احمد
( 16 سنة )
- العراق
منذ سنة
وصايا الامام الصادق لعنوان البصري
السلام عليكم
مّا مدى صحة وصايا الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري؟ ومّا المعنى المقصود بأنّه ليس العلم بالتعلم وهل يعني هذا أنّ كل مّا يأخذ اليوم في المدارس والجامعات ليس بعلم حقيقي أم هم يقصدون العلم اللدنّي وليس الإكتسابي وما هو الترابط بين العلم والتقوى وأعتقد أنّه يوجود حديث للرسول صلى الله عليه واله: أنّ قلب المؤمن كالزجاج إذا مسودة لا يدخل فيه نور العلم؟
وشكرا🌹
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
اهلا وسهلا بالسائل الكريم
الرواية مرسلة، وقد تصدى لشرح هذا المقطع السيد عادل العلوي رحمه الله تعالى حيث قال: (( إعلم إنّ العلم الأول (العقلي) من العلم الظاهري، والثاني (القلبي)من العلم الباطني، ثُمّ من الآثار السلبية والمدمّرة المترتبة على العلم الأول لولا تأطّره بالعلم الثاني أمور كثيرة، وإليك جملة منها، وهي بمنزلة الفوارق وما به الإمتياز بينهما بعد إشتراكهما في أصل مفهوم العلم وماهيته وحدوده:
الأول: إنّ العلم الأول من العقل، أي العقليّات بمعناها العام، ويشمل كسب العلوم الأكاديمية المعاشية والعلوم الحوزوية المعاديّة. ويبتني على البرهان العقلي وما يقوم مقامه من الأدلة المعتبرة النقليّة، ومن الفطرة الموحدة، والبرهان، وهو: ما يبتني على المقدمات من الصغرى والكبرى والنتيجة، ولكن العلم الثاني في القلب، ويكون بالإلهام والإستفهام من الله سبحانه، وبالكشف والشهود.
الثاني: إنّ العقل وإن كان كالسراج المُنير، إلّا أنّه محدود وقاصر، ومن ثمَّ لا يدرك الله بالعقول، ولكن القلب وعائه بلا نهاية، فإنّه ورد في الحديث القدسي (أرضي وسمائي لا تسعني ويسعني قلب عبدي المؤمن) فإنّ قلب المؤمن (حرم الله) و(عرش الرحمن) والمحدود في مقابل المطلق الذي بلا نهاية يعدّ صفراً ولا شيء، كعدد الثمانية باللغة الانجليزية بصورة أُفقية، فإنّها علامة اللّانهاية في علم الرياضيات، وأي عدد كان أمامه ولو كان خارجاً عن وهم البشر كالواحد الذي أمامه بالملايين من الصفر، فإنّه في مقابل اللانهاية يُعدّ صفراً، ومن ثَمّ نقول لا يقاس بالله أحد، إذ هو الكمال المطلق، وما سواه فهو في ذاته الممكن عدماً ولا شيء، وبمنزلة الصّفر، وقلب المؤمن يسع رحمة الله سبحانه، فهو أوسع ما في الكون (أتزعم إنّك جرم صغير وفيك إنطوى العالم الأكبر).
الثالث: ما كان وعاءه محدوداً وصغيراً فإنّه إذا وضع فيه الماء القليل ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ فإنّه يراه كثيراً ويطغى بذلك فيدّعي أنّه العالم أو أنه الأعلم ﴿لَيَطْغَى. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ ولا يدري أنّه هو الجاهل بعينه، وإنّه أجهل بما يعلم، كما ورد في الأخبار الشريفة. قال أمير المؤمنين عليه السلام: (من قال أنا عالم فهو جاهل) ولكن ذات الوعاء الكبير كالقلب، فإنّه كلّما وضع فيه شيئاً كان بمنزلة الصفر ولا شيء، لأنّه وضع في وعاء مطلق بلا نهاية، ومثل هذا لا يشبع من العلم الذي يوضع في قلبه (منهومان لا يشبعان، طالب علم، وطالب دنیا) والأول لا يشبع حقيقة، والثاني لا يشبع وهماً وخيالاً.
فمن كان كذلك يرى في نفسه أنّه لا شيء، فيتواضع لله جلّ جلاله، ويرى في نفسه، أنّه الأحقر، كما قال الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء عرفة (أنا أقلّ الأقلين).
فالعلم الأول لولا العلم الثاني وتهذيب النّفس وتصفية القلب لكان هو الحجاب الأكبر، ويدّعي صاحبه الربوبيّة والأعلميّة لنفسه، فتكون نفسه نفس فرعونية، ويطفح ذلك على فلتات لسانه وجوارحه، فيعيش في داخله الكبر، وفي خارجه التكبّر والتجبّر، فيطلب العلم للدّنيا، ولم يزد من الله إلّا بُعداً، وكلّما أذنب ذنباً سُلب منه علماً من علوم الآخرة، ومن العلم الباطنيّ فيعيش في ظلام الجهالة والجاهلية وحيرة الضلالة، ويكون عن علم لا عن جهل، فليس كما في الجاهلية الأولى التی تكون الجاهلیة عن جهل، بل هذه الجاهلية الثانیة التي تكون عن علم. كما في قوله تعالى ﴿أضلّه الله عن علم﴾ أي يكون عالماً ضالاً ومضلاًّ، وقاطعاً للطريق مفتتناً بدنياه، باع آخرته بدنياه أو بدنيا غيره، فخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وأنّه من أكثر النّاس حسرة في یوم الدین.
ولكن من عمل بما علم، وقذف الله نور العلم في قلبه، فإنّه يزداد فهماً وعلماً من دون تعب ونصب، بل إرثاً:
قال عليه السلام: (من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم). والإرث وصول مال من المورّث إلى الوارث من دون نصب وتعب، كموت الوالد، فإنّ الولد يرث ماله من دون بيع وشراء وتعب، وقد شُبَّه في الأحاديث الشريفة، أنّه من يعمل بعلمه كمن يمشي في الظلام وبيده السراج، كلّما قطع مسافة أَضاء له سائر سبيله حتى يطوي جميع الطرق بسلامة، وأمّا من لم يعمل بعلمه فهو أشبه بمن أتعب نفسه في جمع المال والكنز، ولم ينتفع منه حتى مات وتركه لغيره، أو أشبه بالسراج الذي يُضيء لمن حوله، ولكن يحرق نفسه، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: (إنّ أشدّ النّاس حسرةً يوم القيامة، من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره).
وشُبّه العالم الذي لا يعمل بعلمه كحامل قميص يوسف، فإنّه لم يشم رائحته مع قربه منه لتنفتح به بصيرة قلبه، ولكن مثل يعقوب على بعد المسافة شم رائحته ورُدّ إليه بصره.
الرابع: العلم العقلي: من رحمانية الله فيعمّ الكافر والمؤمن في دنياهم، بل ربّما يزداد الكافر علماً في الصناعة والتكنلوجيا لإستدراجه إلى النّار، ولزيادة إثمه، لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً﴾(1) فإنّ الله يزيدهم في المال والعلم الدنيوي الظاهري ليستدرجهم للنّار، وليزدادوا إثماً وعذاباً أليماً، وخلوداً في النّار، ولكن العلم القلبي، فإنّه من رحمة الله الرحيمية،خاصة بالمؤمنين والمؤمنات في دنياهم وآخرتهم، يوجب سعادتهم والفوز برضوان الله سبحانه وتعالى.
الخامس: النّسبة بين العلمين نسبة العموم من وجه، والخير كلّه في إجتماعهما، وإن كان النجاة في العلم القلبي، فالسعيد كلّ السعید، والكمال كل الكمال من جمع بين العلم العقلي والعلم القلبي، كمن یجمع بین سعادة الدنیا وسعادة الآخرة (ربّنا آتنا في الدنیا حسنة وفي الآخرة حسنة) وذلك هو الفوز العظیم، ولایلقّاه الّا ذو حظ عظیم، وختامه مسك وفي ذلك فلیتنافس المتنافسون، ولیعمل العاملون.
السادس: العلوم العقلية من علوم الدنيا تنقطع بإنقطاعها، والعلم القلبي من علم الآخرة یدوم بأبديّتها، فالعلم القلبي معك في دنياك وآخرتك، وفي منازل الآخرة، وفي عالم الإحتضار والقبر والبرزخ ويوم القيامة والحشر، وفي الجنّة، يرفع الله الذين أوتوا العلم درجات.
السابع: تنقسم العلوم بإعتبار أصالتها وتبعيّتها إلى قسمين:
1 ـ العلوم الآليّة
2 ـ والعلوم الأصلية.
ولا يخفى أنّ الأصالة والآليّة من الأمور النسبيّة والمعاني الإضافية والعرضيّة، فالعلم الدّاني بالنسبة إلى العالي يكون بمنزلة المقدمة والآلة، ويكون العلم العالي بالنسبة إليه هو الأصيل، وهكذا حتى ينتهي إلى أصل الأصول في العلوم.
فالعلوم العربية كالنحو واللّغة من العلم الآلي لمثل علوم القرآن والحديث، كما إنّ علم المنطق آلة قانونية لمثل العلوم العقلية بالمعنى الخاص كالفلسفة، وعلم أُصول الفقه آلة علم الفقه، فكان الفقه أصيلاً، إلّا أنّ هذه العلوم إنمّا يكون تحصيلها بالدّرس والفكر، ومن العلوم العقلية بمعناها العام، وهي آلة للعلم القلبي النّوري، فهو أصل الأصول إذ متعلقه هو التوحيد والعلم والإيمان القلبي بالمبدء والمعاد، وما بينهما من الولاية العظمى المتمثلة بالأنبياء والأوصياء، ثم ورثتهم من الأولياء والعلماء الصلحاء.
الثامن: لاشك أنّ للعلم القلبي لوازم كثيرة، منها: القُرب من الله سبحانه وقبول ولايته العظمى ملكةً في النّفس، فيكون حامله (العالم الرّباني) ولياً لله سبحانه، ويكون خليفته في أسماءه الحسنى وصفاته الفضلى، ويكون هادياً ومعلماً ومرّبياً لغيره، يُقتدى ويُتأسّى به، فإنّ العلم القلبي أساسه التّقوى والذّكر وحضور القلب والإخلاص ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾ فمن كان إمام المتقين، فإنّه لا شك يحمل التقوى هو أوّلاً، فإنّ فاقد الشيء لا يعطيه، فمن كان متقياً لله حق تقاته وولياً حقاً،كان لا محالة لغيره هادياً وإماماً ومعلماً ومربّياً، ومن كان ولياً لله، فإنّ الله سبحانه يؤيده بكراماته، كما يؤيد أنبياءه وأوصيائهم بالمعاجز، ليؤخذ منهم الدين، ويكونون هداة النّاس إلى الصراط المستقيم، فكانوا من أصحاب الكرامات، كما نقرء ذلك في سيرة سلفنا الصالح من علمائنا الأعلام قدس الله أسرارهم الزكيّة.
ولا بأس بذكر نماذج مشرقة من سيرتهم الروحانية وحياتهم المباركة.
1 ـ الوحيد البهباني والتلميذ المجنب:
عن كتاب قصص العلماء(ص317): (ومن كرامات الآغا محمد باقر البهباني، ما أخبرني به العالم الثقة السيد عبد الكريم ابن السيد زين العابدين اللاهيجي قال: قال أبي كنّا نُحصل العلم في العتبات العالية النجف الأشرف كربلاء المعلّى ـ وكان ذلك في آخر أيام الآغا محمد باقر البهباني ـ المعروف بالمؤسس الوحيد البهباني الذي وقف أمام المدّ الأخباري وأسس المدرسة الأصولية و من تلامذته الشيخ الأعظم الأنصاري، وكان في اصفهان سنة 1118 هـ ق وتوفي وكان لطول عمره وبلوغه الشيخوخة قد ضعفت قوّته وتوقف عن التدريس وصار تلامذته يدرّسون، لكن كان عنده مجلس درس يشرح فيه اللّمعة، وكنا عدّة أشخاص نذهب إلى درسه تيمناً وتبركاً، فاتفق لي يوماً إنني إحتلمت وكانت صلاتي قضاء أيضاً، وجاء وقت درس الآغا، فقلت لنفسي أذهب إلى درسه حتى لا يفوتني، ثم أستحم بعد ذلك، فدخلت مجلسه ولم يكن قد حضر الآغا بَعْد وعندما دخل المجلس دخل وعليه سيماء البهجة والبشاشة فنظر حوله، وإذ به قد أصابه الهم والغم مظهرا على وجهه، وقال: لا أدرس اليوم، إذهبوا إلى منازلكم، فقام التلامذة يخرجون واحداً واحداً، وعندما أردت النهوض قال لي: إجلس فجلست، وبعد أن خلا المجلس قال لي: حيث أنت جالس يوجد مقدار من المال تحت البساط، فخذه وإذهب للإغتسال، ومن الآن فصاعداً لا تحضر المجلس مجنباً فتعجبت من ذلك غاية التعجب، وأخذت ذلك المال وذهبت وإغتسلت وإنّما رأى الشيخ باطن المجنب لكدورته،فإن الحدث الأصغر يوجب الكدورة،والوضوءنور،وكذلك الحدث الأكبر والغسل منه.
2 ـ كاشف الغطاء وشفاء العين:
في قصص العلماء (ص206): (ومن كرامات الشيخ جعفر كاشف الغطاء ـ من أعاظم علمائنا الأعلام ـ ما أخبرني به أحد الأصدقاء الصالحين الموثّقين فقال لي: كان عندي عم اُبتليّ لعدة سنين بألم في عينه، فذهب إلى جراحي وأطباء العيون في ذلك الزمان للعلاج ولم ينتفع، فسمع أنّ الشيخ جعفر جاء إلى لاهيجان، ذهب إليه وقبّل يده وقال له: إبتليت بألم في العين عدة سنين وها قد تشرفت في خدمتك، وإني أرجو الله تعالى أن يكرمني بالشفاء على يديك الكريمتين، فمسح الشيخ بريقه على عينه ودعا له وشفي ذلك الشخص).
3 ـ الشيخ كاشف الغطاء وتعظيم السلطان أياه:
أيضاً في المصدر نفسه: (في بعض الأزمنة إنزعج السلطان فتح علي شاه ملك إيران في عصره ـ لسبب من الأسباب من الشيخ وبقي منزعجاً حتى جاء الشيخ إلى طهران فقال السلطان لأمين الدولة: لا أريد أن أرى الشيخ فلا تفسحوا له الطريق في البلاط.
فعزم الشيخ يوماً للقاء السلطان ـ لهدايته ولقضاء حاجة مؤمن ـ وعندما وصل الباب إستقبله الحُجّاب وقبّلوا يده وفتحوا له الطريق، فعندما رأى السلطان ذلك تعجب من فتح الحُجّاب الطريق له. فقال لأمين الدولة إذا دخل مجلسي فلن أفسح له مجالاً ولن أكرمه، فعندما صعد الشيخ الدرج قال بصوت مرتفع (ياالله) فوقف السلطان من دون إختيار وأقبل على الشيخ وأخذ بيده، ثم جلسا معاً، وبعد إنقضاء المجلس قال أمين الدولة للسلطان: كنت قد أردت أن لا تتواضع للشيخ فكيف إنعكس الأمر؟ فقال السلطان: عندما سمعت من الشيخ كلمة: (ياالله) رأيت ثعباناً عظيماً يواجهني يريد أن يهجم على صدري، فوقفت بلا إختيار وأخذت بيد الشيخ فاختفى الثعبان).
4ـ السيد مهدي بحر العلوم وصلاة الليل
في قصص العلماء (ص189): (قال الملّا زين العابدين السلماسي إنّ بحر العلوم كان يخرج كل ليلة ويدور في أزقة النجف يوزع الخبز ونحوه على الفقراء، ففي يوم ترك التدريس، فطلب منّي الطلّاب أن أسأله فقال لي: لن أُدرس وبعد عدة أيام طلب مني الطلّاب أن أسأله عن السبب؟ فقال لي كل هذا العدد من الطلّاب ولم أسمع أحداً منهم مشتغلاً بالتضرع في الليالي بعد نصف الليل والمناجاة، مع أنّني في أغلب الليالي أكون في أزقة النجف، ومثل هذا الطالب لا يستحق أن أعطيه درساً. وعندما سمع الطلّاب بذلك بدأوا يشتغلون بالمناجاة والتّضرع وقد سمعت مناجاتهم من كل صوب، حينها عاد السيد للتدريس.
5 ـ سيدنا الأستاذ وصلاة الليل
حدثني سيدنا الأُستاذ آية الله العظمى السيد شهاب الدين المرعشي النجفي رحمه الله تعالى، لمّا كنّا في أيام شبابنا في مدرسة الفيضية، كنت أقوم سحراً لصلاة الليل فأجد أكثر غرف وحجرات الطلبة قد اُسرج ضوئها وأسمع منها الأنين والبكاء وصلاة الليل من الطلبة آنذاك.
6 ـ اُستاذنا السيد الطالقاني وصلاة الليل
كنت أحضر كتاب المغني الباب الأول والباب الرابع عند سيدنا آية الله السيد جواد الطالقاني دام ظلّه وكان عمري آنذاك ستة عشر سنة تقريباً، وكان من شرط حضور درس الأستاذ أن نصلّي صلاة الليل ومن لم يصل لا يحق أن يدخل الصف إلّا بإذن من الأستاذ، فإن أذن تدخل وإلّا تحرم من الدرس، كان الأستاذ في أذنه يشترط علينا شرطاً بمنزلة العقوبة لترك صلاة الليل، وأتذكر خلال سنة من حضور درسه لم أتوفق في ليلة، فوقفت في الباب للإستذان فأذن شريطة أن أقرء سورة (يس) على ما في بالي فجزاه الله خير الجزاء وأحسن العطاء في الدنيا والآخرة.
التاسع: يبتني العلم العقلي على التعقّل والعقل المعاشي الدنيوي، الذي يشترك فيه المؤمن والكافر، ولإبليس وجنده من الجنّ والإنس فيه مجالاً واسعاً، فإنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم، وما كان عند معاوية بن أبي سفيان من الدّهاء لیس من العقل، بل تلك النكّراء الشيطنة (كما ورد عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام لما سئل عن العقل، فقال: ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان، فقالوا: وما عند معاوية ـ فإنّه كان من دهاة العرب ـ قال: تلك نكرة شيطنة) فالعلم العقلي من دون الإيمان بالوحي والتعبّد خالصاَ فیه المخاطر والمهالك، ولكن العلم القلبي فإنّ أساسه وأصله انّما يبتني على الوحي والتعبّد، وهو من العلم الاُخروي، ويختص بالمؤمن ويكون حاكماً على العلم العقلي، فإنّ كان العقلي في دائرته وحكومته مؤمناً بالوحي، ومتعبّداً بشرائعه وطريقته وحقيقته، كان علماً شرعياً أُخروياً مقرباً إلى الله سبحانه، ويوجب السعادة وترتب الأجر والثواب ودخول الجنّة، فليس العلم الواقعي والتعبّدي الموجب للنجاة وسعادة الدارين، وعمارة الأرض والمجتمع بالعدل هو العلم العقلي، والإنخداع بالتعقل والعلمانّیة، وتعلّم مجرد إصطلاحات علميّة تبتني على الإستحسانات الظنية والقياسات الوهميّة، ومن ثمّ الإنجرار إلى إنكار العلوم القلبية والعرفان الأصيل، ويعدّ ذلك من التخلّف العلمي والإفلاس الصناعي والتقدّم التكنلوجي. بل مایوجب سعادة الدارین والفوز بالحظّ الأوفر من جمع بین العلمین، فإنّهما بمنزلة جناحین، لمن أراد أن یحلّق في سماء التقدم والإزدهار والفضائل والمكارم والكمالات.
العاشر: إنّ العلم العقلي يبتني على المُلك والمادة، إذ أنّه من العلم الدّنيوي، بينما العلم القلبي أساسه الملكوت، ومن عالم الغيب والشهود، والمسافة بینهما كمسافة الثری من الثُّریا، والسماء من الأرض.
الحادي عشر: من ممّيزات وفوارق العلم العقلي عن العلم القلبيّ: أنّ الأول من الحجّة العامة، كما ورد، أنّ العقل من الحّجة الباطنيّة، ويضارعها الحجّة الظاهرية من الوحي، كالآيات والروايات، أي الدليل النّقلي، كما أنّ الأول من الدليل العقلي الخاص، الذي هو في عرض الدليل العقلي، والدليل هو الحجّة، والحجّة الحد الوسط بين الأصغر والأكبر في الصغرى والكبرى من البرهان والقياس هو القسم الأول من الحجّة في علم المنطق الذي ينقسم إلى ثلاث: البرهان والإستقراء، والتمثيل.
ومن لوزام الحجّة والحجيّة صحة الإحتجاج، وممّا يصحّ الإحتجاج به، وهذا يكون تارة لك، لإثبات دعواك، وأخرى عليك لإبطال المدّعى، ومن ثمّ ورد أنّ العلم العقلي من علم اللّسان، ومما يصح أن يحتج به لك أو عليك.
وفي الدعاء في عالية المضامين (اللّهم ارزقني عقلاً كاملاً وأجعله لي ولا تجعله عليّ).
ولكن العلم القلبي فهو من الحجّة الخاصة، فهو لك وليس عليك، لأنّه نور، بينما العلم العقلي نار، فيه النور والإحتراق معاً، فهو لك وعليك، فربما يوجب طبخ الطعام، وربما يوجب حرق الدار، ولكن النور ينير الدّرب، ويضيء الفضاء، وترى به الأشياء، ولا تقع في حفرة، ولا ترتطم بجدار أو شجر، ولا تعثر بحجر، فالنور يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين، فإذا كان من الحجة فهو في الجانب الإيجابي لا السّلبي، فيشترك مع العلم العقلي في الحجيّة في جانبها الإيجابي النّوري.
ويرجع ذلك في الأصل إلى رحمة الله الرحمانية، والرحيمية فإنّ العلم العقلي من رحمانية الله يعطيه للكافر والمؤمن على حدّ سواء، بل یزيد الكافر للإستدراج وللإبتلاء ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً﴾ فتجده يتقدم في العلوم العقلية الصناعية والتكنلوجية.
والرحمة الرحمانية مرجعها إلى حكمة الله وكرمه، فتعمّ المؤمن والكافر في دنياهما، ولكن الرحمة الرحيمية من حبّ الله، وهي خاصة بالمؤمنين في دنياهم وفي آخرتهم، فإنّه يحبّ المتقين والمحسنين، ولا يحب من كان مشركاً ومنافقاً، فالعلم القلبي من الرحمة الرحيمية خاصة بالعلماء من أتباع أهل البيت^، والمؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي عليه السلام، ويكون موجباً لرفع الدّرجات في يوم القيامة، فخطاب (إقرءو إرقأ) إنّما هو لأهل الجنّة من السعداء. من الشيعة والموالين والمحبّين لمحمد وآله الطاهرین.
ثم كل ما يقال من الفروق بين الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية بالدلالة المطابقية، فإنّما يقال ذلك في الفروق بين العلم العقلي والعلم القلبي بالدالة الإلتزامية، وكذلك العكس، فتدبّر.
فالعلم العقلي يتعلق بدنياك، وتنتفع به في الاُمور المعاشية، إلّا أنّه إذا نويت ذلك لله متقرباً إليه، كان من العلم القلبي، فيأخذ نوره وصبغته وحرارته، كالحطب الذي يكون بجوار النّار، فيأخذ منها حتى يشتعل ويكون ناراً، فتنقلب ماهية أو وجود العلم العقلي حینئذٍ إلى ماهية العلم القلبي ووجوده، وبذلك يسعد المؤمن في دنياه وأخرته بعلمه وعمله، وبنواياه الخالصة لله سبحانه.
والعلم النّوري الذي يقتبسه الإنسان من حياته الدنيوية إلى آخرته، يسعى بين يدي العالم الرّباني، فيأخذه إلى بطنان الجنان، في ظل العرش، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وآليات العلم القلبي التقوى (اتقوا الله ويعلمكّم الله) والذِّكر(إذكروا الله كثیراً) وحقيقة العبودية، ومن أفضل الأذكار والأوراد الصلاة على محمد وآله الأطهار^والإستغفار والتهلیل والذكر الیونسي.
وورد في الحديث الشريف من صلى على النبي وآله حبّاً وشوقاً وإعتقاداً كان في هالة من النور الجلالي والجمالي.
عن رسول الله’: لمن صلّى عليّ مرة كان يوم القيامة من فوقه نور، ومن تحته نور، ومن أمامه نور، وعن يمينه نور،وعن شماله نور وخلق الله نوراً في جميع أعضاءه).
أي يكون علىه من الخارج، ومن الجهات الستّ نوراً، ممّا يوجب الهالة القدسية والنوريّة. كما يوجب الهيبة والسلطنة، ويلزمه الجلال، فالنور الجلالي يتجلّى فيه، كما يجعل الله في باطنه ومن الداخل نوراً من نور جماله، فيتجلّى فيه النّور الجمالي الذي يوجب الأنس، ويكون كالمرآة لذي الجلال والإكرام.
وهذا من العلم القلبي الذي إكتسبه في دنياه، كما ورد في الأخبار الشريفة أنّ الملائكة تبني دوراً في الجنان، لبنة من فضة ولبنة من ذهب، عندما يذكر المؤمن والمؤمنة ربّهما. كسبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، شريطة أن لا يرسل عليها الصواعق ممّا يوجب إنهدام البيوت، من الذنوب والمعاصي والأثام والصفات الذميمة والعقائد الفاسدة.
فأهل الجنّة أهل النور، وأهل جهنّم أهل الناّر، فيقولون لأهل النور، نقتبس من نوركم فيسمعون الخطاب: إرجعوا وراءكم واكتسبوا النور من دنياكم.
فلابدّ في الدنيا أن نأخذ العلم القلبي ونفوز بنوره، وليس العلم الحقيقي والقلبي بكثرة التعلم وبالتعلّم، بل نور يقذفه الله ويجعله في قلب من يشاء أن يهديه إلى سواء السبيل والصراط المستقيم، إذا إختار اللطف الإلهي الأول، فإنّ الله برحمانیته یهدي البشر جمیعاً إلی الحق (اناّ هدیناه السبیل) الّا أنّ من النّاس من یأخذ بهدایة الله الاولی واللطف الاول، فیزیده الله هدایة ولطفاً آخراً إذ كان شاكراً، ومنهم من یكفر بلّطف الأول« ویستحب العمی علی الهدی« ویختار طریق الشّر ویحبّ الضلال، فیحرم من لطف الله الثاني ومن رحمته الرحیمیة.
وزبدة الكلام: إنّه إن كان من المهتدين بقبول الهداية العامة من رحمانية الله ومن كتابه الكريم والفرقان العظيم ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾(البقرة: 185)، فزاده الله هدىً بكتابه المجيد (هدى للمتقين) بهداية خاصة من رحمته الرّحيميّته ومحبته بالمؤمنين، فالنّاس في هداية الرحمن على حدّ سواء المؤمن والكافر، إلّا أنّ من الناّس من كفر، ومنهم من آمن، أمّا الذين آمنوا فزادهم إيماناً وهدىً وقذف في قلوبهم العلم إلهاماً ونوراَ ... المزید
فأهل التقوى وأهل العبودية حقيقةً، هم أهل العلم القلبي، وقد أورثهم الله علم مالم يعلموا (وإتقوا الله ويعلّمكم الله).
الثاني عشر: العلم القلبي من النور الخالص، كما ورد في حدیث عنوان البصري وغیره، وهنا یطرح السؤال نفسه: لماذا ترجم وفسّر هذا العلم بالنور؟ نقول:
قوله عليه السلام: (إنمّا هو نور) فإنّه عليه السلام قد حصر العلم الإلهي والإلهامي الباطني القلبي بالنور، لمكان إنّما الدالة على الحصر والقصر، يعني هذا ولا غير.
والوجه في ذلك: أنّه لاشك أنّ الجهل الذي يقابله العلم تارة والعقل أخرى، إنمّا خلق من الظلمات ـ كما ورد في الأخبار الشريفة ـ كما أنّ العقل والعلم كان من النّور، ومن يمين عرش الله سبحانه.
ولفظ النور لم يوضع لغة لخصوص الضياء المحسوس والنّور الحسّي المتجلّي في مثل الشمس والأقمار والسّراج والأضوية، بل معناه اللغوي: الظاهر بنفسه والمظهر لغيره، فيشمل النور الحسّي والنور المعنوي كالعلم الكاشف للمجهولات، فإنّه ظاهر بنفسه ومظهر لغيره، وفي الدعاء الشريف (يا نور، يا نور النّور، يا منّور النور، يا نوراً قبل كل نور، يانوراً بعد كل نور، يا نوراً ليس كمثله نور) وفي قوله تعالى ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(النور: 35).
والله نور في ذاته وصفاته وأفعاله على نحو النور الذاتي والإستقلالي، وما سواه ممّا يتجلّى فيه النور الإلهي، إنمّا يكون على نحو الإمكاني والتّبعي، فتكون فيه الكاشفية المطلقة والتامة مما يوجب رفع الظلمات والإبهامات والشبهات.
فالعلم نور، فأنّه ظاهر بنفسه ومظهر لغيره، يهدي إلى الطريق، ويميّزه عن المزالق والمهاوي،التي يسقط فيها السالك لو سلك في الظلمات.
فالعلم النّوري ما كان من الله والعلم النّاري ما كان من النّاس، فإنه فيه الإنارة في الجملة، إلّا أنّه يوجب الإحتراق والهلاك أيضاً.
فالعلم العقلي برهان ناري، إلّا أنّه لو إجتمع مع العلم القلبي، وكان الغالب عليه، لكان من العلم النّوري، فيوجب شدة الإنارة وإستحكام البرهان من دون خاصية الاحتراق والهلاك. ولولا ذلك لكان العلم العقلي مطلقاً سواء العلم الأكاديمي أو العلم الحوزوي، هو الحجاب الأكبر.
ثُمّ الملائكة من الخلق النوري اللّطيف، وتنزل بالعلم النوري من الله سبحانه، ولا تدخل بيتاً فيه الكلب ـ كما ورد في الخبر الشريف ـ فمن كان قلبه كالقرية التي فيها الكلاب والحمير والأنعام، فإنّ الملائكة لا تدخل ذلك البيت الكلبي أي القلب الذي فيه الصفة السبعية والكلبيّة كحُبّه للدّنيا، فإنّ (الدنيا جيفة وطُلابّها كلاب) فلابدّ من التطهير وتخلية القلب من الرذائل والصفات الذميمة من قوتي الشهوة والغضب.
ثم تعلّم الألفاظ والمصطلحات وحسب، إنّما هو من العلم الظاهري، فمن كان يحمله من دون العلم الباطني، كان كالحمار يحمل أسفاراً، وكالكلب إن تحمل عليه يلهث، وإنّ تتركه يلهث، كبلعم باعور، ويكون مثل هذا العالم كالشمعة التي تحرق نفسها ويستضيء بها غيره.
ثم لفظ العالم والعلماء ومشتقاتهما في القرآن الكريم والسنّة المطهرة، إنّما يقصد منها العالم العامل بعلمه، والذي يكون العلم في قلبه وجوانحه، لا في جوارحه ولسانه وحسب، كما مرّ مفاد ذلك في الآيات الكريمة والروايات الشريفة.
الثالث عشر: إنّ العلم القلبي يجمع بين الحكمتين النظرية والعملية، وبين العقلين النظري أي ما يعلم، والعقل العملي أي ما يعمل، والعلم العقلي بكل شعبه وفنونه ومراتبه، لو لم يكن في إطار وحكومة العلم القلبي، لكان غير نافع، بل ربّما يكون ضارّاً.
قال رسول الله محمد’: (نعوذ بالله من علم لا ينفع، وهو العلم الذي يضاد العمل بالإخلاص)
فالعلم الذي لا إخلاص فيه، والإخلاص من عمل القلب ومن علمه، فإنّه من العلم الضّار الذي يتعوذ منه نبي الرحمة والإنسانية محمد‘.
ومن كان يحمل مثل هذا العلم الذي ليس من وراءه العمل والإخلاص، فإنّه يكون من العالم الفاسد، الذي يفسد ولا يصلح.
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: (زلّة العالم كإنكسار السفينة تَغرق وتُغرِق).
فمن لم يعمل بعلمه وبإخلاص في النوايا والعمل، فهو في خطر الشقاء والمهلكة، والإضطراب الروحي، والتزلزل الفكري والخُلقي.
فليس الفوز والفلاح لمن تعلّم المصطلحات العلمية، أو كان يحمل في ذهنه مكتبة ضخمة سيّارة، بل ﴿قد أفلح من زكّاها﴾ فلابدّ من تهذيب النفوس، وتزكية الأرواح، وطهارة القلوب، ونزاهة الصدور من الدنس والرّين والدّرن.
قال رسول الله’: (إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصّفا).
وقد بيّن القرآن الكريم، وشبّه العالم الذي لا يعمل بعلمه بالحمار الذي يحمل أسفاراً، ولا يدري ماذا على ظهره، وكالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث، كبلعم باعور في عصر النبي موسى عليه السلام، وكان مثله مثل الطبيب المريض الذي يحمل دواءه بيده لغيره، ولا ينتفع هو من دواءه، بل كان كالبالوعة من القاذورات التي جُصّص ظاهرها بالجّص الأبيض وباطنها الجيفة والقذارة. أو كالقبور المزّينة وفي لحدها الأجساد الميتة.
قال الصادق عليه السلام: (العلم الذي لا يعمل به كالكنز الذي ينفق منه، أتعب صاحبه نفسه في جمعه، ولم يصل إلى نفسه).
وعنه عليه السلام: (مثل الذي يعلّم الخير ولا يعمل به، مثل السراج يضيء للنّاس ويحرق نفسه).
قال عيسى بن مريم: أشقى النّاس من هو معروف عند النّاس بعلمه، مجهول بعمله).
وإذا كان النظر إلى وجه العالم عبادة، فإنّه ليس لكل عالم، بل من صدّق قوله فعله، وفعله قوله. فمن لم يصدق قوله فعله، فليس بعالم حقيقةً، بل من لم يعمل بعلمه لم يزداد إلّا بُعداً من ربّه.
قال الإمام زين العابدين عليه السلام: (فإنّ العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلّا كفراً، ولم يزدد من الله إلّا بُعداً).
ولا يخفى أنّ أهمّ موضوع في حديث عنوان البصري كما سيتضح هو الدعوة إلى العلم الحقيقي النافع، وهو (العلم القلبي) الذي يضارعه العمل الصالح والخالص مع الورع والتقوى، والإبتعاد عن العجب والغرور والفخر والرغبة في حطام الدنيا، وغير ذلك، من النواهي والمفاسد التي توجب السقوط والإنحطاط والمهالك.
الحذار الحذار من العجب والغرور.
قال الإمام الصادق عليه السلام: (العجب كل العجب ممّن يعجب بعمله ولا يدري بما يختم له).
والعجب أن يرى العبد أعماله وعلمه من نفسه، كقارون في قوله: (أوتيته على علم)، ولا يرى ذلك كلّه من فضل ربّه، كسليمان النبي عليه السلام قال: (هذا من فضل ربّي).
قال المسيح عيسى بن مريم‘: (يا معشر الحواريين كم من سراج أطفأته الريّاح،وكم من عابد أفسدته العجب)
عن الإمام الصادق عليه السلام: أوحى الله تعالى إلى داود، يا داود بشّر المذنبين، وأنذر الصديقين؟ قال: كيف أبشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين؟ قال: يا داود بشّر المذنبين بأنّي أقبل التوبة (أعفو عن الذنب)، وأنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم، فإنّه ليس عبد يُعجب بالحسنات إلّا هلك.
ثم إعلم أنّ العجب يشترك في ماهيته مع الكبر، فكلاهما من الأمراض النفسية التي يبتلى بها العالم، فيرى نفسه وتتغلّب عليه أنانيته، فيعجب بنفسه، ويتطاول على الآخرين، ويتكبّر ويتجبّر، فما كان مع النفس كان عُجباً، وما كان مع الغير كان تكبّراً، ويبتلى بحبّ الجاه والمقام، وزيادة السلطة والقدرة، والظلم والإعتداء على الآخرين، وتجاوز الحدود والحريات، وغير ذلك من الصفات الرذيلة، ولم ينتفع من علمه.
ومن إبتلى بالأمراض القلبية من الرذائل والصفات السيئة كيف يصل إلى الكمال المطلوب؟!
وقد جمع بعض الأعلام الصفات الذميمة في أصول عشرة في بيتين من الشعر:
تهّور، جبن، خمود، وشرهَ
تقتير، إسراف، تجريزة، بُله
فذي مع الجهلين في النفس قذر
طوبى لمن ظهراً وبطناً قد طَهر
إن التهور والجبن إشارة إلى طرفي الإفراط والتفريط في فضيلة الشجاعة في القوة الغضبية، والخمود والشَّره إشارة إلى طرفي التفريط والإفراط في فضيلة العّفة في القوة الشهويّة، والتقتير هو البخل من التفريط، وإفراطه الإسراف وكلاهما، من الضلال والجهل، فإنّ الجاهل أما مفرط أو مفرّط، والتجربزه هو إفراط الحكمة، وهو من الوسواس في الفكر، والبُله، هو التفريط من السّفه والحماقة. والجهلان الأول: الجهل البسيط بأن لا يعلم، والثاني: الجهل المركب بان لا يعلم ولا يعلم أنّه لا يعلم، فيتصوّر أنّه يعلم.
وأمّا المطهرات فهي عشرة كذلك
إنّ المكارم أخلاق مطهر
فالدين أولها والعقل ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها
والجود خامسها والفضل سادسها
والبّر سابعها والصبر ثامنها
والشكر تاسعها واللّين باقيها
والنفس تعلم أنّي لا أُصادقها
ولست أرشد حتى أعصيها
فلابد للعالم من التّخلية والتّحلية، تخلية القلب من الصفات الذميمة، وتحليته بالمطهرات والصفات الحميدة، وعليه أن يتخلّص من العجب والغرور والرياء وحبّ الإطراء والمدح والثناء، وبالإخلاص يكون الخلاص، كما بالإخلاص يكون نيل الكمال (أخلص تَنل) فالإخلاص فيه الدافعية والجاذبية، أو قل (التّخلية والتّحلية) ومن تواضع لله رفعه، وأنّ ثمرة العلم الخشية والعصمة والتواضع ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾( فاطر: 28 ).
لطيفة عرفانية في الصلاة:
إنّ الصلاة الواجبة والمندوبة، بأجزائها وشرائطها وآدابها وحقيقتها، تزيل العجب والغرور، لمن يقف على حِكمها وأسرارها، ويعرف حقيقة العبودية وذُلهّا في نفسه، فإنّها ترمز إلى التواضع المحض لله سبحانه، فإنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر أوّلاً، ثم ينال الإنسان بها عروجه إلى ربّه، فينال رضوانه الأكبر، ثم في سجوده يقترب إلى ربّه، قاب قوسين أو أدنى من العلّي الأعلى.
إنّ الصلاة أوّلها التّكبير وأخرها التسليم، وحقيقتها الركوع والسجود، وكلّ هذا يدل على غاية التّذلل والخشوع والخضوع لله سبحانه، لمن يرى عظمته وكبريائه، فهو الكبير المتعال، لا أكبر من الله شيء، وأكبر من أن يوصف.
فتكبيرته الأولى (تكبيرة الاحرام) في حال القيام، ثم التكبيرات المتتالية الأخرى قبل الركوع وبعدها، وقبل السجود وبعده، وفي كل الصلوات اليومية الواجبة والنوافل، مع تعقيب الصلوات بتسبيح فاطمة الزهراء الذي ثلث منه الأكثر (34 مرة) التكبير، وفي كل يوم وليلة يعدّ بالتكبیرات (836) مرّة، فمن يقول هذه التكبيرات بتفّهم وتمعّن هل يبقى في نفسه ذرّة من الكبر والعجب!؟ الله أكبر، لا أكبر من الله شيء ولایقاس بالله أحد، فسبحان الله عمّا یصفون.
ثم تكبيرة الإحرام مع القيام تعني حضور المصلّي في حضرة ربّه، وليعلن عن كبرياء ربّه، وأنّه لله وحده الكبرياء جلّ جلاله، ثم يأتي بالحمد والسورة، ثم أذكار الركوع والسجود والتسبيحات، وكل واحد من ورائها الحِكَم والأسرار والمعارف الإلهية كما يذكرها علمائنا الأعلام في مصنفاتهم ومؤلفاتهم العرفانية والأخلاقية، التي تتحدث عن آداب الصلاة المعنوية وبيان أسرارها وعرفانها.
فما أجمل الصلاة بقيامها وتكبيرها أولاً، ثم الرّكوع وذكره ثانياً، ثم السجود وذكره ثالثاً.
وكأنّما العبد في حضرة ربّه كالجندي في ساحة قائده، يقف أولاً أمام القائد بكل أدب وإحترام، ويرفع يده مكبّراً إيّاه، ثم في مقام التعظيم يركع ويذكره بالعظمة (سبحان ربّي العظيم وبحمده) بل في مقام التقديس والتذلّل وغاية الخضوع والخشوع وهو من حقيقة العبودية، يسجد لربّه على الارض ويذكره بالعلو والمجد، بقوله (سبحان ربّي الأعلى وبحمده) فمن التكبير وإلی التعظيم وإلى التّعالي،وكل هذه المراحل آيات في التواضع والتسليم المحض لله سبحانه، وما العظيم والأعلى إلّا من باب الحسن والأحسن، وإنّما يصل إلى فلسفة الصلاة وحكمتها من كان قلبه وعقله يتفاعلان مع الذّكر والأفعال، وبذلك يبلغ الجمال والكمال في صلاته وعروجه، ثم ما أجمل تكرار السجود، ليدل على غاية التذلّل والخشوع ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ (طه: 55).
فلا أنانية بعد ذلك، بل كلّه فناء في الله، وبقاء به، وهذا آخر منازل ومقامات العارفين والصالحين.
وإذا كان الطائر يطير بجناحيه، فإنّ العبد يُحلّق في سماء الفضائل بسجدتيه، وإذا كانت الأم تعين فرخها على الطيران، فإنّ السجود على تربة سيد الشهداء يوجب خرق الحُجب السبع.
قال الإمام الصادق عليه السلام: (إنّ السجود على تربة أبي عبد الله يخرق الحجب السبع).
ولا عجب! فإنّ كلّ ما عندنا إنّما هو من بركة ثورة الإمام الحسين× وقيامه الخالد بخلود الزّمن، ولولاه لما قام للإسلام من عمود وساق.
وما أروع ما قاله المحقق الكبير العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمه الله في كتابه القيم (جنّة المأوى: 137)(إنّ الإسلام من ساعة قيامه وإلى قيام الساعة، رهين شكر للحسين عليه السلام وأصحابه).
إنّ الإسلام محمدي الحدوث وحسيني البقاء..
إن كان دين محمد لم يستقم إلّا بقتلي فيا سيوف خذيني...
الرابع عشر: لقد ورد في الحديث النبوي الشريف وإن كان من حيث السند مرسلاً: (العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان). إلّا أنّه يؤيّده ما بالحسّ والوجدان، وفي الواقع الخارجي، فإنّ جميع العلوم المتداولة في العالم، إمّا أن تتعلق بأحوال البدن من حيث النشأة الدنيوية، كالصنائع والتجارة، وعلم الفلاحة والزراعة، والسياسة وتدبير شؤون البلاد، والإعمار من الهندسة والجغرافية والتاريخ وعلم الفلك وما شابه ذلك، أو تتعلق العلوم بأمر الروّح وتأمين النشأة الأُخروية والحياة الأبديّة وسعادتها، وهي المعارف الدّينيّة، من الفقه والأخلاق وعلم الكلام، والفلسفة وعلوم القرآن والحديث ومقدماتها كالنحو والصّرف واللّغة وما شابه ذلك، وهذا ما يتعلق بالشّرايع السماوية التي يطلق عليها مجازاً بالأديان، وإلّا فإنّ الدّين حقيقة واحدة ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ فهو دين واحد ذات شرائع ومنهاج مطابقة للأعصار والأمصار والسير البشري في تكامله، كالشريعة الموسوية (دين اليهود) والشريعة المسيحية (دين النصارى) والشريعة الإسلامية الوسطية (دين الإسلام) الحنيف خاتمة الشرايع والأديان.
فالحصر في العلوم العقلية بين الأبدان والأديان من الحصر العقلي والإستقراء التّام الجامع لكلّ ما يطلق عليه لفظ العلم ومفهومه ومعناه، فما كان علم الطبّ إلّا أحد معاني أو مصداق من مصاديق علم الأبدان، لا أنّه تمام معناه ومصداقه الوحيد، فتدبّر.
ثم قسّمنا ـ كما مرّ تكراراً ومراراً ـ العلم إلى قسمين على نحو الحصر العقلي أيضاً بالعلم العقلي الجامع لعلم الأبدان والأديان، والعلم القلبي الذي هو نور من الله سبحانه يجعله ويقذفه إلهاماً في قلب من يشاء أن يهديه إلى سواء السبيل، ويكون بمنزلة الشمس الطالعة على العلوم العقلية، فلولاه لكانت العلوم في وادي الظلام، وفي القلب الأسود، وفي الأرض السّبخة التي لا يخرج منها النبات إلّا نَكَداً.
وما ورد في فضيلة العلم والعلماء من النّصوص الدينية، كالآيات القرآنية، والأحاديث الشريفة، وكذلك ما ورد من البراهين العقلية، إنّما يقصد منه العلم القلبي الإلهي.
وربّ عالم حوزوي وإن كانت علومه من علم الأديان، إلّا أنّه إذا لم يكن في ضوء العلم القلبي لكان من علم الأبدان، كما لو قرء الدّروس الحوزوية للجاه والمقام والمرجعيّة الدنيويّة، فهذا في خدمة بدنه، ويستجيب للذائذه وشهواته وغرائزه ونفسه الأمارة بالسّوء، ومثل هذا العالم كان من علماء السوء، ومن قُطّاع الطريق، ومن السارقين لعقائد النّاس ولقلوبهم وفطرتهم كما ورد في جملة من الأخبار الشريفة.
وربّ عالم أكاديمي وإن كانت علومه من علم الأبدان، إلّا إنّه جعل دراسته قربة إلى الله تعالى، وكان علمه في ضوء دائرة العلم القلبي ونوره، فهذا علمه كان من علم الأديان، لأنّ المقصود من علم الدين هو وصول العبد إلى ربّه، قاب قوسين أو أدنى من العلي الأعلى، في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر، وهذا هو المحور الأصيل الذي نركّز عليه دائماً في بحوثنا الأخلاقية والعرفانية، كما هو المختار.
ولا ريب ومن البديهي لو كان المراد من العلم هو معرفة الحساب والكسور والمخارج الرياضية والمسائل الهندسية مثلاً، أو معرفة اللّغات، أو العلم بتعداد النفوس والبلاد وأحوال الأرض، وتاريخ الأمم والشعوب والوقائع والحوادث، كما في علمي الجغرافية والتأريخ، وكذلك باقي العلوم التي تتعلق بالمعاش، فليس هذه العلوم متوقفة على النّورانية وصفاء القلب، وعلى تحصيل عبودية الله سبحانه، حتى يقال: (ليس العلم بالتعلّم إنما العلم نور يجعله الله في قلب من يشاء أن يهديه) فإنّه من الواضح أن أكثر أصحاب تلك العلوم والفنون الذين قرأوا العلم لحطام الدنيا، أو العلم للعلم، والفن للفن وحسب، وحرموا من الإيمان العقلي والقلبي، وتلّوثوا بالعقائد الفاسدة، وبالرذائل الأخلاقية، وبمذامّ الأفعال الطالحة، وهذه كلّها من الظلمات بعضها فوق بعض، فضلاً عن كونها نوراً، أو نوراً على نور.
فلاشك أنّ مقصود عنوان البصري من العلم الذي كان بصدد تحصيله، والوقوف عليه في آخر عمره، هو العلم بالحقيقة، وبالمعارف الإلهية، ومعرفة الحقائق الرّوحانية والأسرار الكونيّة، وما ينفع مَن علمه، ويضرّ مَن جهله. والذي جُمع خلاصتهُ فيما روي عن رسول الله محمد المصطفى‘ لما دخل المسجد ورأى النّاس قد احتوشوا رجلاً، فقال: ما هذا ؟ فقيل: إنّه علامّة، فقال وما العلامة؟ قالوا: إنه أعرف بـأنساب العرب وأشعارها، فقال: ذاك علم لا ينفع من علمه، ولا يضرّ من جهله، ثم قال‘ (إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، وسنّة قائمة، وفريضة عادلة) إشارة إلى علم العقائد وهو الفقه الأكبر، وعلم الأخلاق وهو الفقه الأوسط، وعلم الفقه ومعرفة الأحكام الشرعية الفرعيّة وهو الفقه الأصغر. وما سوّاهن ففضلٌ، من الفضيلة أو الزيادة.
وفي فقه الحديث،قال العلماء: إنّ المراد من هذه العلوم الإسلامية الثلاثة: هو معرفة أصول الدين بالأدلة والبراهين المستحكمة، ومعرفة الأخلاق ومكارمها ومحاسنها، ومعرفة الفقه وهو العلم بالأحكام الشرعية والوظائف الدينية الفردية والإجتماعية، من العبادات والمعاملات، ومعرفة الحلال والحرام والواجب والمستحب والمكروه والمباح المدّون في الجوامع الفقهيّة المعتبرة، والتي ترجع في إصالتها وأدلّتها إلى القرآن الكريم والسنّة المطهرة، من قول المعصوم عليه السلام (النبي أو الوصيّ) وفعله وتقريره.
ومن وجه آخر قال الإمام الصادق عليه السلام: وجدت علم النّاس في أربع:
أوّلها: أن تعرف ربّك، ثانيها: أن تعرف ما صنع بك، ثالثها: أن تعرف ما أراد منك، ورابعها: أن تعرف ما يخرجك من دينك.
فالعلم القلبي وهو من العلم الحقيقي النافع في الدنيا والآخرة، والذي يضّر من جهله، منشأه النور الإلهي، ولا يحصل ذلك إلّا بالإيمان الكامل والعمل الصالح، وبالعبادة الخالصة، والتقوى والورع، وبالذّكر والدعاء، وبمعرفة حقيقة العبودية.
ولا يخفى أنّ العلم بمفهومه العام يصدق على كل العلوم بكل أنواعها وأصنافها، وهو ما يقابل الجهل.
ولا إشكال في حسن العلم في نفسه بنفسه، بل نقول بوجوبه وجوباً كفائياً لو احتاج المجتمع إليه، إلّا أن الذي ينفع في الدنيا والآخرة، ويكون سبباً للفوز ورفع الدرجات في الجنات، وأنه من الرحمة الرحيمية، هو العلم القلبي الذي يضفي جمالاً وكمالاً على العلم العقلي، لو كان في إطاره وتحت حكومته ونفوذه وسلطنته وسيطرته، وإلّا فإنّ العلم كاد أن يكون الحجاب الأكبر، ولم يزدد الإنسان به إلّا بُعداً من الله، وكان من علم الشيطان إذا لم يوصلك إلى الرّحمن جلّ جلاله.
فالعلم الحقيقي الإلهي نور من الله في القلب أنزله، فصار القلب نوراً ووعاءً للنّور، ومنه يخرج النور ليزيل ويطرد الظلمات، وينفض غبار الجاهليّة، ويزيح كل قذارة ونجاسة ورجس من الرذائل ومذام الأفعال كالشرك والرّياء والعجب وحبّ الذات وحبّ الدنيا وما شابه ذلك، فإنّه من الطّهور الكوثري، ومن علم الجنّة، يزيل الهمّ ويدفع الغمّ ويرفع الحزن ويطرد الخوف، فيه بركات الله ونعمه التي لا تعدّ ولا تحصى.
ولما سئل النبي الأعظم محمد المصطفى‘ عن هذا العلم الذي يكون نوراً في القلب ما علامته؟
قال‘: علائمه ثلاثة:
1 ـ الإنابة إلى دار الخلود.
2 ـ والتجافي عن دار الغرور.
3 ـ والإستعداد للموت قبل نزول الموت.
وهذا ما ورد في دعاء السجدة أيضاً:
وروي أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك كان يقول من أول الليلة إلى آخرها: (اللهم ارزقني التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإستعداد للموت قبل حلول الفوت).
وقد عبّر القرآن الكريم عن الإنابة لمن يتصف بها، وبالمنيب كسيدنا إبراهيم الخليل× في قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ)(هود: 75) وقوله تعالى: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)(ق:33) (ِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ)(سبأ: 9) (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ)(ق:8) (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ) (الروم: 31) (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ)(الشورى: 13) (ءٍرَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(الممتحنة: 4) (رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ)(الرعد: 27) (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) (لقمان: 15) (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) (ص:24). (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى)(الزمر: 17)( وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود: 88).
هذه جملة من الآيات الكريمة في الإنابة، فما بالك ما جاء في الأخبار الشريفة، ثم ما جاء في التجافي عن دار الغرور، وهي الدنيا ومتاعها القليل، ثم ما جاء في الموت والاستعداد له قبل نزوله، ثم ما بعد الموت من العقبات ويوم الحشر ويوم القيامة، فالمنيب حقاً من ينقطع عن الدنيا بكمال الإنقطاع إلى الله سبحانه، فالإنابة الكاملة والتامة هي الإنقطاع الكامل إلى الله سبحانه (وهب لي كمال الإنقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حُجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك...).
والمنيب صفة مشبهة تدل على التكرار والإستمرار والإستقرار، وثبوت النوب والرجوع إلى الله سبحانه حتى يؤذن للعبد المنيب بالدخول بعد طرق الباب على الدّوام (وبابك على الدّوام يطرقون) فيدخل دار الخلود والأبدية، جنّة الله السرمدية (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) راضية مرضية، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
فالإنابة من علائم شرح الصدر، ومن النور في قلوب المؤمنين والمؤمنات، ومن العلم القلبي الأصيل.
ولا شك إنّ من كان حاله الإنابة، ومقامه مقام المنبين في سيره وسلوكه إلى الله سبحانه، فإنّه يتجافى ويجلس في دنياه جلسة المتجافي على أصابع يديه وركبة رجليه كمن يريد القيام والنهوض، فيتجافى ويترك دار الغرور وهي الدنيا الدنّية وزخرفها وزبرجها، وزهرة حياتها التي تخدع وتغّر أهلها.
ثم العلامة الثلاثة: بعد الإنابة والتجافي هو الإستعداد للموت قبل نزوله، فلابد أن يستعد للنق