من المسلّمات البديهية لدى كافة الإلهيين، من مسلمين أو غيرهم، أن الحساب يوم القيامة لا يكون جزافاً، وإنما يرتكز على جملة أسس، أهمها: ركيزة العقل، فمن يفتقد إلى نعمة العقل لا يحاسب ولا يعاقب، بل إن مؤاخذته ومعاقبته والحال هذه عمل قبيح لا تصدر من الحكيم، لأنها مؤاخذة إنسان لم تتم إقامة الحجة عليه، لأنه إنما يحتج على العاقل، أما مع فقد العقل فلا مجال للاحتجاج والإدانة.
ضعفاء العقول: هم أولئك الأشخاص الذين يمتلكون قدرات عقلية متواضعة، فلا هم فاقدو العقل كليةً، ولا أنهم يمتلكون نضجاً عقلياً كاملاً ، بل هم في منزلة متوسطة، باختصار: هم ضعفاء العقول، والضعف العقلي له مستويات متعددة ومتفاوتة، بعضها يلامس حدّ الجنون، وبعضها يلامس حد اكتمال العقل، وبعضها منزلة بين المنزلتين.
هذا ما نقوله عموماً، ومع ذلك فلا بد لنا أن ندخل في بيان مستويات الخلل العقلي لمزيد من التبصّر.
البُلهاء:
المستوى الأول: أن يصل الضعف المذكور إلى حدّ البلاهة، وهو المستوى الأعلى من الضعف أو الخلل العقلي، وقد يصطلح على صاحبه بالأبله، والبله ليس جنوناً، لأن الجنون فقد العقل، أما البله فهو ـ كما قلنا ـ ضعف العقل، كما يستفاد من بعض الروايات [تهذيب الأحكام، ج9، ص:182]، ويشهد للمغايرة بين الأبله والمجنون الرواية المتقدمة، فإنها عطفت أحدهما على الآخر، والعطف يقتضي المغايرة.
والذي يمكن قوله بشأن المصير الأخروي للأبله:
إنه ملحق بفاقد العقل بالكلية، إن لجهة سقوط التكاليف الشرعية عنه، فإن تكليفه مع كونه لا يفهم ولا يعي معنى التكليف، هو تكليف بما لا يُطاق، أو لجهة قبح معاقبته يوم الحساب، لأن ضعف عقله بلغ حداً ألحقه بالمجنون، بل ربما أطلق عليه أنه مجنون في بعض الأحيان.
البسطاء والسُّذج:
أمّا المستوى الثاني: أن لا يبلغ الضعف العقلي المذكور حدّ الجنون ولا البلاهة، وإنما يبلغ حدّ السذاجة أو السفاهة، وهذه السذاجة قد تكون ناشئة عن حالة مرضية تعبّر عن عدم اكتمال ملكة العقل لدى الإنسان، وقد لا تكون كذلك، أي لا يكون هناك ضعف في الطاقة العقلية ذاتها، إلا أن هذه الطاقة حيث لا تتم تنميتها بالتأمل أو التدبر أو التعلم أو بالاحتكاك الاجتماعي فإنّ صاحبها سيكون ساذجاً بسيطاً قليل الخبرة متواضعاً في إمكاناته العقلية لا يستطيع محاكمة المذاهب ولا يحسن الاختيار بينها، بل يتقبل ويرتضي كل ما يعرض عليه من أفكار، فاعتقاده قائم على التقليد وإتباع الآباء لا على الاجتهاد والتدبر.
وهذا الصنف من الناس يصطلح عليه في القاموس الفقهي بالسفيه، ويصطلح عليه في القاموس الكلامي بالمستضعف، وكلا المصطلحين ـ أعني السفيه والمستضعف ـ واردان في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهناك حديث مستفيض عنهما في علمي الفقه والكلام.
السفيه:
أما فيما يرتبط بالنظرة التشريعية إزاء السفيه فقد أسهب الفقه الإسلامي في الحديث عنها، وخلاصة ما نستفيده من النصوص التشريعية: أن السفاهة ليست في مقابل العقل ولا تساوي الجنون وإنما تقابل الرشد، ولذا فهي لا تمنع من توجيه الخطاب بالتكاليف الشرعية إلى السفيه، بخلاف الجنون، فإنه رافع لقلم التشريع عن المجنون، أجل إن السفاهة تقتضي الحَجْر على السفيه ومنعه من الاستقلال بالتصرفات المالية، فلا بدّ أن تكون تصرفاته المالية بإشراف الولي، قال تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم}(النساء:6)، ولا نريد هنا الإسهاب في هذا الموضوع، وإنما نشير إلى أنّ لنا ملاحظة على ربط الرشد بإصلاح خصوص المال، مع أنه مفهوم أعمق وأشمل من ذلك فهو يعبر عن نضح وخبرة بالحياة تظهر نتائجها في حسن إدارة المال أو غيره(راجع: حقوق الطفل في الإسلام ص32).
ويمكننا أن نقول على نحو العموم في بيان الموقف من هذا الصنف: إن الحساب الأخروي بما أنه يرتكز على العقل كأساسٍ في الثواب والعقاب، فإن الضعف العقلي إن كان لا يمنع من وعي الحقائق الدينية وتفهم معنى التكليف الشرعي فتصح المؤاخذة حينئذٍ على عدم الإيمان بالمعتقدات أو عدم امتثال التكاليف، على سبيل المثال، فإنّ عقيدة الإيمان بالله سبحانه، هي قضية فطرية يمكن أن يدركه من كان له أدنى حظ من العقل والوعي، فلو جحد هذا الشخص الخالق أو تمرد عليه فتصح معاقبته، وأما إذا بلغ الخلل العقلي حداً لا يمكنه معه وعي الحقائق الدينية ولا تفهّم معنى التكليف الشرعي، فلا تصح مؤاخذته والحال هذه، وبما أن المحاسب هو الله، المطلع على السرائر، فهو يميز من قامت عليه الحجة ممن لم تقم عليه، ولا يمكن أن تلتبس عليه الأمور.
المستضعف:
أما في النظرة الكلامية إلى المستضعف من زاوية الحساب الأخروي فقد يسهل القول: إن الله سبحانه أدرى بملكاته العقلية ومدى وعيه للحقائق الدينية بما يُمكِّن من إقامة الحجة عليه وتالياً حسن إدانته أو قبحها، إلاّ أن النصوص الإسلامية قد أسهبت في الحديث عن المستضعف ومصيره الأخروي، وأول ما يواجهنا على هذا الصعيد النص الأم وهو النص القرآني، قال تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصير إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً}(النساء:97ـ98)، حيث نلاحظ أنه تعالى قد استثنى المستضعفين من أهل الوعيد الذين يشملهم العذاب الإلهي.
إلاّ أن روايات الأئمة من أهل البيت(ع) أعطت الاستضعاف معنى آخر جعلته أقرب إلى الاستضعاف العقلي والثقافي والديني، ففي الحديث الصحيح عن الإمام الباقر(ع) قال: سألته عن قول الله عز وجل: "إلاّ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان" فقال: هو الذي لا يستطيع الكفر فيكفر، ولا يهتدي سبيل الإيمان فيؤمن، والصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم"(معاني الأخبار ص201). وتؤكد روايات أخرى على أن من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف(الكافي 2/405 ـ 406) في إشارة واضحة إلى ربط الاستضعاف بالمستوى الثقافي والعقلي.