السلام عليكم
ما هو رأي الاسلام من نظرية (جون لوك) ان الانسان يولد صفحة بيضاء خاليه من اي معلومة تصديقية ولا وجود للمعرفة الفطرية إلا ان الانسان يمتلك الحواس الخمسه فهي طريقه الوحيد الى المعرفة؟
ارجو التفصيل بالاجابه وفقكم الله
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
اهلا بكم في تطبيقكم المجيب
الجواب المختصر: المشكلة الحقيقية في هذا الموضوع تكمن في نظرية المعرفة فكيف الانسان يتعرف على الاشياء وما ذهب اليه لوك ان الحس هو راس مال المعرفة ولا توجد هناك اشياء فطرية وانما الانسان هو صفحة بيضاء
فنقول على عجالة
ان الاعتماد على الحس في المعرفة دون الثوابت الفطرية ينتهي بنا الى انكار مبدا العلية اذ العلية والسببية ليست شيئا حسيا حتى يمكن ادراكها بالحس وانما هي استنتاج العقل من الترابط بين شيئين فالحس يرى المروحة تدور ويرى ويتحسس الهواء فيعي ان هذه ظاهرة وهذه ظاهرة والعقل هنا يأتي ويحلل ويقول ان اثر الهواء هو نتاج المؤثر وان حركة الهواء تنعدم بانعدام المؤثر المروحة وهذه هي العلية والسببية وهي نتاج تفكير العقل وتحليله
فان كان جون لوك ينفي هذا المقدار من التحليل العقلي للظواهر الحسية فهذا باطل جزما وان لم ينكر هذا المقدار وانما بنى على ان مقدمات المدركات العقلية هي حسية فهذا شيء مقبول في بعض المواد
وذلك لان العقل قد لا يستعين بالحس في كلا الطرفين بل يكتفي بالحس بطرف واحد فمثلا يرى الحس هذه المخلوقات العظيمة يحكم بلزوم وجود علة لها ويحلل افكاره ينتهي ان العلة لا يمكن ان تكون محسوسة للزوم النقص في كونها محسوسة
فهنا احتاج الى الحس في طرف المعلول وامتنع الحس في طرف العلة.
ويبدو مما ذكرته الدكتورة راوية عبد المنعم في كتابها (جون لوك امام الفسلفة التجريبية / ص140) ان جون لوك لا ينكر مبدا العلية وانه يثبت وجود الله تعالى استنادا الى مسلك العلية ومن هذا الكلام يمكن تصور ان جون لوك لا ينكر مبدا العلية انما ينكر ان تكون مبدا فطريا وان العلية شيء مكتسب من الحس وبعد ان اثبت العلية من مقدمات حسية فانه يعمل عليه مطلقا حتى لو لم تكن الاطراف حسية وهذا شيء بحد نفسه مقبول وان كنا نختلف معه ان مبداء العلية مبدا فطري واننا قبل ان نرى أي شيء فانه بامكاننا ان نعي ان المعلول والاثر لا يمكن ان يكون بلا علة ومؤثر.
الجواب التفصيلي:
والكلام في نقطتين :
١- فهم ما قاله جون لوك
٢-مناقشة هذه المقولة
اما النقطة الاولى:
الافكار عند لوك قسمين: " الاول : أفكار الإحساسات، تلك الآثار التي تنطبع فـي عقولنـا نتيجة تأثير الأشياء الخارجية المادية على حواسنا فحينما نرى جبلا تنطبع صورة الجبل في انفسنا ولا يوجد معرفة سابقة للجبل وانما تكونت من هذه الاحاسيس التي كشفها الحس.
الثاني : أفكار الاستبطان، ويقصد بها أنه حينما ندرك الأشياء المادية أو نتذكرها أو نتخيلها، نقوم بهذه العمليات ونحن نعرف أننـا كائنـات تقوم بهذه العمليات.
إذن فالحواس تنقل إلينا الأفكار والانطباعات عن الأشياء الخارجية وعن الكيفيات الحسية، فالنفس تبدأ في الحصول على الأفكار عندما تبدأ في الإدراك الحسي"(1).
كما يقسم جون لوك الافكار من حيث التركيب إلى
اولا : أفكار بسيطة " وهي الانطباعات الحسية المنفصلة في الذهن، الذي يكون عنها أفكار وصور ذهنية واضحة متميزة، تتكون بواسطة الإحساس أو التفكير"(2).
ثانيا : "أما الأفكار المركبة فهي نتيجة قيام العقل بعملياته الفكرية المختلفـة، مـن تـذكر وتصور، ومقارنة وتخيل، وتجريد، فهي تنتج من تأليف أفكار متمايزة مثل أفكار الجـواهر والعلاقات.
فالعقل هنا يقوم بدور إيجابي في إيجاد الفكرة المركبة، وإذا قامت التجربة بخطها على صفحته دون تدخل منه، والعقل يقوم بصنع هذه الأفكار المركبة من البسيطة بعمليـات ثلاث، التركيب والمقارنة والتجريد"(3).
بعدما قسم لوك الأفكار إلى أفكار الإحساس وأفكار الاستبطان، قسم المعرفة إلى ثلاث أقسام:
أولها: المعرفة الحدسية، وهي معرفة بديهية؛ أي لا يحتاج الإنسان فيها إلى برهنة، إنه الحدس الذي تعتمد عليه جميع معارفنا المؤكدة والواضـحة، وهـي المعرفـة الواضـحة بذاتهـا"(4)
ثانيها: المعرفة البرهانية، هي ذلك النوع من المعرفة التي يجب البرهنة علـى يقينهـا، والتأكد من مدى سلامتها وصحتها بعد إقامة البرهان عليها، والتي قسمها لوك إلى قسمين:
الاول : الاستدلال الرياضي: من حيث أن النظرة الرياضية تتسم بالصدق واليين، فالمعرفة بالحقائق الرياضية من قبيل المعرفة البرهانية وليست الفطرية.
الثاني : الاستدلال على وجود االله، والذي يحاول لوك إثباته بطريق العلة الأولى، حيث يسلم فيه بمبدأ العلية"(5).
ثالثها : المعرفة الحسية "فهي التي تعتمد أساسا على ما هو موجود في الواقع الخارجي، إذ ليس هناك شيء أكثر يقينا من تلك الفكرة التي تتكون في الذهن عن موضوع خارجي"(6).
والمعرفة عند لوك " تكون يقينية باعتمادها على أساسين وهما الحـدس والبرهـان.
بالحدس ندرك العلاقة إدراكا فوريا كما تدرك العين الضوء، وهي قوة قائمة في الذهن تجعلنا نعرف الحقيقة بيقين مطلق.
أما البرهان فيزودنا أيضا بيقين مطلق، ولكنه يختلف عن الحدس في أنه يشمل عنصر الذاكرة، فهو عملية فيها جهد، ومشقة، وانتباه، فالذاكرة تكفـل للـذهن القدرة على استرجاع الخطوات التي تمكنه من الوصول إلى النتيجة المطلوبة، ولهذا لا يجب أن نعتمد على البرهان كاعتمادنا على الحدس"(7).
ولكن الحدس الذي تحدث عنه لوك يختلف عنه عند ديكارت، كون أن موضوعه عند لوك ليس موضوعا عقليـا خالصـا كمـا عنـد ديكارت" وإنما هو علاقة بين بعض معطيات الإحساس والإدراك المنعكس؛ أي بين الأفكار المركبة مستمدا أصلا من هذه المعطيات، وباختصار معرفتنا محدودة بالتجربـة وحينمـا لا يكون لدينا أفكار لن يكون لدينا معرفة"(8). (منقول بتصرف)
اما النقطة الثانية
انقل لكم ما ذكره السيد الشهيد محمد باقر الصدر في الجواب على ما ذهب اليه جون لوك واصحاب المذهب الحسي ونص كلامه :
"ويمكننا ان نوضح فشل النظرية الحسية في محاولة ارجاع جميع مفاهيم التصور البشري إلى الحس ... المزید على ضوء دراسة عدة من مفاهيم الذهن البشري كالمفاهيم التالية: العلة والمعلول، الجوهر والعرض، الامكان
والوجوب، الوحدة والكثرة، الوجود والعدم، وما إلى ذلك من مفاهيم وتصورات.
فنحن جميعا نعلم ان الحس انما يقع على ذات العلة وذات المعلول، فندرك ببصرنا سقوط القلم على الأرض إذا سحبت من تحته المنضدة التي وضع عليها، وندرك باللمس حرارة الماء حين يوضع على النار، وكذلك ندرك تمدد الفلزات في جو حار. ففي هذه الأمثلة نحس بظاهرتين متعاقبتين ولا نحس بصلة خاصة بينهما، هذه الصلة التي نسميها بالعلية. ونعني بها تأثير احدى الظاهرتين في الأخرى، وحاجة الظاهرة الأخرى إليها لأجل ان توجد.
والمحاولات التي ترمي إلى تعميم الحس لنفس العلية واعتبارها مبدأ حسيا وتقوم على تجنب العمق والدقة في معرفة ميدان الحسن وما يتسع له من معاني وحدود، فمهما نادى الحسيون بأن التجارب البشرية والعلوم التجريبية القائمة على الحس هي التي توضح مبدأ العلية، وتجعلنا نحس بصدور ظواهر مادية معينة من ظواهر أخرى مماثلة، أقول مهما نادوا بذلك فلن يحالفهم التوفيق ما دمنا نعلم ان التجربة العلمية لا يمكن ان تكشف بالحس الا الظواهر المتعاقبة، فنستطيع بوضع الماء على النار ان ندرك حرارة الماء وتضاعف هذه الحرارة وأخيرا بغليان الماء. وأما ان هذا الغليان منبثق عن بلوغ الحرارة درجة معينة فهذا ما لا يوضحه الجانب الحسي من التجربة، وإذا كانت تجاربنا الحسية قاصرة عن كشف مفهوم العلية فكيف نشأ هذا المفهوم في الذهن البشري وصرنا نتصوره ونفكر فيه.
وقد كان (دافيد هيوم) - أحد علماء رجال المبدأ الحسي - أدق من غيره في تطبيق النظرية الحسية، فقد عرف ان العلية بمعناها الدقيق لا يمكن ان تدرك بالحس، فأنكر مبدأ العلية، وأرجعها إلى عادة تداعي المعاني قائلا: اني أرى كرة البلياردو تتحرك فتصادف كرة أخرى فتتحرك هذه، وليس في حركة الأولى ما يظهرني على ضرورة تحرك الثانية. والحس الباطني يدلني على أن حركة الأعضاء في تعقب أمر الإرادة، ولكني لا أدرك به ادراكنا مباشرا علاقة ضرورية بين الحركة والأمر.
ولكن الواقع ان انكار مبدأ العلية لا يخفف من المشكلة التي تواجه لنظرية الحسية شيئا، فان انكار هذا المبدأ كحقيقة موضوعية يعني اننا نصدق بالعلية كقانون من قوانين الواقع الموضوعي، ولم نستطع ان نعرف ما إذا كانت الظواهر ترتبط بعلاقات ضرورية تجعل بعضها ينبثق عن بعض، ولكن مبدأ العلية كفكرة تصديقية شيء، ومبدأ العلية كفكرة تصورية شيء آخر، فهب أنا لم نصدق بعلية الأشياء المحسوسة بعضها لبعض ولم نكون عن مبدأ العلية فكرة تصديقية، فهل معنى ذلك أننا لا نتصور مبدأ العلية أيضا؟ وإذا كنا لا نتصوره فما الذي نفاه (دافيد هيوم) وهل ينفي الانسان شيئا لا يتصوره؟
فالحقيقة التي لا مجال لانكارها هي اننا نتصور مفهوم العلية سواء أصدقنا بها أم لا، ولس تصور العلية تصورا مركبا من تصور الشيئين المتعاقبين، فنحن حين نتصور عليه درجة معينة من الحرارة للغليان لا نعني بهذه العلية تركيبا اصطناعيا بين فكرتي الحرارة والغليان بل فكرة ثالثة تقوم بينهما. فمن اين جاءت هذه الفكرة التي لم تدرك بالحس إذا لم يكن للذهن خلاقية لمعان غير محسوسة؟!
ونواجه نفس المشكلة في المفاهيم الأخرى التي عرضناها آنفا، فهي جميعا ليست من المعاني المحسوسة، فيجب طرح التفسير الحسي الخالص للتصور البشري والأخذ بنظرية الانتزاع"(9).
———————
(1) إبراهيم مصطفى إبراهيم: الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، دار الوفاء للطباعـة والنشـر ، الإسـكندرية، دط، 2000، ص263.
(2) عزمي إسلام: جون لوك، ص56.
(3) إبراهيم مصطفى إبراهيم: الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، ص264.
(4) راوية عبد المنعم عباس: جون لوك إمام الفلسفة التجريبية، ص93.
(5) راوية عبد المنعم عباس: جون لوك إمام الفلسفة التجريبية ، ص94.
(6) عزمي إسلام: جون لوك، ص158.
(7) ليبنز: أبحاث جديدة في الفهم الإنساني، ترجمـة أحمـد فـؤاد كامـل، دار الثقافـة للنشـر والتوزيـع، المغـرب، دط،1983،ص54.
(8) المرجع نفسه، ص55.
(9) فلسفتنا ، السيد محمد باقر الصدر ، ص59، ط3، 2004م.