أرجو توضيح الآيات والأحاديث التي تفيد وتؤكّد على جواز التوسل والاستغاثة بالميت، وشرحها من الناحية اللغوية؛ وذلك لوجود حوارات كلامية بيني وبين زملائي في العمل والسكن حيث يقول أمثلهم طريقة: إنه يجوز التوسل بالحي، ولكن لايجوز التوسل بالميت،
وجزاكم الله خير الجزاء
أولاً: هنالك فرق بين التوسل والاستغاثة، فالتوسل: هو طلب أمر بوسيلة ما أي بشفيع ما، أما الاستغاثة: فهي طلب الغوث وهو النصره، ومنها الاعانه فالاستعانة هي الاستغاثة غالباً، وقد يطلق التوسل عليها إذا نظر الى حقيقة الأشياء، وكون كل الأسباب هي بيد مسبِّبها وفاعلها الحقيقي وهو الله تعالى؛ لأنه لا تأثير لأي سبب مهما كان إلا بإذنه تعالى، فيمكن تصوير كل طلب من غير الله بأنه توسل وشفاعة لله تعالى بهذا المعنى وهو المعنى الدّقي الصحيح للعقيدة الاسلامية.
ثانياً: وبذلك نعلم الفرق بين المشروع من التوسل والاستغاثة والاستعانة، وبين غير المشروع أو الشرك في بعض صور التوسل والاستغاثة والاستعانة.
فالفرق واضح بين من يجوز التوسل بهم والاستغاثة والاستعانة بهم بشرط أن يكون ذلك باذن الله تعالى وأمره وسلطانه، وبين من لا يجوز التوسل والشفاعة إلى الله بهم أو الاستغاثة والاستعانة بهم حينما يكون ذلك دون إذن الله تعالى أو أمره أو سلطانه (( إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاءٌ سَمَّيتُمُوهَا أَنتُم وَآبَاؤُكُم مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلطَانٍ )) (النجم:23) فالاعتقاد الصحيح هو التفريق بين ما شرعه الله تعالى وما لم يشرعه، وما جعلهم شفعاء وما لم يجعلهم كذلك، والأهم من ذلك أن يتشفع أو يستغاث بمن جعله الله تعالى أهلاً لذلك بشرط الاعتقاد بأن الله تعالى أذن له بذلك وإعطاه تلك الشفاعة، ولو شاء الله تعالى منعه من ذلك وعدم تأثيره منعه وأزال تأثيره فيبقى كل شيء تحت المشيئة والإرادة والأذن الالهي لا أن يعتقد بذلك الشفيع أو المستغاث به بأنه مؤثّر في الأشياء بذاته وباستقلال وغني عن الله تعالى وإلا كان شركاً صريحاً وواضحاً ومخالفاً للعقيدة الصحيحة. ثالثاً: أما تفريقهم بين الحي والميت في ذلك فلا مجال له حينئذ وإلا فان تفريقهم هذا يكون أخطر من قولنا في عدم الفرق؛ لأن قولهم يكشف عن اعتقادهم بأن الحي له القدرة في التأثير فينفع في التوسل والاستغاثة فيرد عليهم القول بالشرك حينئذ (لأنهم سوف يعتقدون بأنّ الحي لانه قادر على النفع فيجوز الاستغاثة به والميت عاجز عن ذلك لعدم قدرته الذاتية على التأثير فلا يجوز الاستغاثة به) فيلزم من قولهم هذا نسبتهم التأثير الذاتي للحي لأنه قادر يستطيع غوثك بخلاف الميت العاجز (العدم) الذي لا يملك نفعاً ولا ضراً.
والحقيقة أننا بحسب العقيدة الصحيحة يجب أن نعلم بأن كل الاشياء والأسباب متساوية في القدرة والعجز؛ لأن الله تعالى هو مسبب الأسباب فإن شاء أعجز القادر، وإن شاء أقدر العاجز، وهذه هي عقيدة التوحيد الصحيحة لا كما يتوهمون .
رابعاً: إذا علمنا ذلك فالآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جداً؛ لأن القرآن الكريم تكلّم في التوحيد والشرك في أكثر آياته وقصصه وبياناته، ولم يدع هذا الأمر المهم بل الأهم مجملاً أو غامضاً، فركّز على وجوب نسبة كل شيء لله تعالى، وكل تأثير وقدرة كذلك، وكونه تعالى مسبّب الأسباب والمتفرد بالخلق والأمر والتأثير، ومع ذلك يثبت التأثير لمخلوقاته من جهة أخرى، ولكن بشرط الإذن، فقد قال تعالى:(( قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا )) (الزمر:44) وقال عز وجل:(( مَن ذَا الَّذِي يَشفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذنِهِ )) (البقرة:255) وقوله تعالى :(( وَلَا يَملِكُ الَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُم يَعلَمُونَ )) (الزخرف:86) فأثبت الشفاعة لغيره، ولكن بالشروط التي ذكرناها من قبوله لهؤلاء الشفعاء لتأهلهم لها وكون الشفاعة باذنه تعالى.
وفي نفس الوقت ينفي تعالى شفاعة شفعاء لا تتوفر فيهم تلك الشروط، إما بكونهم غير مقبولين عند الله، وإما لكون الاعتقاد بهم الاستقلال عن الله تعالى والتأثير الذاتي لهم فأنكر تعالى ذلك فقال عز من قائل: (( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُل أَوَلَو كَانُوا لَا يَملِكُونَ شَيئًا وَلَا يَعقِلُونَ )) (الزمر:43) وهذا مخالف للشرط الثاني في كون اعتقادهم بأن شفعائهم يملكون التأثير الذاتي ودون الحاجة الى إذن الله تعالى لهم وإقدارهم على الشفاعة.
وقال تعالى أيضاً (( وَلَم يَكُن لَهُم مِن شُرَكَائِهِم شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِم كَافِرِينَ )) (الروم:13) وهذه الآية تحكي مخالفتهم للشرط الأول وهو عدم جعل الله لهؤلاء الشفعاء، وإنما اتخذوا هؤلاء شفعاء دون إذن الله تعالى ورضاه وسلطانه بذلك، فهذه روح المسألة وفلسفتها.
خامساً: أما أدلتها، فمن القرآن الكريم قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ )) (المائدة:35). وكذلك قوله عز وجل (( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدعُونَ يَبتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُم أَقرَبُ وَيَرجُونَ رَحمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ )) (الاسراء:57) بخلاف استدلالهم بهذه الآية الكريمة فالمدح واضح لمن يبتغي أقرب وسيلة الى الله تعالى وهم محمد وآل محمد (عليهم السلام).
وقال تعالى في الحضّ على التوسل، وبيان فائدة وأفضلية سلوك طريقه:(( وَلَو أَنَّهُم إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم جَاءُوكَ فَاستَغفَرُوا اللَّهَ وَاستَغفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا )) (النساء:64) وقوله تعالى (( وَجِئنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا )) (النساء:41) فشهادته (صلى الله عليه وآله) على الأمة لا معنى لها لو لا حضوره بينها، وعرض أعمالها عليه (صلى الله عليه وآله). ... المزیدالخ، وقوله تعالى عن موسى (عليه السلام): (فاستغاثة الذي من شيعته على الذي من عدوه) وذكر الله تعالى لذلك دون نكير، بل إن نبي الله (عليه السلام) قد أجاب استغاثته فأغاثه مباشرة، ودون أن يقول له يا مشرك لا يجوز الاستغاثة بغير الله!!.
وأما الأحاديث الشريفة فمنها حديث الأعمى، عن عثمان بن حنيف قال: (إن رجلا ضريراً أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال إدعو الله أن يعافيني فقال: إن شئت أخّرت لك وهو خير، وإن شئت دعوت، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء (اللّهم إنّي أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمدٍ نبيِّ الرحمة، يا محمد، إنّي أتوجَّه بك إلى ربِّي فيجلِّي لي عن بصري، اللّهم فشفِّعه فيَّ) ، قال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرَّقنا، وما طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنَّه لم يكن به ضرٌّ قط.
(مسند أحمد 4 : 138. الجامع الصحيح للترمذي ح|3578 ـ كتاب الدعوات، سنن ابن ماجة ح|1385.).
سادساً: وهناك رواية لهذا الحديث بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي زمن عثمان بن عفان وعن نفس هذا الصحابي الجليل عثمان بن حنيف وهو يطبق هذا الحديث ويستعمله بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وتقضى حاجة من أخذ به, فقد روى الطبراني عنه ذلك الحديث وذكر في أوله قصة (كما قال المباركفوري السلفي في تحفة الاحوذي شرح سنن الترمذي (ج10/ 24) وهي: أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم أئت المسجد فصلّ فيه ركعتين، ثم قل: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إليَّ حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان، فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: ما حاجتك فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلمته فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله، ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأتاه رجل ضرير فشكا إليه.... إلى آخر الحديث.
وهذا يدلّ على عمل هذا الصحابي بذلك بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله)، ولم يقصره على حال حياته (صلى الله عليه وآله) وفهمه لعدم الفرق بين حاليه (صلى الله عليه وآله) وبالتالي لا يوجد فرق بين الحيّ والميت في ذلك بدليل قضاء حاجة هذين الرجلين في الحالين دون فرق وبواسطة صحابي يعرف الشرك جيداً.
ونرجو مراجعة كلام للشوكاني السلفي الذي نقله المباركفوري هنا من ص(24ـ 27) ففيه تفصيل جيد ونافع في ذلك.
وكذلك نذكر بعض ما قاله أئمة السنة في هذا الحديث وفهمه منهم المناوي في شرح الجامع الصغير، فقد قال في فيض القدير (ج2/ 169ـ 170) (يامحمد إني توجهت بك) أي استشفعت بك (إلى ربي) قال الطيبي: الباء في بك للاستعانة، ثم قال المناوي: قال السبكي: ويحسن التوسل والاستعانة والتشفّع بالنبي إلى ربه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف ولا من الخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك، وعدل عن الصراط المستقيم، وابتدع ما لم يقله عالم قبله، وصار بين أهل الاسلام مثله) انتهى.
وفي الخصائص يجوز أن يقسم على الله به، وليس ذلك لأحد، ذكره ابن عبد السلام، لكن روى القشيري عن معروف الكرخي أنه قال لتلاميذه: إذا كان لكم إلى الله حاجة فاقسموا عليه بي فإني الواسطة بينكم وبينه الآن. انتهى.
وهؤلاء كلهم ليسوا بشيعة!!