قال تعالى: {وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّـهِ } (الأنفال: 41) .
أفتى أغلبُ علماء الشّيعة بوجوب الخمس فيما يستفيده الإنسانُ زائداً على مؤونة السّنة، فالأرباح والفوائد التي يحصل عليها الإنسانُ وتزيد على مؤونة سنته يجب عليه فيها الخمس.
ويقسم الخمس في زماننا زمان الغيبة إلى نصفين، نصف لإمام العصر الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه، وجعل أرواحنا فداه)، و نصف لبني هاشم: أيتامهم، و مساكينهم، و أبناء سبيلهم، و يشترط في هذه الأصناف جميعاً الإيمان.
ونختصر الكلام حول الخمس بطرح أهم الإشكالات التي اعترضت فقهاءَ الشّيعة، وهي ثلاثة نذكرها تباعاً:
الإشكال الأول: أن الآية المباركة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ واردة في سياق آيات الجهاد، فهي من الآيات التي تتحدّث عن الجهاد وتتحدّث عن القتال، بما أنّ الآية واردة في سياق آيات الجهاد وفي سياق آيات الحرب، لذلك اُعْتُبِرَت القرينة السّياقيّة - كما يعبّرون - دليلاً على أنّ المنظور في الآية المباركة هو خمس غنائم الحرب لا خمس كلّ ما يستفيده الإنسان، لذلك فقهاء المذاهب الأخرى لم يفتوا بوجوب الخمس في جميع الأرباح وفي جميع الفوائد الزائدة على مؤونة السّنة، قالوا: الآية واردة في سياق آيات الحرب والجهاد، فالمنظور في الآية المباركة خمس غنيمة الحرب، خمس غنيمة الجهاد، لا خمس كلّ فائدة، وكلّ ربح.
ولكن فقهاء الشّيعة قالوا: بأنّ الغنيمة بحسب معناها اللغوي ومعناها العرفي هي كلّ ما يستفيده الإنسان، فعندما يقال: غَنِمَ فلانٌ المال، يعني: استفاد وربح، فالغنيمة هي الرّبح والفائدة، وهذا ما ذُكر في كتب اللغة، راجع الفيروزبادي في كتاب القاموس، وراجع الأزهري في كتاب التهذيب، وراجع ابن فارس وابن منظور وابن الأثير، وراجع الأصفهاني في كتاب المفردات في اللغة، كلّ كتب اللغة التي ذكرنا أسماءها تنصّ على (أنّ الغنيمة: هي الفائدة والرّبح لا خصوص غنيمة الحرب)، يعني: غنيمة الحرب من مصاديق الغنيمة، غنيمة الحرب؛ لأنّها فائدة فهي من مصاديق ومن أفراد الغنيمة، وإلا فالغنيمة بحسب معناها ومفهومها اللغوي والعرفي هي الفائدة، سواءً كانت غنيمة حرب أو هديّة أو جائزة أو ربح تجارة أو أيّ شيءٍ آخر، كلّ ما يصدق عليه عنوان الفائدة فهو غنيمة.
وقد استعمل القرآن الكريم والسّنة النبويّة مفردة الغنيمة، بمعنى كلّ فائدة:
١- القرآن الكريم يقول: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ [2] ، فمعنى ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾؟ يعني: عند الله فوائد كثيرة ومنافع كثيرة، إذن المراد بالمغنم هنا الفائدة والمنفعة .
٢- ما ورد عن الرّسول محمّدٍ ﷺ كما نقله أحمد بن حنبل في مسنده أنّه قال: ”غنيمة مجالس الذكر الجنة“ كلّ مجلس يُذكَر فيه اسم الله فغنيمته الجنة، «غنيمته» يعني ماذا؟ فائدته، الغنيمة هنا بمعنى الفائدة.
٣- ابن ماجة يروي في سننه عن النبي ﷺ أنّه قال: ”من دفع الزكاة فليقل وهو يدفع الزكاة: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا“، «اجعلها مغنمًا» يعني: اجعلها فائدة ومنفعة في الآخرة ولا تجعلها خسارة.
إذن الغنيمة بمعنى المنفعة والفائدة، وإنّما ذُكِرَت الآية في سياق آيات القتال من باب التطبيق لا من باب الحصر، يعني: القانون العام يقول: يجب الخمس في الغنيمة، والغنيمة هي الفائدة، وبما أنّ غنيمة الحرب من مصاديق الفائدة طبق القانونُ العامُ على غنيمة الحرب، هذا من باب التطبيق لا من باب الحصر، كما يقول علماؤنا: «خصوص المورد لا يخصّص الوارد»، هذا هو الاشكال الأول وجوابه.
الإشكال الثاني: أنّه لو كان الخمس واجبًا في الأرباح لتصدّى النبيُ ﷺ إلى قبض الأخماس بينما لم يُنْقَل هذا أبداً، لا عن النبي الأكرم ولا الإمام علي ولا الإمام الحسن ولا الإمام الحسين ولا علي بن الحسين ولا محمد بن علي الباقر ولا جعفر الصّادق إلى زمان الإمام الكاظم(عليهم السلام )، لا يوجد أحدٌ من هؤلاء تصدّى لقبض الأخماس أبداً، إذن كيف يكون الخمس واجباً ولم يتصدَ هؤلاء لقبضه؟! كما فعلوا في الزكاة، حيث تصدّوا لقبضها، فالرّسول ﷺ جعل عمّالاً لجباية الزكوات، بينما الرّسول ﷺ لم يجعل عمّالاً لجباية الأخماس.
أجاب سيّدنا الخوئي (قدّس سرّه) في كتابه «المستند في شرح العروة الوثقى» تقرير تلميذه المرحوم الشّهيد آية الله الشّيخ مرتضى البروجردي (قدّس سرّه)، بجوابين عن هذه الشّبهة:
الجواب الأوّل: أنّه لا مانع من ذلك، إذ الخمس ما بُلّغ وجوبُه إلى زمن الإمام الكاظم(عليه السلام)، فيما بعد بُلّغ الناس بوجوبه، فأيّ مانع من ذلك؟! يعني: الأحكام الشّرعيّة ما بُلّغت دفعة واحدة، وإنّما بُلّغت على نحو التدريج؛ لأنّ المصلحة كانت تقتضي التدرّج في تبليغ الأحكام، ولو بُلّغ الناسُ الأحكامَ دفعة واحدة لارتدّوا عن الدّين.
فلو لاحظنا القرآن الكريم لوجدناه يتدرّج مثلا في تحريم الخمر، والذي كان شراباً محبوباً عند الناس، فلم يكن بالإمكان تبليغ حرمته دفعة واحدة، فبُلغ الناسُ حرمة شرب الخمر على نحو التدريج.
وهكذا النبي (صلى الله عليه وآله) لم يُبلّغ الأحكام الشّرعيّة كلها دفعة واحدة، بل الكثير من الأحكام الشّرعيّة لم يُبلّغها إلّا بعد سنين، فالنبي (صلّى الله عليه وآله) لم يُبلّغ أكثرَ أحكام الحجّ إلّا في السّنة الأخيرة من حياته، وهي سنة حجّة الوداع.
وهكذا النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يبّلغ وجوبَ الصّلاة - وهي عمود الدّين - إلّا في السّنة الثالثة من البعثة،
فلا مانع من أن يكون وجوب الخمس في الأرباح وفي الفوائد التي يستفيدها الإنسانُ من تجارةٍ أو من هديّةٍ أو من جائزةٍ أخّرَ تبليغه إلى زمن الإمام الكاظم (عليه السّلام)، وإلى زمن الإمام الصّادق (عليه السلام)؛ لأنّه لو قيل للناس: «أيّها الناس تجب عليكم الزكاة، ويجب عليكم الخمس» لشكّل هذا صدمة للناس، ولأوجب ذلك ردّة فعلٍ عند قسم كبير من الناس، ففُرِضَت الزكاة أوّلاً في زمان النبي(صلى الله عليه وآله)، ووُضِعَت العمّال لجبايتها، ولم يُبلّغ الناسُ وجوبَ الخمس إلا في زمن الإمام الكاظم أو في زمن الإمام الصّادق (عليهما السّلام)، إذن لا مانع من التدرّج.
الجواب الثاني: أنّه الخمس لم يكن واجب الجباية، فهو واجب الدّفع لا واجب الجباية، يعني كيف؟
فالزكاة كما يجب على الناس دفعها، كذلك يجب على الحاكم الشّرعي أن ينصب العمّال لجباية الزكاة، فهناك وجوبان:
الأوّل: وجوب دفع الزكاة، والثاني: وجوب الجباية، فالآية المباركة ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً - يعني: أنت يجب عليك أن تتصدّى لقبض الزكوات، ولقبض الصّدقات - تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾(التوبة:١٠٣)،فالآية المباركة لم تقل: يا أيّها النبي خذ من أموالهم خمساً حتى يأمر بالجباية.
وعليه فيجب على الناس دفع الخمس، ولكن لا يجب على النبي(صلّى الله عليه وآله) أنْ يتصدّى للجباية، لذلك النبي(صلى الله عليه وآله) لم يتصدَ للجباية، ولم يضع عمّالاً يجبون الأخماس، وكذلك الأئمة(عليهم السلام) من بعده، إلى أن جاء زمن الإمام الكاظم (عليه السّلام)،حيث تصدّى لقبض الأخماس وجبايتها، ونصب الوكلاء في مختلف بلاد الشّيعة لقبضها ولجبايتها.
الإشكال الثالث: أنّ عندنا روايات معتبرة وصحيحة تدلّ على إباحة الخمس، أنّ الخمس مباحٌ لا يجب دفعه:
ومن تلك الرّوايات ما يسمّى عند الفقهاء بصحيحة الفضلاء، يعني: رووها عدّة رواة فضلاء، عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): ”هلك الناسُ في بطونهم؛ لأنّهم لم يؤدّوا إلينا حقنا، ألا وإنّ شيعتنا وأبناءهم في ذلك من حلّ“ يعني أحلّ دفع الحقّ للشّيعة، قال: هؤلاء معفوون، هذه الرواية وغيرها من الروايات الدالة على نفس المضمون.
وقد بُيّنت هذه الروايات بعدت بيانات، منها: ما ذهب إليه المشهور من علمائنا وهو ما ذهب إليه سيّدنا الخوئي (قدّس سرّه) من أنّ روايات التحليل «الخمس أبيح لشيعتنا، مثلاً: هذا لشيعتنا حلالٌ الشّاهد منهم والغائب..» ناظرة لمورد معيّن فقط، المورد المعيّن هو أن ينتقل المال المتعلق بالخمس من شخص لآخر، فهل يجب على الثاني دفعه؟ لا، لا يجب على الثاني دفعه، أضرب لك مثالاً:
إنسان لا يخمّس، تعرفه أنت لا يخمّس عصيانًا، أو لأنّه مثلاً ليس شيعياً، لا يخمّس، هذا الإنسان الذي لا يخمّس أعطاك هديّة، وأنت تعلم أنّ هذه الهديّة فيها خمسٌ، فهل يجب عليك أنت أوّلاً أن تُخرج الخمس، ثم تستخدم الهديّة أو لا؟
روايات التحليل ناظرة إلى هذا، تقول: لا يجب عليك دفع الخمس «لك المهنا وعليه الوزر»، هو يتحمّل وزر الخمس، أنت لا يجب عليك دفع الخمس.
إذن فبالنتيجة: الإمام أحلّ الخمسَ في المال الذي ينتقل إليك ممّن لا يخمّس وفيه الخمس، هذا مباحٌ، لا أنّ كل فائدةٍ وكلّ ربح فهو مباحٌ ولا يجب فيه الخمس.
هذا ما أردنا بيانه من مسألة وجوب الخمس في أرباح المكاسب.