الدهر يومان , يوم يأتي على المرء بالسعادة, وآخر يأتي ببلاء وامتحان من الله تعالى؛ تمحيصاً منه لعباده, وزيادة لهم في الحسنات أو حطاً من سيئاتهم. يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس﴾
ويقول جلَّ وعلا: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون﴾
فالبكاء عند المصيبة حالة إنسانية ومشاعر نبيلة تُنْبِىءُ عن محبَّة الفقيد والأسى على فراقه, والأكمل أن تُطعم بالمشاعر الدينيَّة ليستحقّ المرء فيها الأجر، كالحزن على ما يصيب الميت من هول المُطَّلع، وما يلقاه في عالم البرزخ والحساب.…
فالبكاء الحقيقيّ ينبغي أن يكون على حالة الميت, لا على فقده, فإن الميت تنتظره أهوالٌ عظيمة, ومواقف مهولة, من هول المطلع إلى حساب القبر وضغطته, وما يلاقي من أعماله في عالم البرزخ, فمن كانت حالته أنه قادم على هذه الأمور, فهو الذي ينبغي البكاء عليه لا على مجرد فقده, ولنِعْمَ ما فعل أبو ذر رضي الله عنه لما مات ذرٌّ ابنه، فقد مسح أبو ذر القبر بيده, ثم قال:" ... المزید أما والله ما بي فقدُك, وما عليَّ من غضاضة, ومالي إلى أحدٍ سوى الله من حاجة, ولولا هولُ المُطَّلع لسرني أن أكون مكانك, ولقد شغلني الحزنُ لكَ عنِ الحزنِ عليكَ, والله ما بكيتُ لك ولكن بكيتُ عليك, فليت شعري ماذا قلت، وماذا قيل لك، ثم قال رضي الله عنه: اللهمَّ إني قد وهبت له ما افترضتَ عليه من حقي، فهبْ له ما افترضت عليهِ من حقك، فأنت أحق بالجود مني…
ينبغي للمؤمنين الصبر على المصاب:
وحول أهمية الصبر في هذه المواقف، جاء عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "قد عجز من لم يُعد لكل بلاءٍ صبراً، ولكل نعمةٍ شكراً، ولكل عسر يسرا، أصبر نفسك عند كل بلية ورزية في ولد، أو في مال فإن الله إنما يقبض عاريته أي ما أعاره لك وهبَته لِيَبْلُوَ شكركَ وصبرَكَ"
وقال عليه السلام: "إن العبد يكون له عند ربِّه درجة لا يبلغها بعمله فيُبتلى في جسده، أو يُصابُ في ماله، أو يصاب في ولده، فإن هو صبرَ بلَّغه الله إياها"
وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله : يقول الله عزَّ وجلَّ: "إذا وجهت إلى عبدٍ من عبيدي مصيبة في بدنه، أو ماله، أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصُبَ لهُ ميزاناً أو أنشرَ له ديواناً"
و الذي يستحقّ الأجر في المصاب هو الذي يتحلى بالصبر على المصاب، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله :
"ألا أَعْجَبَكُمْ إنَّ المؤمن إذا أصاب خيراً حَمِدَ الله وشكر، وإذا أصابته مصيبة حَمِدَ الله وصبر، فالمؤمنُ يؤجرُ في كل شيء حتى اللقمة يرفعها إلى فيه"
وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إن الحرَّ حرٌّ على جميع أحواله، إن نابته نائبةٌ صبر لها، وإن تراكمت على المصائب لم تكسره، وإن أُسر، وقُهر، واستبدل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق الأمين عليه السلام، لم يَضْرُر حريته أن استعبد وأُسر وقهر، ولم تَضْرُرْهُ ظلمة الجب ووحشته، وما ناله أن منَّ الله عليه، فجعلَ الجبارَ العاتي له عبداً بعد أن كان ملِكاً، فأرسله ورحم به أمة. وكذلك الصبرُ يعقِب خيراً، فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا"
واما الاجر يختلف لان ليستْ كلُّ المصائب النازلة على الناس بمستوى واحد، فإن المصيبة بفقد عزيز قد تختلف باختلاف الظروف التي فقد فيها, فقد يموت الإنسان الشيخ في فراش المرض، فتكون المصيبة في أهله وعياله يسيرة، وليست بالفظيعة. وقد يموت شابٌّ في مقتبل العمر، فتشعر بالحزن يعم سائر بلدته, وقد يكون الفقيد شهيداً في سوح النضال والجهاد، فيترك الأثر الكبير في المجتمع، ويفتخر باستشهاده وتضحيته بنفسه في سبيل الله والأمَّة, ولهذا فإن التسلية عن المصاب لا بد وأن تتنوع بحسَبِ نوع المصاب الذي لحق بأصحاب العزاء.
فبالصبر يثبُت الأجر، وبإيكال الأمر لله تعالى والتسليم إليه، والاسترجاع، كما في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام:"الضربُ على الفخذ عند المصيبة يُحْبِطُ الأجر، والصبر عند الصدمة الأولى أعظم، وعِظَمُ الأجرِ على قَدْرِ المصيبة، ومن استرجع بعد المصيبة، جدَّد الله له أجرها كيوم أصيب بها"
والاسترجاع هو قول المؤمن: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
ولعل الأجدر بالمؤمن الحقيقي، المدرك لما في الصبر على المصائب من الأجر والثواب، أن يكون صابراً، راضياً، مسلماً بما ابتلاه الله تعالى به, لأنه في الحقيقة فرصة ثمينة للحصول على أعظم زاد يستعين به فيما لو كان حلول الأجل عليه, ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تَعُدَّنَّ مصيبةً أعطيت عليها الصبر، واستوجبت عليها من الله ثواباً بمصيبة, إنما المصيبة التي يُحْرَمُ صاحبها أجرها وثوابها إذا لم يصبر عند نزولها"…