مثل ذلك الكثير فهل يصبح المجال مفتوحا لكل هاو ومضطلع ومثقف وأديب وعالم وجاهل ورجل وامرأة لتأويل الآيات كما يهوى كما في هذه الأزمان؟ وماذا يبقى من الدين حينئذ؟ ولقد كثرت الدراسات والقراءات المعاصرة كما يقولون خصوصا عند من يسمون أنفسهم بالحداثيين هذه الأيام في محاولة لكسر الطوق عن احتكار طبقة معينة أي رجال الدين لتفسير النصوص المقدسة والمشكلة الكبرى بأن نداءاتهم تجد لها صدى ودويا بين أوساط مثقفينا وبعض متدينينا في المنطقة العربية والإسلامية وأضحت كتابات أركون وسروش وشبستري والجابري وشحرور وغيرهم محل تقدير واحترام لفئة كبيرة من مجتمعاتنا وما عادت كلمات المراجع ورجال الدين بذات صدى في نفوسهم كما كانت عند آبائنا وأجدادنا بل أن بعضهم يتجرأ ويتهم رجال الدين عامة والمراجع خاصة بالتقوقع على الذات والعيش في أوهام الماضي والتعصب الفكري والانغلاق وعدم الانفتاح على العلوم العصرية والجمود على ظاهر النصوص وأنهم قشريون ينظرون لحرفية النصوص دون المساس بجوهرها وروحها وغير ذلك ويستشهدون بفتاوى العلماء في ذلك كمسألة الرمي ولزوم رمي عين الشاخص القديم حتى مع التوسعة وزيادة الحجاج وما في ذلك من مشقة والطواف والسعي ونجاسة الكافر وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والتبرع بالأعضاء وغير ذلك؟ ويحاول البعض متأثرين بالقراءات المعاصرة للنصوص الدينية الإبقاء على النص الديني في مرحلة تاريخية معينة "تاريخية الأحكام" ويقولون بضرورة استحداث قوانين تناسب عصورنا فلا يمكن القبول بتعدد الزوجات والنظرية الإسلامية في الإرث وحد الردة وقطع اليد للسارق والرجم والقصاص وغيرها في هذه العصور وأنها شرعت لعصر النبي ونحو ذلك ولعلهم يأنسون ببعض الأصوات التي تنبع من الوسط الديني نفسه من قبيل السيد ضياء الموسوي من البحرين والسيد إياد جمال الدين من العراق الذين يشددان على العلمانية وأنها الصيغة المعقولة والمناسبة لحفظ الدين ومجتمعاتنا المتباينة عرقيا ودينيا وطائفيا من التمزق والاحتراب الطائفي كما يستأنسون بعالم ديني كشبستري حين يقول بتاريخية الأحكام. نرجو من سماحتكم التعليق بشكل مفصل إن أمكن وتوضيح هذه المعضلة أي النص-العقل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


الأخ بندر المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الاول: إن كان المقصود بالتخلي عن الخلفية الدينية أو الفكرية التخلي عن الوسائل العلمية المؤدية الى معرفة حقائق الاشياء فهذا معناه السفسطة التي لا حصل منها سوى المغالطة والمكابرة, إذ لابد من وجود وسائل تؤدي الى معرفة الحقيقة في كل المجالات وهي مما قد تسالم عليها الخلق منذ وجودهم على هذه البسيطة الى يومنا هذا. وعلى سبيل المثال فإنَّ الخبر إن أفاد التواتر بمضمونه فلا بد من الأخذ به وهو يكون حجة في المجال الذي ينقل عنه.. فالتخلي عن الخلفية الدينية والفكرية أمر لا بأس به لأغراض الجدل والمناظرة , ولكن ليس معناه التخلي مما ثبت بالتواتر والعلم والقطع فهذه الوسائط حجتها ذاتية ولا يمكن لعاقل أن ينكر حجيتها اذا ثبتت عنده, إذ معناه إنكار الانسان لعقله, وبالتالي انكاره لذاته وما هيته ووجوده, وهي تعني السفسطة كما أسلفنا. فدفع النظريات العلمية التي تناهض أمراً تعرض له الشرع فإن ثبت هذا الامر من طريق يستفاد منه العلم واليقين, فلا قيمة اذن لهذه النظريات التي تخالف القطع واليقين, وان لم يفد العلم واليقين يبقى شأن هذا الأمر شأن كل الأمور الخاضعة للبحث والتحقيق والأخذ والرد العلميين, فالمدار اذن في هذه المسائل وغيرها هو في استفادة العلم وعدمه والبحث والسؤال يكون عن طرق هذه الاستفادة .....وهذا الموضوع قد تعرض له بعض العلماء الاعلام في كتاباتهم, ونخص بالذكر كتاب (فلسفتنا) للسيد الشهيد محمد باقر الصدر, و(المنهج الجديد في تعليم الفلسفة) للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي, فراجع ثمة في كيفية تحصيل المعارف والوصول الى حقائق الأشياء. الثاني: ان حجية العقل محصورة بمدركاته القطعية كحسن العدل وقبح الظلم وأمثالها, وحجية القطع ذاتية, إذ بالقطع يكون انكشاف المقطوع به للقاطع, وما كان كذلك كانت الحجية حاصلة له بالذات, فانّ العقل إذا قطع (على سبيل المثال) بلزوم الامتثال لأمر المولى فلا بد هنا من تحقق هذا الامتثال بسبب هذا القطع وإلا عُدَّ القاطع عاصياً... وقد اعترف القرآن والسنة بحجية العقل في مجالات خاصة بُينت في كتب اصول الفقه, كاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان, الملازم لعدم ثبوت الحرمة والوجوب إلا بالبيان, وأيضاً استقلاله بلزوم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهات التحريمية ولزوم الموافقة القطعية في الشبهات الوجوبية وغير ذلك. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((كن مع الحق حيث كان, وميّز ما اشتبه عليك بعقلك فإنَّ حجة الله عليك وديعة فيك وبركاته عندك)) (كشف الخفاء 2/ 135), وعن الامام علي (عليه السلام): ((العقل رسول الحق)) (غرر الحكم ص272), وعن الامام الصادق (عليه السلام): ((حجة الله على العباد النبي, والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل)) (الكافي 1/ 25). (وللتوسعة راجع مباحث حجية العقل في كتب الأصول). الثالث: وإلالزام باتباع النص إنما يكون بعد افادته العلم والقطع دون الظن أو الشك , وقد علمنا ان حجية القطع ذاتية لا يصح سلبها عنه, وايضاً يلزم اتّباع النص الذي يفيد الظن الراجح وهو ما التزمت السيرة العقلائية بالأخذ به كخبر الواحد العادل أو الثقة, فمرجع الإلزام بالنص هو ما ذكر, ولا يعد هذا طمسا للعقل, بل هو تطبيق صادق لمدركاته. الرابع: قضية (( كل معلول يحتاج الى علة)), هي قضية تحليلية ومن البديهيات الأولية المستغنية عن البرهان, والبديهيات من أصول اليقينيات التي تضطر النفس للايمان والأذعان بها (راجع كتاب المنطق المظفر ج3 ص327 المقدمة في مبادئ الأقيسة , اليقينيات), وكذلك كتاب المنهج الجديد في تعليم الفلسفة ج2 أهمية أصل العليـّة). والبديهيات رأسمال المعرفة إذ لابد للاستدلال على مطلوب ما من الانتهاء في التحليل الى مقدمات بديهية لا يحتاج العلم بها الى كسب ونظر, وإلا لتسلسل التحليل إلى غير نهاية, فيستحيل تحصيل أي مطلوب لأي مجهول. الخامس: واما سبب عدم تطبيق القاعدة السابقة في حق الله سبحانه. لأنّ المولى جلَّ وعلا واجب الوجود, أي ان الوجود مقتضى ذاته, فلا عليه للغير عليه. السادس: عدم جواز وصف المادة بالقدم سببه : أن القديم يجب ان يكون واحداً وواجب الوجود كي يصح انتهاء سلسلة المعلومات إليه وإلا لدار الأمر أو تسلسل, ولابد لهذا الواجب أن يكون فاعلاً وعاقلاً ومختاراً وحكيماً متقناً بلحاظ ما يمكن معاينته في الواقع الخارجي من الآثار وصفاتها , وهذه الصفات من الفاعلية والعاقلية والاختيار والحكمة والاتقان لا يمكن وصف المادة الصّماء العمياء بها كما هو معلوم, فلا يمكن ان تكون المادة قديمة, وانما القديم هو واجب الوجود الفاعل العاقل الحكيم المختار. السابع: ان كلمة التأويل تعني تفسير المعنى, وقد جاءت كلمة التأويل في القرآن الكريم بمعنى ما يؤول اليه الشيء لا بمعنى التفسير للفظ, فإن ثبت في آيات محكمات ووفق قواعد عقلية صحيحة ثبوت عقيدة ما بحق الله تعالى وجاءت ألفاظ في آيات ما تنافي معنى هذه العقيدة فهنا يجب التأويل بما يوافق تلك العقيدة التي ثبتت بالمحكمات والقواعد العقلية الصحيحة, وما ذكرتموه عن محاولة تأويل آية تعدد الزوجات وآية الحجاب وأمثالهما فهذه آيات تشتمل على أحكام شرعية فقهية لا تقبل التأويل, وإنما التأويل هو في باب العقائد دون الفروع والأحكام الفقهية. ودمتم في رعاية الله

1