معنى (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه)
قال تعالى (( من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فاولئك هم الخاسرون )) (الأعراف:178).
فإذا كانت الهداية و الضلال من الله فكيف يستحق البشر الثواب والعقاب؟
وجزاكم الله خيرا.
الاخ عبد الرسول المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لتوضيح مراد الآية لابد من مقدّمات :
1- أن الله تعالى له ملك السماوات والأرض ملكاً مطلقاً غير مقيد من أي وجه من الوجوه ويلزمه كمال التسلط . وملك غيره تعالى محدود جداً بالحدود التي حدها الله وبالمقدار الذي أذن الله به ومع ذلك لا يكون ملك الآخرين للاشياء منافياً ولا ملغياً لملكه، لأنه المملّك لما يملك والمسلّط على ماهو متسلط عليه . فإن الانسان إذا ملك دابةً تسلط على ركوبها والتصرف بها بالمقدار الذي يعرفه العقلاء، وهذا لا يلغي قدرة الله وتسلطه عليه وعلى الدابة أبداً . والانسان في المثال لا يملك أن يغيّر ولا يبدّل في خلقتها ولا في زيادة قدرتها على الحمل والسرعة وامثال ذلك .
2- أن الهداية والضلال أيضاً داخلة في ملكه ومن مظاهر سلطته، لأن كل تصرف من تصرفات عباده وكل صفة من صفاتهم غير خارجة عن دائرة ملكه وقدرته .
3- أن ذلك لا ينافي اختيار العبد في الأفعال الاختيارية ولا يؤدي إلى الوقوع في الجبر. وأما تفصيل الموضوع فيحتاج إلى بيان أكثر والمطلب دقيق جداً . فنحن لا نشك أن الله نصب نفسه في مقام التشريع وشرع لعباده شريعة وسنّ لهم قوانين كلفهم بالالتزام بها، ووعد المطيعين بالثواب وتوعد العاصين بالعقاب فلو أجبرهم على الطاعات والمعاصي لم يكن الثواب في مورد الطاعة إلا جزافاً وعبثاً والعقاب في مورد المعصية إلاّ ظلماً، وكلاهما محال على الله تعالى لأن حكمته وعدله تقتضيان عدم العبث وعدم الظلم . فالتكليف غير مبني على الإجبار، وهو متوجه إلى العباد من حيث أنهم مختارون في الفعل والترك، والمكلفون أنما يثابون ويعاقبون بما كسبت أيديهم من خير وشر . وأمّا ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الاضلال والخدعة والمكر والامداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الانسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته عن ألوان النقص والقبح المنكر والظلم، ولا يمكن نسبة الإضلال إليه بالمعنى الذي ننسبه إلى البشر، فلا ينسب إليه الإضلال الإبتدائي من دون سبق عمل شيء ولا الاضلال على سبيل الاغفال والايقاع في الضلال فانه غير لائق بجنابه وبعيد عن ساحته .
والقرآن في هذا المجال يفسر بعضه بعضاً :
قال تعالى : (( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم )) (الصف:5), (( كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب )) (المؤمن:34). وإذا اتضح ذلك فان أفعال العباد لها انتسابان انتساب إلى الفاعل باعتبار إختياره وهو الانتساب الفعلي . وانتساب إلى الخالق باعتبار أنه الموجد والمكون وهو الانتساب الوجودي .
والعبد عندما يقدم بملئ ارادته على كسر زجاجة كان قادراً على ترك ذلك الفعل لكنه عندما أراده وأقدم عليه كان تحقق الانكسار متوقفاً على إذن الله التكويني (لا التشريعي فانه ربما كان محرّماً)، وكذلك حركة العبد تتوقف على إذن الله التكويني واقدار العبد ليكون قادراً على الفعل، ومنه يتضح أن هداية الله على نحوين هداية بمعنى الإرشاد والتعليم (( إنا هديناه النجدين )) وهي مهمة الأنبياء والعقل والفطرة . وهداية تكوينية بمعنى تحقق المتابعة للهدى وصيرورة الانسان مهتدياً وهذه متأخرة مرتبة عن تلك وهذه تتوقف على إرادة العبد واختياره فإذا اهتدى هداه الله . ومنه قوله تعالى : (( اهدنا الصراط المستقيم )) بعد تقدم الحمد والتسليم التام الذي هو فعل العبد .
وننقل لكم نص ماجاء في تفسير الآية من تفسير الميزان 8 : 334 .
اللام في «المهتدي» و «الخاسرون» يفيد الكمال دون الحصر ظاهراً، ومفاد الآية أن مجرد الاهتداء إلى شيء لا ينفع شيئاً ولا يؤثر أثر الاهتداء إلا إذا كانت معه هداية الله سبحانه فهي التي يكمل بها الاهتداء، وتتحتم معها السعادة، وكذلك مجرد الضلال لا يضر ضرراً قطعياً إلا بانضمام إضلال الله سبحانه إليه فعند ذلك يتم أثره، ويتحتم الخسران . فمجرد اتصال الإنسان بأسباب السعادة كظاهر الإيمان والتقوى وتلبسه بذلك لا يورده مورد النجاة، وكذلك اتصاله وتلبسه بأسباب الضلال لا يورده مورد الهلاك والخسران إلا أن يشاء الله ذلك فيهدي بمشيئته من هدى، ويضل بها من أضل . فيؤول المعنى إلى أن الهداية إنما تكون هداية حقيقية تترتب عليها آثارها إذا كانت لله فيها مشية، وإلا فهي صورة هداية وليست بها حقيقة، وكذلك الأمر في الإضلال، وإن شئت فقل : إن الكلام يدل على حصر الهداية الحقيقية في الله سبحانه، وكذلك الإضلال ولا يضل به إلا الفاسقين .
ودمتم في رعاية الله