وعليكم السلام ورحمة الله و بركاته
إنّ الله تعالى هو ملهم الحبّ ومصدره الأول، وقد اشتق لنفسه اسماً منه، فهو الحبيب، وقد ورد في الدعاء المرويّ عن عليٍّ (عليه السلام): "يا حبيب قلوب الصادقين"ومن أسمائه الحسنى أيضاً "الودود"وقد وصف نفسه في القرآن الكريم بذلك، قال تعالى: {إنّ ربّي رحيم ودود} (هود: آية 90) وقال سبحانه: {وهو الغفورُ الودود} (البروج: آية 14).
وإنّ حبّه تعالى لعباده لا يُوصَف ولا يُقارَن، فهو يفوق بمراتبّ كثيرةٍ حبّنا لأبنائنا وفلذات أكبادنا، بل إنّ حبّه لا يُقاس بحبّ خلقه، إنّ حبّه تعالى لا تشوبه أيّة شائبة، إنّه حبّ المُنزَّه عن النقص والحاجة والمستغني عمّن يحبّ، حبّ الخالق للمخلوق، حبّ الغني الذي لا يَطْلِبُ على حبّه أجراً، حبّ من لا يكدّرُ حبَّه بالامتنان، حبّ من لا يقطع حبّه في كلّ الظروف والحالات، فحتى لو تمرّدنا عليه وعصيناه فإنّه لا يقطع حبّه عنّا ولا يمنعنا فيضه، ولا يقابلنا أو يعاملنا بما نستحقّ، بل إنّنا حتى لو قابلناه بالعصيان فإنّه يظلّ يقابلنا باللطف والنّعم، إنّه تعالى يحبّنا حتى ونحن نعصيه، أليس هو القائل:
{إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: آية 222). فمَن هو التوّاب؟ إنّه العاصي المذنب الذي يُكْثِرُ من الذنب ومن العودة إلى ربّه. ولنستمع إلى الإمام زين العابدين(عليه السلام ) وهو يبيّن هذا المعنى بلغة الدعاء والمناجاة، حيث يقول في دعاء السَحَر مخاطباً الله تعالى: "تتحبّبُ إلينا بالنِّعم ونعارضُك بالذنوب، خيرُك إلينا نازل وشرُّنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملكٌ كريم يأتيك عنّا بعمل قبيح فلا يمنعك ذلك أن تحوطنا بنعمك وتتفضّل علينا بآلائك، فسبحانك ما أحلمك وأعظمك وأكرمك مُبْدِئاً ومعيداً، تقدّست أسماؤك وجلّ ثناؤك وكَرُمَ صنائعك وفعالك، أنت إلهي أوسع فضلاً وأعظم حِلْماً من أن تقايسني بفعلي وخطيئتي".
وحبُّ الله تعالى لنا وإن كان عاماً وشاملاً ولا يتجزّأ، ولا يُحَدُّ ولا يوصف، كما هو الحال في سائر صفاته الجمالية والجلالية، بَيْدَ أنّه - من جهتنا نحن، لا من جهته تعالى - على نحوين:
حبّ عام يستفيد منه البَّرُّ والفاجر.
وحُبٌّ خاص، لا يستفيد منه إلّا مَن صمّم وعزم على التذوّق من حلاوة حبّه.
أما الحبّ الخاص، فلا يفقه معناه، ولا يُدرك مغزاه إلّا مَنْ عرف وتذوّق حلاوة مناجاة الله تعالى، "مَنْ ذا الذي ذاق حلاوة حبّك فرام منك بدلاً" إنّ حلاوة حبّه تعالى تُنسي المرء همومه وآلامه وأوجاعه، ومَن يغمرُ حبُّ الله قلبَه، فإنّه يعيش حياةً من نوع آخر، حياةً تُنعش الروح وتروي عطشها بلقاء الحبيب الأوّل.
وإنّنا إذ نعبّر عن هذا الحبّ بأنّه حبّ خاص ولا يبلغه إلّا القليل من العباد، فليس ذلك ناشئاً من قِبَله سبحانه تعالى، أو بسبب بُخله أو منعه حاشاه، بل إنَّ المانع هو العبد نفسه، أي: إنّ المشكلة - كما يقال – هي في القابل وليست في الفاعل، فإنّ "بابه – تعالى- مفتوح لداعيه وحِجابه مرفوعٌ لراجيه" لكنّ الإنسان هو مَن قد يَحْرِمُ نفسه من أن تتذوّق حلاوة الحبّ الإلهيّ بابتعاده عن طاعة الله وعن مناجاته وعبادته.
أجل، إنّ هذا النوع الخاص من الحبّ يحتاج إلى تفاعل من الطرفين، كما يُقال في لغة اليوم، ويكفي العبدَ أن يحاول ويسعى ويمشي في طريق التقرّب من الله تعالى والتحبّب إليه، ليفتح له الله الباب فيتذوّق شيئاً من طعم الحبّ الإلهي، وقد ورد في الدعاء: "يا حبيبَ مَن تحبَّب إليه"
وأما الحبّ العام، فهو الذي بإمكان كلِّ إنسان أن يبلغه ويناله منه نصيب، سواء كان ذلك بدون شرط، أم بشرط استقامة العبد على الجادّة التشريعيّة أو التزامه بالسنن التكوينيّة، وهذا النوع من الحبّ يتجلّى في العديد من المظاهر، وإليك بعضاً منها:
١- في الآفاق وفي أنفسكم
لا أعتقد أنّ الإنسان البصير يمكنه أن يغفل عن تلمّس حبّ الله تعالى لعباده في كلِّ هذا الكون البديع، في أنفسنا، وفيما حولنا، في رحاب الأرض وآفاق السماوات، فيما نراه ونتحسّسه ونتذوّقه، فكلُّ ما في هذا الكون من جمال وروعة وإبداع وحبّ، إنّما هو رشحة من فيض حبّه وجماله الذي لاينضب، إنّ كلّ هذا العطاء التكوينيّ والنِّعَم التي لا تُعَدّ ولا تُحصى، وكلّ هذا الجمال الذي لا تحيط به الباصرة هو تعبير عن حبّه لنا ولطفه بنا، إذ سخّر لنا كلّ هذا وهيّأه لراحتنا لا لحاجة منه إلينا بل حبّاً بنا، ووعدنا بالمزيد، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (النحل:آية18).
ومن مزايا العطاء الإلهي التكويني أنّه عطاء عام لا يختصّ بإنسان دون آخر، فهو شامل للبرّ والفاجر والمؤمن والكافر.
ومن خصائص هذا اللطف أو الفيض أنّ الله تعالى لا يمنعه عن الناس إلّا إذا اعتدى الناس أنفسهم على النواميس الكونيّة، فعبثوا وأفسدوا، كما يحصل في أيّامنا، فإنّ فساد العباد وإفسادهم في الأرض والسماء قد يتسبّب في حرمانهم من هذه النّعم، بينما استقامتهم ورعايتهم للقوانين هو شرط في استمرار هذا الفيض الإلهي، قال تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (الجن: آية 16).
2- إرسال الرسل
وإرسال الرسل ومعهم الكتاب والميزان هو مظهر آخر من مظاهر حبّ الله تعالى لخلقه وعباده، فإنّ وظيفة الرسل أن يأخذوا بيد النّاس إلى شاطئ الأمان ويستنقذوهم من براثن الجهالة والضلالة والوثنية، ولهذه الغاية فقد حرّكوا العقول التي أصابها الصدأ وهزّوا مكامن الفطرة التي أصابها التلوّث، وما أجمل ما قاله الإمام عليّ (عليه السلام) في التعبير عن وظيفة الأنبياء (عليهم السلام) تجاه الناس: ".. واصْطَفَى سُبْحَانَه مِنْ وُلْدِه (آدم) أَنْبِيَاءَ، أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِه عَهْدَ اللَّه إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّه واتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَه، واجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِه،واقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِه، فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَه، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَه لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِه، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ ومِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، ومَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وآجَالٍ تُفْنِيهِمْ وأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ،وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يُخْلِ اللَّه سُبْحَانَه خَلْقَه مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ".(المجلسي، بحار الأنوار:ج١١،ص٦٠).
3- خَلْقُ الجنّة
ومن رشحات حبّه تعالى أنّه أعدّ للصالحين من عباده جنّة يتفيأون ظلالها ويعيشون فيها نعيم الأبد الذي لا ينفد في جوار الله ورضوانه وبصحبة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) والصالحين والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقاً، وفي ظلال جنّات عدن وارفة حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، تظلّلهم رحمة الله الواسعة ويجمعهم حبّهم لله تعالى، ويتلاقى فيها الأحباب والمؤمنون إخواناً على سرر متقابلين لا يصيبهم فيها ملل ولا سآمة، بل هم في حيوية ونشاط دائمين، إنّ أجمل ما في الجنّة أنّها ملتقى الأحباب، المحبين لله تعالى والمتحابين فيه، حيث يجمعهم رضوان الله وتضمهم رحمته. { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (التوبة: آية 72).
4- خَلْقُ النّار واللطف
إنّ خلق النار هو الآخر من فيض حبّ الله تعالى بالعباد؛ لأنّ الله سبحانه لم يخلق النار للتشفّي من خلقه، ولا للانتقام منهم، فهو غنيّ عن عذابهم، بل لتكون رادعاً لهم عن البغي والعدوان وزاجراً لهم عن الإثم والعصيان، وليحملهم من خلال ذلك على سلوك طريق الهدى والمكارم ويأخذ بأيديهم إلى الكمال المطلق، وهذا منتهى الحبّ، أليس حُبُّك لابنك هو الذي قد يدفعك لأن تقسوَ عليه أحياناً، أو تهدّده بالعقاب، لِتُشعرَه بالمسؤوليّة وتأخذ بيده إلى طريق المكارم؟ لأنّ كثرة "الدلال والغنج" تُفسد الطفل، وهي خطأ تربويٌّ دون أدنى شكّ كما ألمحنا إلى ذلك في المحور الأوّل، هكذا هو الله ربُّنا تعالى، بل هو فوق ذلك وأسمى منه، فهو أرأفُ بنا من الأب بابنه، ومن الأم برضيعها، فهو خَلَقَ النار لا لأنّه يحبُّ تعذيبنا حاشاه، بل خَلَقَها بهدف إصلاحنا والحدّ من عدوانيتنا وظُلْمِنا؛ لأنّ في الناس من لا يصلحه إلّا التخويف، قال تعالى: {لهم من فوقهم ظُلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوّف الله به عباده يا عباد فاتقون} (الزمر: آية 16).
وطبقاً لنظريّة تجسم الأعمال فإنّ النار هي الأثر الطبيعي لأعمالنا، فنحن الذين نؤججها بأيدينا ونوقد حطبها بسوء اختيارنا وتمرّدنا على الله سبحانه.
وإنّ عدل الله تعالى أسمى وأجلّ من أن يعذّب مَن لم تقم عليه الحُجّة البيّنة من الغافلين والجاهلين أو من كانت لديهم قناعات يقينية معينة لا يحتملون خطأها أيّاً كانت هذه القناعات سواء التقت مع المفاهيم والمعتقدات الإسلامية أو لم تلتقِ، لأنّ مؤاخذة هؤلاء قبيحة في ميزان العقل والحكمة، كما أنّ باب رحمته تعالى يظلّ مفتوحاً للعاصين والمتمردين عليه، فيؤمّلُ لهم العفو والغفران، ومهما كانت ذنوبهم عظيمة فإنّ عفو الله أعظم، ومهما كانت سيئاتهم كبيرة فإنّ رحمة الله أكبر وهناك مَن يقول: إنّ الله تعالى إنّما خلق الناس ليعذّبهم لا ليرحمهم، أو أنّه تعالى جلاّد يتلذّذ بتعذيب ضحاياه ! إنّها بحقّ صورة مشوّهة يحملها هؤلاء عن الله تعالى، فهم يَرَوْنَهُ على صورتهم وشاكلتهم، وتتحكم خلفيّاتهم الفكريّة الضيقة في تصوّرهم العقدي بشأن الله تعالى، {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: آية 91).
إنّ الله تعالى هو الرحمة المطلقة والشاملة وهو الذي وسعت رحمته كلّ شيء، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} (غافر: آية7).
إنّني لا أتحدّث - إذ أتحدّث عن رحمة الله ورشحات حبّه - شعراً، وإن كان الشعر ينتمي إلى مدرسة الحبّ، وإنّما أتحدّث عن فلسفة الحبّ الإلهي التي تتجلّى في كلّ صفاته وأسمائه وآياته وفي كلّ عطائه التكوينيّ والتشريعيّ، كما تتجلّى في ثوابه وعقابه، في جنّته وناره.
5- فتح باب التوبة
وفَتْحُ باب التوبة أمام الناس هو – أيضاً- من أبرز تجليات حبّ الله تعالى لعباده، فهو (عزّ وجلّ) لا ينتقم من العصاة من عباده على طريقة الناس في التشفي وشفاء الغيظ، ولا يعجّل لهم العذاب ولا يعاملهم بما يستحقون من الملامة، بل إنّه يمهلهم ويؤخّرهم ويُبْقِي باب التوبة مفتوحاً أمامهم حتى آخر لحظات العمر، ففي الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله) في آخر خطبة خطبها: "مَن تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثمّ قال: وإنّ السّنة لكثيرة، مَن تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثمّ قال: وإنّ الشهر لكثير، من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثمّ قال: وإنّ يوماً لكثير، مَن تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثمّ قال: وإنّ الساعة لكثيرة، مَن تاب وقد بلغت نفسه هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - تاب الله عليه".(الكليني،الكافي:ج٢،ص٤٤٠).
إنّ فتح باب التوبة إلى آخر العمر هو خير دليل على أنّه تعالى يحبّ العفو عنّا أكثر ممّا يحبّ معاقبتنا، وهذا ما عبّر عنه الإمام زين العابدين (عليه السلام) في بعض أدعية الصحيفة السجاديّة، فإنّه (عليه السلام) بعد أن يستعرض جرأته كإنسان لا كإمام- على الله وقلّة حيائه منه فإنّه يتعجّب من أناة الله عنه وإبطائه عن معاجلته بما يستحق! ولا يجد تفسيراً لهذه الأناة عنه إلّا "لأنّ عفوك عنّي أحبُّ إليك من عقوبتي".
6- ثواب الحبّ
ومن أبرز وأجمل مظاهر حبّ الله تعالى لعباده ولطفه بهم ورحمته لهم أنّه تعالى يمنحهم الثواب على مجرّد الحبّ، فمَن أحبّ عمل الخير لكنّه لم يستطع القيام به بسبب عجز أو فقر أو إكراه أو لغير ذلك من الأسباب، فإنّ الله تعالى يعطيه ثواب ذلك العمل على نيّته وحبّه، فمن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) لما أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك. فقال له (عليه السلام): " أَهَوَى (أمحبّة) أخيك معنا؟ فقال: نعم، قال: فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوامٌ في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان".(المجلسي،بحار الأنوار:ج٣٢،ص٢٤٧).
ويبلغ اللطف الإلهيّ بالعبد حدّاً عظيماً، فهو تعالى يُثيبه على مجرّد محبّته لمن يعتقد أنّهم من أهل الخير حتى لو تبيّن لاحقاً أنّهم لم يكونوا منهم، شريطة أن تكون هذه المحبّة في الله، فعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر (عليه السلام) قَالَ: "لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَحَبَّ رَجُلاً لِلَّه لأَثَابَه اللَّه عَلَى حُبِّه إِيَّاه وإِنْ كَانَ الْمَحْبُوبُ فِي عِلْمِ اللَّه مِنْ أَهْلِ النَّارِ، ولَوْ أَنَّ رَجُلاً أَبْغَضَ رَجُلاً لِلَّه لأَثَابَه اللَّه عَلَى بُغْضِه إِيَّاه وإِنْ كَانَ الْمُبْغَضُ فِي عِلْمِ اللَّه مِنْ أَهْلِ الْجَنّة".(الكليني،الكافي:ج٢،ص١٢٧).
وهذا الحديث هو نظير الأحاديث المعروفة بأحاديث "مَن بلغ"، ومفادها: أنّ كلّ مَن بلغه ثواب على عمل، فقام بذلك العمل رجاء ذلك الثواب، فإنّ الله سيعطيه ذلك الثواب حتى لو كان ما بلغه غير دقيق، ففي الحديث عن أبي جَعْفَرٍ الباقر(عليه السلام): "مَنْ بَلَغَه ثَوَابٌ مِنَ اللَّه عَلَى عَمَلٍ فَعَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْتِمَاسَ ذَلِكَ الثَّوَابِ أُوتِيَه وإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ كَمَا بَلَغَه".(المجلسي، بحار الأنوار:ج٢،ص٢٥٦).
إنّها رحمة الله الواسعة ولطفه الذي لا يُحدّ ولا يوصف!
7- المتحابّون في الله جيران الله
وتمتدح الرواياتُ الواردةُ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمةِ من أهل بيته (عليهم السلام) الأشخاص المتحابيّن في الله، إذ تعتبرهم "جيران الله" وتضمن لهم ثواباً جزيلاً لِتَلَاقِيهم واجتماعِهِم على الحبّ في الله سبحانه، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسَلَم): "إذا كان يوم القيامة حشر الله الخلائق ونادى منادٍ ليقم أهل الفضل، فيقوم فئام (أي فئات) .. ثمّ ينادي منادٍ ليقم جيران الله في دار السلام. فيقوم فئام من الناس فتستقبلهم الملائكة يبشّرونهم بالجنة، ويقولون: ما فضلكم هذا الذي جاورتم به الله في دار السلام؟
فيقولون: كنا نتحابّ في الله ونتزاور في الله ونتواصل في الله ونتباذل في الله.
فيقال لهم: ادخلوا الجنة فأنتم جيران الله في دار السلام".(المجلسي،بحار الأنوار:٤٣،ص٢٢٠).
وفي الحديث القدسي:" وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتباذلين فيّ، والمتزاورين فيّ".(المتقي الهندي،كنز العمال:ج٩،ص٨).
ما أروع محبّة الله تعالى وما أوسعها وأعظمها، فهي تغمر المتحابين في الله تعالى والمتواصلين والمتزاورين والمتباذلين فيه؛ لأنّ هؤلاء قد تساموا في علاقاتهم ومشاعرهم وجرّدوها عن كلِّ الحسابات المادية الضيقة وأرادوا لها أن تكون لله وفي الله سبحانه وتعالى، فكان جزاؤهم أن وجبت لهم محبة الله.