بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
اهلا بكم في تطبيقكم المجيب
انقل لكم ما ذكره تفسير الامثل بطوله لاهميته ونص ما قاله:
(وردت روايات عديدة في أسباب نزول هذه السورة في كتب الحديث والتفسير والتاريخ، عن الشيعة والسنة، إنتخبنا أشهر تلك الروايات وأنسبها وهي:
كان رسول الله يذهب أحيانا إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في بيتها حتى " تأتي إليه بعسل كانت قد هيأته له (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن لما سمعت عائشة بذلك شق عليها الأمر، ولذا قالت: إنها قد اتفقت مع " حفصة " إحدى (أزواج الرسول) على أن يسألا الرسول بمجرد أن يقترب من أي منهما بأنه هل تناول صمغ " المغافير " (وهو نوع من الصمغ يترشح من بعض أشجار الحجاز يسمى " عرفط " ويترك رائحة غير طيبة، علما أن الرسول كان يصر على أن تكون رائحته طيبة دائما) وفعلا سألت حفصة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا السؤال يوما ورد الرسول بأنه لم يتناول صمغ " المغافير " ولكنه تناول عسلا عند زينب بنت جحش، ولهذا أقسم بأنه سوف لن يتناول ذلك العسل مرة أخرى، خوفا من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذت على شجر صمغ " المغافير " وحذرها أن تنقل ذلك إلى أحد لكي لا يشيع بين الناس أن الرسول قد حرم على نفسه طعاما حلالا فيقتدون بالرسول ويحرمونه أو ما يشبهه على أنفسهم، أو خوفا من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألم لذلك.
لكنها أفشت السر فتبين أخيرا أن القصة كانت مدروسة ومعدة فتألم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك كثيرا فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضح الأمر وتنهى من أن يتكرر ذلك مرة أخرى في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (١).
وجاء في بعض الروايات أن الرسول ابتعد عن زوجاته لمدة شهر بعد هذا الحادث (٢)، انتشرت على أثرها شائعة أن الرسول عازم على طلاق زوجاته، الأمر الذي أدى إلى كثرة المخاوف بينهن (٣) وندمن بعدها على فعلتهن.
التفسير
٣ التوبيخ الشديد لبعض زوجات الرسول:
مما لا شك فيه أن رجلا عظيما كالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يهمه أمره وحده دون غيره، بل أمره يهم المجتمع الإسلامي والبشرية جمعاء، ولهذا يكون التعامل مع أية دسيسة حتى لو كانت بسيطة تعاملا حازما وقاطعا لا يسمح بتكررها، لكي لا تتعرض حيثية الرسول واعتباره إلى أي نوع من التصدع والخدش والآيات محل البحث تعتبر تحذيرا من ارتكاب مثل هذه الأعمال حفاظا على اعتبار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
البداية كانت خطابا إلى الرسول: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك.
ومن الواضح أن هذا التحريم ليس تحريما شرعيا، بل هو - كما يستفاد من الآيات اللاحقة - قسم من قبل الرسول الكريم، ومن المعروف أن القسم على ترك بعض المباحات ليس ذنبا.
وبناء على هذا فإن جملة لم تحرم لم تأت كتوبيخ وعتاب، وإنما هي نوع من الإشفاق والعطف.
تماما كما نقول لمن يجهد نفسه كثيرا لتحصيل فائدة معينة من أجل العيش ثم لا يحصل عليها، نقول له: لماذا تتعب نفسك وتجهدها إلى هذا الحد دون أن تحصل على نتيجة توازي ذلك التعب؟
ثم يضيف في آخر الآية: والله غفور رحيم ... المزید
وهذا العفو والرحمة إنما هو لمن تاب من زوجات الرسول اللاتي رتبن ذلك العمل وأعددنه. أو أنها إشارة إلى أن الرسول ما كان ينبغي له أن يقسم مثل هذا القسم الذي سيؤدي - احتمالا - إلى جرأة وتجاسر بعض زوجاته عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويضيف في الآية اللاحقة أن الله قد أوضح طريق التخلص من مثل هذا القسم: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم (٤) أي أعط كفارة القسم وتحرر منه.
ويذكر أن الترك إذا كان راجحا على العمل فيجب الالتزام بالقسم والحنث فيه ذنب تترتب كفارة عليه، أما في الموارد التي يكون فيها الترك شيئا مرجوحا مثل " الآية مورد البحث " فإنه يجوز الحنث في القسم، ولكن من الأفضل دفع كفارة من أجل الحفاظ على حرمة القسم واحترامه (٥).
ثم يضيف: والله مولاكم وهو العليم الحكيم.
فقد أنجاكم من مثل هذه الأقسام ووضع لكم طريق التخلص منها طبقا لعلمه وحكمته.
ويستفاد من بعض الروايات أن النبي أعتق رقبة بعد هذا القسم وحلل ما كان قد حرمه بالقسم.
وفي الآية اللاحقة يتعرض لهذا الحادث بشكل أوسع: وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض.
ما هذا السر الذي أسره النبي لبعض زوجاته ثم لم يحفظنه؟
طبقا لما أوردناه في أسباب النزول فإن هذا السر يتكون من أمرين:
الأول: تناول العسل عند زوجته (زينب بنت جحش).
والثاني: تحريم العسل على نفسه في المستقبل.
أما الزوجة التي أذاعت السر ولم تحافظ عليه فهي " حفصة " حيث أنها نقلت ذلك الحديث الذي سمعت به إلى عائشة.
أما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد اطلع على إفشاء هذا السر عن طريق الوحي، وذكر بعضه " لحفصة " ومن أجل عدم إحراجها كثيرا لم يذكر لها القسم الثاني (ولعل القسم الأول يتعلق بأصل شرب العسل، والثاني هو تحريم العسل على نفسه).
وعلى كل فإنه: فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير.
ويتضح من مجموع هذه الآيات أن بعض زوجات الرسول لم يكتفين بإيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلامهن، بل لا يحفظن سره، وحفظ السر من أهم صفات الزوجة الصالحة الوفية لزوجها، وكان تعامل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معهن على العكس من ذلك تماما إلى الحد الذي لم يذكر لها السر الذي أفشته كاملا لكي لا يحرجها أكثر، واكتفى بالإشارة إلى جزء منه.
ولهذا جاء في الحديث عن الإمام علي (عليه السلام): " ما استقصى كريم قط، لأن الله يقول: عرف بعضه وأعرض عن بعضه (٦).
ثم يتحدث القرآن مع زوجتي الرسول اللتين كانتا وراء هذا الحادث بقوله:
إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما.
وقد اتفق المفسرون الشيعة والسنة على أن تلك الزوجتين هما " حفصة بنت عمر " و " عائشة بنت أبي بكر ".
" صغت " من مادة " صغو " على وزن " عفو " بمعنى الميل إلى شئ ما، لذلك يقال " صغت النجوم " " أي مالت النجوم إلى الغروب " ولهذا جاء اصطلاح " إصغاء " بمعنى الاستماع إلى حديث شخص آخر. والمقصود من " صغت قلوبكما " أي مالت من الحق إلى الباطل وارتكاب الذنب (٧).
ثم يضيف تعالى: وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.
ويتضح من هذا كم تركت هذه الحادثة من أثر مؤلم في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وروحه العظيمة، ورغم قدرة الرسول المتكاملة نشاهد أن الله يدافع عنه إذ يعلن حماية جبرائيل والمؤمنين له.
ومن الجدير بالذكر أنه ورد في صحيح البخاري (ما مضمونه) عن ابن عباس أنه قال: سألت عمر: من كانت المرأتان اللتان تظاهرتا على النبي من أزواجه، فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا قال:
فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فاسألني فإن كان لي علم خبرتك به، قال ثم قال عمر: والله إن كن في الجاهلية ما تعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم.. " (٨).
وفي تفسير الدر المنثور، ورد أيضا عن ابن عباس ضمن حديث مفصل أنه قال: قال عمر: ".. علمت بعد هذه الحادثة أن النبي اعتزل جميع النساء، وأقام في " مشربة أم إبراهيم "، فأتيته وقلت: يا رسول الله هل طلقت نساءك؟ قال: لا. قلت:
الله أكبر، كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر من ذلك فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل.. فقلت لابنتي حفصة لا تفعلي ذلك أبدا وإن فعلته جارتك (يعني عائشة) لأنك لست هي.. " (٩).
في آخر آية من هذه الآيات يخاطب الله تعالى جميع نساء النبي بلهجة لا تخلو من التهديد: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا.
لذا فهو ينذرهن ألا يتصورن أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سوف لن يطلقهن، أو يتصورن أن النبي لا يستبدلهن بنساء أخريات أفضل منهن، وذلك ليكففن عن التآمر عليه وإلا فسيحرمن من شرف منزلة " زوجة الرسول " إلى الأبد، وستأخذ نساء أخريات أفضل منهن هذا اللقب الكريم.
(تفسير الامثل، الشيخ ناصر مكارم شيرازي، ج١٨/ص٤٤٣).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ - هذا الحديث أورده في الأصل (البخاري) في ج ٦، من صحيحه ص ١٩٤، والتوضيحات التي ذكرت في الأقواس
تستفاد من كتب أخرى.
٢ - تفسير القرطبي وتفاسير أخرى ذيل الآية مورد البحث.
٣ - تفسير في ظلال القرآن، ج ٨، ص ١٦٣.
٤- الراغب في المفردات ، يقول: إذا جاءت كلمة فرض مع على فإنها تدل على الوجوب، وأما إذا جاءت معها
لام فإنها تدل على عدم المنع وبهذا يكون الفرض في الآية السابقة هو السماح والإباحة وليس الوجوب.
وعبارة تحلة - مصدر من باب تفعيل - بمعنى إباحة والحلية، أو بتعبير آخر العمل على فتح عقدة القسم، وهو الكفارة.
٥- كفارة القسم حسب ما يستفاد من الآية (٨٦) من سورة المائدة عبارة عن إطعام عشرة مساكين، أو إكساؤهم، أو
تحرير رقبة. وإن كان لا يقدر على شئ من ذلك فصيام ثلاثة أيام.
٦- تفسير الميزان، ج ١٩، ص ٣٩٢.
٧- طبقا للتفسير الذي ذكرناه والذي اختاره أكثر المفسرين فإن هناك شيئا محذوفا في الآية تقديره إن تتوبا إلى الله كان خير لكما أو تقدير آخر مشابه، ولكن احتمل بعض آخر أنه ليس هناك محذوف في الآية وجملة (صغت قلوبكما) جزاء الشرط (بشرط أن يكون الميل إلى الحق وليس العكس).
ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا لأن الشرط جاء بصيغة الفعل المضارع بينما الجزاء بصيغة الفعل الماضي وهذا غير جائز في عرف أكثر النحويين، ويذكر أن قلوبكما جاءت بصيغة الجمع لا المثنى، وذلك لتلافي إجتماع ألفاظ التثنية بصورة متتالية الذي لا يتناسب مع بلاغة القرآن وفصاحته.
٨- صحيح البخاري، ج ٦، ص ١٩٥.
٩- الدر المنثور، ج ٦، ص ٢٤٣.
تحياتي لكم
ودمتم بحفظ الله ورعايته