عليكم السلام ورحمة الله
الآيةالكريمة ( ترجى من تشاء منهن وتؤي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بماء آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما ) كان سبب نزولها هو ان جمعا من نساء النبي - بناء على ما نقله المفسرون - قلن للنبي (صلى الله عليه وآله): زد في نفقتنا وأمور معاشنا - طمعا في الغنائم الحربية، فكن يحسبن أن قسما كبيرا منها من نصيبهن فنزلت الآيات المذكورة وخاطبتهن بصراحة بأنهن إن أردن الحياة الدنيا وزينتها فليفارقن النبي إلى الأبد، وإن أردن الله ورسوله واليوم الآخر فليعشن معه حياة بسيطة.
إضافة إلى أنه كانت بينهن منافسة في كيفية تقسيم أوقات حياة النبي (صلى الله عليه وآله) بينهن، وكن يحرجن النبي ويضايقنه مع كل المشاكل والمشاغل التي كانت لديه، ومع أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يراعي العدالة بينهن ويبذل الجهد اللازم لتحقيقها تماما، فقد كان لغطهن وجدالهن مستمرا، فنزلت هذه الآية وجعلت النبي (صلى الله عليه وآله) حرا في تقسيم أوقاته، ثم أعلنت الآية لهن أن هذا حكم إلهي لئلا يتولد في أنفسهن أي قلق وسوء ظن .
وإن قائدا ربانيا عظيما كالنبي (صلى الله عليه وآله) خاصة وأنه ابتلي بسيل من الحوادث الصعبة المرة، وكانوا يحوكون له الدسائس والمؤامرات داخليا وخارجيا، لا يقدر أن يشغل فكره بحياته الخاصة كثيرا، بل يجب أن يكون له هدوء نسبي في حياته الداخلية ليقوى على التفرغ لحل سيل المشاكل التي أحاطت به من كل جانب.
إن اضطراب الحياة الشخصية، وكون قلبه وفكره مشغولين بوضعه العائلي في هذه اللحظات المضطربة الحساسة كان أمرا خطيرا للغاية.
ومع أن زواج النبي (صلى الله عليه وآله) المتعدد - وطبقا للبحوث السابقة، والوثائق والمستندات التي أوردناها في تفسير الآية السابقة - كانت له أبعاد سياسية واجتماعية وعاطفية غالبا، وكان في الحقيقة جزءا من تنفيذ وتطبيق رسالة الله سبحانه، إلا أن الاختلاف بين زوجات النبي، والمنافسة النسوية المعروفة بينهن، قد أثار في الوقت نفسه عاصفة من الاضطراب داخل بيت النبي مما شغل فكره وزاد في همه.
هنا منح الله سبحانه نبيه إحدى الخصائص الأخرى، وأنهى هذه الحوادث والأخذ والعطاء في الجدل إلى الأبد، وأراح فكر النبي (صلى الله عليه وآله) من هذه الجهة، وهدأ خاطره وروعه، فقال سبحانه في هذه الآية ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء.
" ترجي " من (الإرجاء)، أي: التأخير، و " تؤوي "، من (الإيواء) ويعني استضافة شخص في بيتك.
ونعلم أن أحكام الإسلام في شأن الزوجات المتعددة تقضي بأن يقسم الزوج أوقاته بينهن بصورة عادلة، فإن بات ليلة عند واحدة، فيجب أن يبيت الليلة الأخرى عند غيرها، إذ لا فرق ولا اختلاف بين النساء من هذه الجهة، ويعبرون عن هذا الموضوع في الكتب الفقهية الإسلامية ب " حق القسم ".
فكانت إحدى مختصات النبي (صلى الله عليه وآله) هي سقوط رعاية حق القسم منه بحكم الآية أعلاه، وذلك نتيجة للظروف الخاصة التي كان يعيشها، والأوضاع المضطربة التي كانت تحيط به من كل جانب، وخاصة أن الحرب كانت تفرض عليه كل شهر تقريبا، وكان له في نفس الوقت زوجات متعددة، وبسقوط هذا الواجب عنه فقد كان قادرا على أن يقسم أوقاته كيف يشاء، غير أنه (صلى الله عليه وآله) كان يراعي تحقيق العدالة ما أمكن رغم هذه الظروف، كما جاء ذلك في التواريخ الإسلامية صريحا.
إلا أن وجود هذا الحكم الإلهي قد منح نساء النبي الراحة والاطمئنان، وأضفى على حياته الداخلية الهدوء والسكينة.
ثم تضيف الآية: وعندما ترغب عن إحداهن وتعتزلها، ثم ترغب فيها فلا تثريب عليك: ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك.
وبهذا فليس الخيار بيدك في البداية وحسب، بل إنه بيدك حتى في الأثناء أيضا، وهو في الاصطلاح " تخيير استمراري " لا ابتدائي، وبهذا الحكم الواسع ستقطع كل الحجج من برنامج حياتك فيما يتعلق بأزواجك، وتستطيع أن تسخر فكرك لمسؤوليات الرسالة العظيمة الثقيلة.
ومن أجل أن تعلم نساء النبي بأنهن إن أذعن لأمر الله تعالى في مسألة تقسيم أوقات النبي (صلى الله عليه وآله) فإنه يعتبر وسام فخر لهن يضاف إلى الفخر بكونهن أزواج النبي صلى الله عليه وآله)، إذ أن هذا التسليم نوع من التضحية والإيثار، وليس فيه أي عيب وانتقاص، ولذلك يضيف سبحانه: ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن.
وذلك أولا: لأن هذا الحكم عام يشملهن جميعا ولا يتفاوتن فيه، وثانيا: إن الحكم الذي يشرع من جانب الله سبحانه إنما يشرع لمصلحة مهمة، وبناء على هذا فيجب الإذعان له برغبة ورضا، فينبغي مضافا إلى عدم القلق والتأثر أن يفرحن لذلك.
لكن النبي (صلى الله عليه وآله) - وكما أشرنا إلى ذلك - كان يراعي تقسيم أوقاته بينهن بعدالة قدر المستطاع، إلا في الظروف الخاصة التي كانت توجب عدم التسوية وتحتمه، وكان هذا بحد ذاته مطلبا آخر يبعث على ارتياحهن، لأنهن كن يرين أن النبي (صلى الله عليه وآله) يسعى للتسوية بينهن مع كونه مخيرا.
وأخيرا ينهي المطلب بهذه الجملة: والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما لا يستعجل في إنزال العقاب بالمذنبين.
أجل.. إن الله يعلم بأي حكم قد رضيتم، وله أذعنتم بقلوبكم، وعن أي حكم لم ترضوا.
وهو سبحانه يعلم إلى من أكثر من أزواجكم، ومن منهن تحظى باهتمام أقل، ويعلم كيف تراعون حكمه وتنفذوه مع هذا الاختلاف في الميول والرغبات.
وكذلك يعلم سبحانه من هم الذين يجلسون جانبا، ويعترضون على أحكام الله في شأن النبي (صلى الله عليه وآله)، ويعارضونها بقلوبهم، ويعلم من هو الذي يرضى عن هذه الأحكام ويتقبلها بدون اعتراض.
بناء على هذا فإن تعبير (قلوبكم) واسع يشمل النبي (صلى الله عليه وآله) وأزواجه، ويشمل كل المؤمنين الذين يقبلون بهذه الأحكام، أو الذين يعترضون عليها وينكرونها وإن لم يبدوا هذا الاعتراض والإنكار.