لماذا خلق الله الانسان وهو يعلم انه في الجنة او النار
الحمد لله أنا طالب، ومثقف، وثقتي بالله عالية، ومستمر في صلاتي وصيامي، ومتمسك بديني من كل النواحي، لكن لديّ سؤال لم يجبني عليه أحد بشكل يكفي عقلي القاصر، وبصوره واضحه بالنسبة لي، فأرجو من حضراتكم أن يكون الجواب واضح بالنسبة لعقلي القاصر، والسؤال هو: ((إن الله سبحانه وتعالى يعلم الغيب، ويعلم مافي الأنفس، ويعلم بدايه البشرية ونهايتها، ويعلم مصير كل بني آدم أين سيكون مقرّه في الجنة أو النار، فلماذا خلقنا الله، وهو يعلم أننا سوف نذهب إلى النار أو الجنة؟ وأرجو أن لا تظن بي سوءً بسبب هذا السؤال؛ لأنه يدور في فكري منذ مدة طويلة، ولم أجد جواباً له؟ مع كل الشكر والتقدير والامتنان لحضراتكم دمتم في حفظ الله ورعايته
أخي السائل دعنا نفكك السؤال حتى نعرف أين هي المشكلة بالضبط 1- أصل إيجاد الإنسان. 2- إعطاء الاختيار للإنسان في تحديد مصيره بإرادته. 3- جعله في الدنيا وهي مليئة بالاختبارات، وهو مختار فيها وليس مجبوراً. 4- نتائج هذه الاختبارات في الدنيا يظهر في عالم آخر وهو عالم الآخرة إمّا إلى النعيم، أو إلى الجحيم. 5- علم الله تعالى بكل هذه التفاصيل. الآن نأتي نفكّر سويّة في كل نقطة من النقاط المتقدمة، ونرى أين الاصطكاك الذي يمنعه العقل، ولا يقبله: 1- بالنسبة إلى نفس إيجاد الخلق والعباد، ونفس إخراجهم من اللاوجود إلى الوجود، هل هذا خير، أم شرّ؟ وهل هو عمل سفهي، أم عمل له قيمته ووزنه؟ بالتأكيد إن نفس الخلق، وإعطاء الوجود هو خير محض، ولا شرّ فيه، وهو عمل له قيمته وحكمته، ويأتي تتميم الكلام عن هذه النقطة في النقطة الرابعة. 2- نسأل هل أن إعطاء الاختيار للإنسان بأن يقرّر مصيره بنفسه، وبإرادته هل هذا شيء قبيح أم هو شيء حسن؟ بالتأكيد إن إعطاء الانسان مساحة في تحديد مصيره، واختياره بمحض إرادته وتدبيره شيء حسن، وإضافة إلى ذلك ما تركه الله يختار بلا قدرة على الاختيار، بل زوّده بقدرة كبيرة في الحركة واتخاذ القرارات، وهذه القدرة هي العقل، وقدرة التفكير والتحليل، إذن لا أصل خلق الانسان بحدّ نفسه فيه مشكلة، ولا إعطائه الاختيار فيه مشكلة، إلى هنا نحن في أمان. لا تقل لي: إن الازمة في النقطة الخامسة، فأنا معك، ولكن لابدّ أن ننقح كل هذه حتى نكيّفها مع النقطة الخامسة بشكل يرتفع التصادم. 3- 4- نسأل هل جَعْل الإنسان في هذه الدنيا - مع ما فيها من الاختبارات والابتلاءات - شيء حسن، أم لا؟ وفي جوابه نقول : إن الله تعالى خلق الإنسان ولم يخلقه للدنيا، إنما خلقه لمرحلة أكبر وأعمق وأحسن وأجمل وألطف وأبهى وأسنى، وكل ما تريد أن تقوله من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال، فالله تعالى يحبّ عباده، ويريد لهم هذا المستوى العالي والراقي من النعيم، ولكن هذا الإنسان ليس جميع أفراده بمستوى واحد، ففيهم شخص اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب(صلى الله عليه وآله)، وفيهم شخص اسمه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان(لعنهم الله )، وما بينهم يوجد طبقات لا تحصى من البشر في مستوى الرقيّ أو الانحطاط، فهنا لو سألت جنابكم الكريم: هذا الانسان الذي فيه هذه الصنوف والمراتب من البشر هل جميعاً يدخلون الجنة وبنفس المقام والمرتبة، أم كل شخص نعطيه مقامه ومكانه في الجنة، بل البعض أصلا لا يستحق أن يكون في الجنة؟ أكيد الجواب: هو أننا نعطي كل ذي حقّ حقّه ولا يتساوى الجميع. السؤال هنا: كيف يمكن أن تميّز بينهم، حتى تعرف من هو في أعلى المراتب، ومن هو في أدناها. أكيد سوف تقول: عن طريق الاختبارات والامتحانات. هنا وصلنا إلى نتيجة مهمة: وهي أن هذه الدنيا هي اختبار للعباد حتى ينالوا مراتبهم في الجنة أو النار. ولكن هناك فرق بيننا وبين الله تعالى، فإن الله تعالى يختبر لا لأجل أن يعرف من هو الذي يستحق الجنة أو النار وماهي درجته فيهما، بل لأجل أن يكشف لنا من هو المستحق كشفاً عملياً نعيشه نحن بأنفسنا، وعندها نعرف من هو في أعلى المراتب ومن هو في أدنى المراتب. فاتضح من كل هذا أن الدنيا باختباراتها شيء مقبول، والآخرة بمراتبها شيء مقبول لكل الناس بمراتبهم. لا أظن أن هذا الذي ذكرته من النقطة الأولى إلى الرابعة فيه إرباك، أو اصطدام مع شيء من الثوابت والمرتكزات العقلية. 5-الآن نأتي للنقطة الخامسة ونسأل: هل علم الله تعالى يصطدم مع كل الذي تقدم في الجواب؟ وفي الجواب نقول: إن علمه تعالى لا يتنافى مع هذه الأمور، ونضرب مثالاً كي تتضح الصورة لو أنّ أبًا عنده ولدان يعلم أن أحد ولديه سوف يفلح بالدراسة، والآخر سوف يتأخر، وهما لا يعلمان بحالهما، وذهب إلى المدرسة، فهل له أن لا يسجّل الولد الذي يعلم أنه لن يفلح في الدراسة بحجّة علمه بأنه لا يفلح، أم أن الجميع سوف ينتقده، ويقول له: دعه يأخذ فرصته، وليس الأمر إليك، بل الأمر إليه، فإن أفلح فمنه، وإن لم يفلح فمنه، إذن أصل إيجاده في المدرسة شيء حسن، نعم إذا اختار هو أن لا يكون طالباً جيداً، فهذا شيء راجع إلى الولد لا إلى الأب، وهذه نقطة محورية في المقام فالأب متفضل إذن عندما يعلم بأن هذا الولد لن يفلح، ولكن استجاب إلى طلبه وطلب الآخرين بأن يكون في المدرسة، وعلم الاب لن يغيّر من المعادلة شيء، فالذي بيده مفتاح التغيير هو اختيار الولد للتفوق وعدمه. وعليه فخلق الله تعالى لعباده مع أنه يعلم بأن بعضهم لن يفلح في اختياراته، وبعض سوف يختار الصواب، لا يعدّ شيئاً قبيحاً، بل هو متفضل إذ اعطى الفرصة للجميع أن يكشفوا عن قدراتهم، وأن يتضح الحال لديهم؛ كي لا يقول قائلهم: إن الله لم يعطني الفرصة عند إيجاد الخلق. طيب نعود للمثال السابق، ودخل الولد المدرسة، وهنا عليه أن يتعب نفسه، ويتعلم ويدرس ويدخل الاختبارات والامتحانات، وهنا كان الأستاذ قد عرف طلبته، وعرف من هو المتفوق، ومن هو غير المتفوق، وهناك لو سألنا الأستاذ عن مستوى الطلبة، سيقول الأخ الأكبر سوف يدخل الامتحان وينال درجة الامتياز، والاخ الأصغر سيدخل الامتحان ولن ينجح أصلا في الاختبار. فالأستاذ إذن يعلم كل من سوف يأخذ امتيازاً، ومن لا ينجح في اختباراته، وهنا نسأل هل للأستاذ المنع من أن ينال كل واحد منهما فرصته؟ بالتأكيد الجواب هو أن مقتضى عدل ولطف الأستاذ أن يعطي الفرصة للجميع، حتى لو كان يعلم بكل ما سوف يصل إليه الطلبة، بل سوف يكون متفضلاً على الطالب الذي يعلم إنه لن ينجح عندما يعطيه فرصة أخرى لمحاولة النجاح في الامتحان. وفعلا دخل الطلاب الامتحان والاختبار حتى ينتقلوا الى مرتبة أعلى، وكان الأمر كما قال الأستاذ، فهل الأستاذ يُلام لأنه سمح للجميع بالامتحان؟ بالتأكيد لا يُلام، بل كما قلنا بالعكس يكون متفضلاً. والكلام هذا نفسه يجري بحق الله تعالى، فإن الله تعالى بعد أن خلق الإنسان، وأدخله الاختبارات الدنيوية مع أنه يعلم بأن بعض البشر سوف لن ينجح في الامتحان، ولكن أرادنا أن نكتشف ذلك، وهو قد تفضّل علينا جميعا بأن أدخلنا هذه الاختبارات حتى نرتقي، والفضل الأكبر على الأشخاص الذين يعلم أنهم لا يجتازون الاختبار إذ لعلهم يكدون ويتعبون أنفسهم، ويستطيعون أن يجتازوا الاختبار. فعلم الله تعالى والحال هذه ليس فيه أي مؤاخذة، ولا يتوقف العقل بحسن كل هذا منه تعالى، مع علمه تعالى بكل هذه التفاصيل. الآن نأتي إلى المرحلة الأخيرة، وهي أن النتائج التي توزع يوم القيامة كانت على وفق الاختبارات التي حصل عليها الناس في الدنيا، فبمقدار ما اجتاز الإنسان تلك الاختبارات بتلك الدرجات ينال درجته في الجنة، ومن أخفق فإنه بمقدار إخفاقه ينال درجته من العذاب، وهذا العذاب ليس شيئا من عند الله تعالى، وإنما هو نتاج إخفاق الإنسان، وبعبارة أخرى: إن مقدار ما انغمس به الإنسان من الملذّات والمحرّمات فإنه كان يحمل على نفسه، وعلى كتفه العذاب، فنفس فعل المحرمات هو سلب للخير والنعيم، وانغماس في المهالك، لا أن المهالك شيء خارج عن نفس أعماله، فمن يمدّ يده إلى النار فإنه قد ارتكب محرماً، ونفس هذا المحرم هو من أحرق يده، لا أن الله تعالى يأتيه بنارٍ غير نار عمله الفاسد والقبيح، فنفس قبح عمله هو عذاب في حقه ولذا نجد الله تعالى يقول في كتابه فيمن أكل مال اليتيم {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، أي أن نفس هذا المال هو نار تحرق صاحبه. خلاصة كل هذا الكلام : إن علم الله تعالى لا يصطدم مع أصل خلق الإنسان، ولا يصطدم مع إعطاء الاختيار والعقل للإنسان، ولا يصطدم مع جعله في الدنيا وعالم الاختبارات وعالم الابتلاءات، ولا يصطدم مع الجزاء الأخروي لتلك الاعمال التي عملها الإنسان في دار الاختبار، بل لمسنا في بعض الزوايا أن عمله تعالى وعطاءه للإنسان الفاسد خاصة أكثر رحمة من غيره، لما أعطاه من الفرصة الكبيرة والجسيمة، لعله يقدر أن يأتي بالصالحات، ويزداد من الحسنات. وبعد كل هذا أرجو من الله أن أكون قد بينت لكم المسألة بكل تفاصيلها و أفلحت في تصوير مكان التشكيك، والذي يحصل فيه بعض اللبس. تحياتي لكم ودمتم بحفظ الله ورعايته