السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرحبا بكم في تطبيق المجيب
*اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالأيمن فقد حبط عمله وهو الآخرة من الخاسرين (5)
حكم طعام أهل الكتاب وحكم الزواج بهم:
تناولت هذه الآية، التي جاءت مكملة للآيات السابقة، نوعا آخر من الغذاء الحلال، فبينت أن كل غذاء طاهر حلال، وإن غذاء أهل الكتاب حلال للمسلمين، وغذاء المسلمين حلال لأهل الكتاب، وحيث قالت الآية: اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ... المزید.
وتشتمل هذه الآية الكريمة على أمور نجلب الالتفات إليها، وهي:
1 - إن المراد بكلمة " اليوم " الواردة في هذه الآية هو يوم " عرفة " بناء على ما اعتقده بعض المفسرين، وقد ذهب مفسرون آخرون إلى أن المراد هو اليوم الذي تلا فتح خيبر - ولا يبعد - أن يكون هو نفس " يوم غدير خم " الذي تحقق فيه النصر الكامل للمسلمين على الكفار (وسنتناول هذا الموضوع بالشرح قريبا).
2 - لقد تناولت هذه الآية قضية تحليل الطيبات مع أنها كانت حلالا قبل نزول الآية والهدف من ذلك هو أن تكون هذه القضية مقدمة لبيان حكم " طعام أهل الكتاب ".
3 - ما هو المقصود ب " طعام أهل الكتاب " الذي اعتبرته الآية حلالا على المسلمين؟
يعتقد أغلب مفسري علماء السنة أن " طعام أهل الكتاب " يشمل كل أنواع الطعام، سواء كان من لحوم الحيوانات المذبوحة بأيدي أهل الكتاب أنفسهم أو غير ذلك من الطعام، بينما تعتقد الأغلبية الساحقة من مفسري الشيعة وفقهائهم أن المقصود من " طعام أهل الكتاب " هو غير اللحوم المذبوحة بأيدي أهل الكتاب، إلا أن هناك القليل من علماء الشيعة - أيضا - ممن يقولون بصحة النظرية الأولى التي اتبعها أهل السنة.
وتؤكد رأي غالبية الشيعة - في هذا المجال - الروايات العديدة الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
فقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في هذه الآية: " عني بطعامهم ها هنا الحبوب والفاكهة غير الذبائح التي يذبحون، فإنه لا يذكرون اسم الله عليها ".
ووردت روايات عديدة أخرى في هذا المجال في الجزء السادس عشر من كتاب وسائل الشيعة في الباب 51 من أبواب الأطعمة والأشربة، في الصفحة 371.
وبالإمعان في الآيات السابقة يتبين أن التفسير الثاني ذهبت إليه الأكثرية من مفسري الشيعة وفقهائهم (تفسير الطعام بغير الذبيحة) هو أقرب إلى الحقيقة من التفسير الأول.
وذلك - كما أوضح الإمام الصادق (عليه السلام) في الرواية التي أوردناها أعلاه - لأن أهل الكتاب لا يراعون الشروط الإسلامية في ذبائحهم، فهم لا يذكرون اسم الله على الذبيحة، ولا يوجهونها صوب القبلة أثناء ذبحها، كما أنهم لا يلتزمون برعاية الشروط الأخرى - فهل يعقل أن تحرم الآية السابقة - وبصورة صريحة - لحم الحيوان المذبوح بهذه الطريقة، وتأتي آية أخرى بضدها لتحلله؟!
وترد على الذهن في هذا المجال أسئلة نلخصها فيما يلي:
1 - لو كان المقصود بالطعام سائر الأغذية ما عدا لحوم ذبائح أهل الكتاب، فإن هذه الأغذية كانت حلالا من قبل، ولا فرق بين وجودها في أيدي أهل الكتاب أو غيرهم، فهل كان شراء الحبوب والغلات من أهل الكتاب قبل نزول هذه الآية شيئا مخالفا للشرع، في حين أن المسلمين كانوا دائما يتعاطون مع أهل الكتاب شراء وبيع هذه الأشياء؟!
إذا توجهنا إلى نقطة أساسية في الآية الكريمة، يتوضح لنا بجلاء جواب هذا السؤال، فالآية الأخيرة - هذه - نزلت في زمن كان للإسلام فيه السلطة الكاملة على شبه الجزيرة العربية وقد أثبت الإسلام وجوده في كل الساحات والميادين على طول هذه الجزيرة وعرضها، بحيث أن أعداء الإسلام قد تملكهم اليأس التام لعجزهم عن دحر المسلمين، ولذلك اقتضت الضرورة - في مثل هذا الظرف المناسب للمسلمين - أن ترفع القيود والحدود التي كانت مفروضة قبل هذا في مجال مخالطة المسلمين لغيرهم، حيث كانت هذه القيود تحول دون تزاور المسلمين مع الغير.
لذلك نزلت هذه الآية الكريمة وأعلنت تخفيف قيود التعامل والمعاشرة مع أهل الكتاب، بعد أن ترسخت قواعد وأساس الحكومة الإسلامية، ولم يعد هناك ما يخشى منه من جانب غير المسلمين، فسمحت الآية بالتزاور بين المسلمين وغيرهم، وأحلت طعام بعضهم لبعض كما أحلت التزواج فيها بينهم (ولكن على أساس الشروط التي سنبينها).
جدير بالقول أن الذين لا يرون طهارة أهل الكتاب يشترطون أن يكون طعامهم خاليا من الرطوبة أو البلل، وإذا كان الطعام رطبا يشترط أن لا تكون أيادي أهل الكتاب قد مسته لكي يستطيع المسلمين تناول هذا الطعام، كما يرى هؤلاء عدم جواز تناول طعام أهل الكتاب إن لم تتوفر الشروط المذكورة فيه.
إلا أن مجموعة أخرى من العلماء الذين يرون طهارة أهل الكتاب، لا يجدون بأسا في تناول الطعام مع أهل الكتاب والحلول ضيفا عليهم، شرط أن لا يكون طعامهم من لحوم ذبائحهم وأن يحصل اليقين من براءته من نجاسة عرضية (كأن يكون قد تنجس باختلاطه أو ملامسته للخمرة أو الجعة " ماء العشير ").
وخلاصة القول: إن الآية - موضوع البحث - جاءت لترفع الحدود والقيود السابقة الخاصة بمعاشرة أهل الكتاب، والدليل على ذلك هو إشارة الآية لإباحة طعام المسلمين لأهل الكتاب، أي السماح للمسلمين باستضافتهم، كما تتطرق الآية بعد ذلك مباشرة إلى حكم التزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب (أي الزواج بنساء أهل الكتاب).
وبديهي أن النظام الذي يمتلك السيطرة الكاملة على أوضاع المجتمع، هو وحده القادر على إصدار مثل هذا الحكم لمصلحة أتباعه دون أن يساوره أي قلق بسبب الأعداء، وقد ظهرت هذه الحالة في الحقيقة في يوم غدير خم، أو في يوم عرفة في حجة الوداع كما اعتقده البعض، أو بعد فتح خيبر، مع أن يوم غدير خم هو الأقرب إلى هذا الموضوع.ر
أورد صاحب تفسير المنار في كتابه إعتراضا آخر في تفسير هذه الآية، حيث يقول بأن كلمة " طعام " وردت في كثير من آيات القرآن بمعنى كل أنواع الطعام، وهي تشمل اللحوم أيضا، فكيف يمكن تقييد الآية بالحبوب والفواكه وأمثالها؟، ثم يقول بأنه طرح هذا الاعتراض في مجلس كان يضم جمعا من الشيعة فلم يجب أحد عليه.
وباعتقادنا نحن أن جواب اعتراض صاحب كتاب المنار واضح، فنحن لا ننكر أن لفظة " طعام " تحمل مفهوما واسعا، إلا أن ما ورد في الآيات السابقة، كبيان أنواع اللحوم المحرمة - وبالأخص لحوم الحيوانات التي لم يذكر اسم الله عليها لدى ذبحها - إنما يخصص هذا المفهوم الواسع ويحدد كلمة " طعام " في الآية بغير اللحوم، ولا ينكر أحد أن كل عام أو مطلق قابل للتخصيص والتقييد، كما نعلم أن أهل الكتاب لا يلتزمون بذكر اسم الله على ذبائحهم، ناهيك على أنهم لا يراعون - أيضا - الشروط الواردة في السنة في مجال الذبح.
وجاء في كتاب " كنز العرفان " حول تفسير هذه الآية اعتراض آخر خلاصته أن كلمة " طيبات " لها مفهوم واسع، وهي " عامة " بحسب الاصطلاح، بينما جملة وطعام الذين أوتوا الكتاب خاصة، وطبيعي أن ذكر الخاص بعد العام يجب أن يكون لسبب، ولكن السبب في هذا المجال غير واضح، ثم يرجو صاحب الكتاب من الله أن يحل له هذه المعضلة العلمية (1).
إن جواب هذا الاعتراض يتضح أيضا مما قلناه سابقا بأن الآية إنما جاءت بعبارة أحل لكم الطيبات كمقدمة من أجل بيان رفع القيود في التقارب مع أهل الكتاب، فالحقيقة أن الآية تقول بأن كل شئ طيب هو حلال للمسلمين، وبناء على هذا فإن طعام أهل الكتاب (إذ كان طيبا وطاهرا) هو حلال أيضا للمسلمين - وأن الحدود والقيود التي كانت تقف حائلا دون تقارب المسلمين مع أهل الكتاب قد رفعت أو خففت في هذا اليوم بعد الانتصارات التي أحرزها المسلمون فيه، (فليمعن النظر في هذا).
حكم الزواج بغير المسلمات:
بعد أن بينت هذه الآية حلية طعام أهل الكتاب تحدثت عن الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب، فقالت بأن المسلمين يستطيعون الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب، شرط أن يدفعوا لهن مهورهن، حيث تقول الآية: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن... على أن يكون التواصل بوسيلة الزواج المشروع وليس عن طريق الزنا الصريح، ولا عن طريق المعاشرة الخفية، حيث تقول الآية: محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان (٢).:
وهذا الجزء من الآية الكريمة يقلل في الحقيقة الحدود التي كانت مفروضة على الزواج بين المسلمين وغيرهم، ويبين جواز زواج المسلم بالمرأة الكتابية ضمن شروط خاصة.
وقد اختلف فقهاء المسلمين في أن جواز الزواج بالمرأة الكتابية هل ينحصر بالنوع المؤقت من الزواج، أو يشمل النوعين: الدائم والمؤقت؟
لا يرى علماء السنة فرقا بين نوعي الزواج في هذا المجال، ويعتقدون بأن الآية عامة، بينما يعتقد جمع من علماء الشيعة أن الآية مقتصرة على الزواج المؤقت، وتؤيد روايات وردت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هذا الرأي أيضا.
والقرائن الموجودة في الآية يمكن أن تكون دليلا على هذا القول.
وأول هذه القرائن هو قوله تعالى: إذا آتيتموهن أجورهن ولو أن لفظة " الأجر " تطلق على المهر في نوعي الزواج الدائم والمؤقت، إلا أنها غالبا ما ترد لبيان المهر في الزواج المؤقت، أي أنها تناسب هذا الأخير أكثر.
أما القرينة الثانية فهي قوله تعالى: غير مسافحين ولا متخذي أخدان ... فهي تتلاءم أكثر مع الزواج المؤقت، لأن الزواج الدائم ليس فيه شبه الزنا أو الصداقة السرية لكي ينهى عنه، بينما يشتبه بعض السذج من الناس - أحيانا - في الزواج المؤقت فيخلطون بينه وبين الزنا والصداقة السرية غير المشروعة مع المرأة.
أضف إلى ذلك كله ورد هذه التعابير في الآية (25) من سورة النساء، وكما نعلم فإن تلك الآية نزلت في شأن الزواج المؤقت.
مع ذلك كله فإن هناك العديد من الفقهاء ممن يجيزون الزواج بالكتابيات بصورة مطلقة، ولا يرون القرائن المذكورة المذكورة كافية لتخصيص الآية، كما يستدلون في هذا المجال ببعض الروايات " للاطلاع على تفاصيل أكثر في المجال يجدر الرجوع إلى كتب الفقه ".
ولا يخفى علينا ما شاع في عالم اليوم من تقاليد الجاهلية بصورة مختلفة، ومن ذلك انتخاب الرجل أو المرأة خليلا من الجنس الآخر وبصورة علنية، وقد تمادى إنسان عالم اليوم أكثر من نظيره الجاهلي في التحلل والخلاعة والمجون الجنسي، ففي حين كان الإنسان الجاهلي ينتخب الأخلاء سرا وفي الخفاء، أصبح إنسان اليوم لا يرى بأسا من إعلان هذا الأمر والتباهي به بكل صلف ووقاحة، ويعتبر هذا التقليد المشين نوعا صريحا ومفضوحا من الفحشاء وهدية مشؤومة انتقلت من الغرب إلى الشرق وأصبحت مصدرا للكثير من النكبات والكوارث.
ولا يفوتنا أن نوضح هذه النقطة وهي أن الآية أجازت تناول طعام أهل الكتاب كما أجازت إطعامهم وفق الشروط التي ذكرت، بينما في قضية الزواج أجازت فقط الزواج بنساء أهل الكتاب، ولم تجز للنساء المسلمات الزواج بالرجال من أهل الكتاب. وفلسفة هذا الأمر جلية واضحة لا تحتاج إلى الشرح والتفصيل، لأن النساء بما يمتلكنه من عواطف ومشاعر رقيقة يكن أكثر عرضة لاكتساب أفكار أزواجهن، من الرجال.
ولكي تسد الآية طريق إساءة استغلال موضوع التقارب والمعاشرة مع أهل الكتاب والزواج من المرأة الكتابية على البعض من ضعاف النفوس، وتحول دون الانحراف إلى هذا الأمر بعلم أو بدون علم، حذرت المسلمين في جزئها الأخير فقالت: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.
وهذه إشارة إلى أن التسهيلات الواردة في الآية بالإضافة إلى كونها تؤدي إلى السعة ورفع الحرج عن حياة المسلمين، يجب أن تكون - أيضا - سببا لتغلغل الإسلام إلى نفوس الأجانب، لا أن يقع المسلمون تحت نفوذ وتأثير الغير فيتركوا دينهم، وحيث سيؤدي بهم هذا الأمر إلى نيل العقاب الإلهي الصارم الشديد.
وهناك احتمال آخر في تفسر هذا الجزء من الآية نظرا لبعض الروايات الواردة وسبب النزول المذكور، وهو أن نفرا من المسلمين أعلنوا - بعد نزول هذه الآية وحكم حلية طعام أهل الكتاب والزواج بالكتابيات - استياءهم من تطبيق هذه الأحكام، فحذرتهم الآية من الاعتراض على حكم الله ومن الكفر بهذه الحكم، وأنذرتهم بأن أعمالهم ستذهب هباء وستكون عاقبتهم الخسران.
————————————————————————————————————————————————————————————————————————
* الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ٣ - الصفحة ٦٠٩
1 - كنز العرفان، ج 2، ص 312.
٢- لقد أوضحنا في هذا الجزء من تفسيرنا هذا في تفسير الآية (25) من سورة النساء، أن كلمة " أخدان " جمع " خدن " وهي تعني في الأصل الصديق، وعادة ما تطلق على الصداقة السرية غير الشرعية مع الجنس الآخر.