علي اسيري - الكويت
منذ 4 سنوات

الشبه الوهابية حول أية الغار

سادتي الكرام، تعرفون مناظرة الشيخ المفيد(قدّس سرّه) في حلمه الشهير. وللوهابية ردّ على هذه المناظرة، أرجو الردّ عليه.. ************************* يقول المفيد: ((أمّا قولك: إنّ الله تعالى ذكر النبيّ(صلّى الله عليه وآله) وجعل أبا بكر معه ثانيه, فهو إخبار عن العدد، لعمري لقد كانا اثنين، فما في ذلك من الفضل؟! فنحن نعلم ضرورة أنّ مؤمناً ومؤمناً، أو مؤمناً وكافراً، أو كافراً وكافراً، اثنان فما أرى لك في ذلك العدد طائلاً تعتمده)). قد علمنا أنّ الله سبحانه وصف الكثرة ونسبها إلى الكفر، أو اتّباع الهوى، وقد علمنا أنّه وصف القلّة ونسبها إلى الإيمان، والشواهد كثيرة, ولكن قوله تعالى: (( ثَانِيَ اثنَينِ )) ليس إخبار عن العدد كما يقول المفيد, بل لبيان انفصال الكفر والإيمان؛ لقوله تعالى: (( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ إِذ أَخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا )) ، ثمّ: (( ثَانِيَ اثنَينِ إِذ هُمَا فِي الغَارِ )) (التوبة:40)، الكفر في كفّة، والإيمان في كفّة أُخرى, وقول رسول الله: (حدّثنا عفان، قال: حدّثنا همام، قال: أخبرنا ثابت، عن أنس: أنّ أبا بكر حدّثه، قال: قلت للنبيّ(صلّى الله عليه وسلّم) ونحن في الغار: لو أنّ أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه, فقال: (يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما)). فإن كان الله سبحانه ثالثهما (الله، ثمّ رسول الله، وأبو بكر الصدّيق)، ولم يكن هذا فضل، فلعمري ما عساه يكون؟! يقول المفيد: ((إنّه وصفهما بالاجتماع في المكان, فإنّه كالأوّل؛ لأنّ المكان يجمع الكافر والمؤمن كما يجمع العدد المؤمنين والكفّار, وأيضاً: فإنّ مسجد النبيّ(صلّى الله عليه وآله) أشرف من الغار, وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفّار, وفي ذلك يقول الله عزّ وجلّ: (( فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهطِعِينَ * عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ )) (المعارج:36-37)، وأيضاً: فإنّ سفينة نوح قد جمعت النبيّ، والشيطان، والبهيمة والكلب، والمكان لا يدلّ على ما أوجبت من الفضيلة، فبطل فضلان)). فليخبرني المفيد بعد أن علمنا معاني الاجتماع: هل اجتمع رسول الله مع أبي بكر الصدّيق في الغار بصفة مؤمن مع كافر، أم مؤمن مع مؤمن، أم مؤمن مع منافق، أم رسول مع بهيمة؟ وهل يطبّق كلامه هذا في اجتماع رسول الله مع عليّ، أو مع فاطمة، أو مع الحسن، أو الحسين؟ قال تعالى: (( يَومَ يَجمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبتُم قَالُوا لاَ عِلمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ )) (المائدة:109)، فهل تقوى على القول أنّ اجتماع الله سبحانه برسله لا فضل فيه؟ وهل اجتماع رسول الله مع أبي بكر الصدّيق في الغار في الهجرة اجتماع للدنيا، أم للآخرة؟ إن قلت: للدنيا، خرجت بعارها وشنارها, وإن قلت: للآخرة، فكيف لا يكون اجتماعاً مرحوماً؟! يقول المفيد: ((وأمّا قولك: إنّه أضافه إليه بذكر الصحبة, فإنّه أضعف من الفضلين الأوّلين؛ لأنّ اسم الصحبة تجمع المؤمن والكافر, والدليل على ذلك: قوله تعالى: (( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُطفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً )) (الكهف:35)، وأيضاً: فإنّ اسم الصحبة يطلق على العاقل والبهيمة, والدليل على ذلك: من كلام العرب الذي نزل القرآن بلسانهم، فقال الله عزّ وجلّ: (( وَمَا أَرسَلنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَومِهِ )) (إبراهيم:4)، أنّهم قد سمّوا الحمار: صاحباً، فقالوا: إنّ الحمار مع الحمير مطية ***** فإذا خلوت به فبئس الصاحب وأيضاً: قد سمّوا الجماد مع الحيّ: صاحباً, قالوا ذلك في السيف، فقالوا شعراً: زرت هنداً وكان غير اختيان ***** ومعي صاحب كتوم اللّسان يعني: السيف, فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر، وبين العاقل والبهيمة، وبين الحيوان والجماد، فأيّ حجّة لصاحبك فيه؟!)). وهذه مثل السابقة... فأيّ معاني الصحبة يصدق على صحبة رسول الله وأبي بكر؟ صحبة مؤمن لكافر، أم مؤمن لمنافق، أم مؤمن لمؤمن، أم مؤمن مع بهيمة؟ وهل تطبّق ما قاله شيخكم المفيد في نزع فضيلة الصحبة على أصحاب الحسين يوم عاشوراء؟ ألا تقولون في زيارتكم للحسين: (السلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين)، فما فضل صحبة الحسين؟! وهل صحب الحسين معه بهائم، أم منافقين، أم كفّار؟ وماذا عن صحبة موسى والخضر(عليهما السلام) في قوله تعالى: (( قَالَ إِن سَأَلتُكَ عَن شَيءٍ بَعدَهَا فَلاَ تُصَاحِبنِي قَد بَلَغتَ مِن لَدُنِّي عُذراً )) (الكهف:76)، هل تنكر فضيلة الصحبة هنا وتقول: ((خير يا طير!!))، وماذا عن قوله تعالى: (( وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزوَاجاً لِتَسكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحمَةً )) (الروم:21)، المودّة والرحمة التي جعلت من الزوجة تستحقّ اسم (صاحبة)، يا المفيد! هل هي فضيلة، أم منقصة؟! يقول المفيد: (( (( لاَ تَحزَن )) ، فإنّه وبال عليه ومنقصة له، ودليل على خطئه؛ لأنّ قوله: (( لاَ تَحزَن )) ، نهي، وصورة النهي قول القائل: ((لا تفعل))، فلا يخلو أن يكون الحزن قد وقع من أبي بكر طاعة أو معصية, فإن كان طاعة فالنبيّ(صلّى الله عليه وآله) لا ينهى عن الطاعات، بل يأمر بها ويدعو إليها, وإن كانت معصية فقد نهاه النبيّ(صلّى الله عليه وآله) عنها، وقد شهدت الآية بعصيانه، بدليل أنّه نهاه)). أحمل هذا على قوله تعالى: (( وَتُخفِي فِي نَفسِكَ مَا اللَّهُ مُبدِيهِ وَتَخشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخشَاهُ )) (الأحزاب:37), وقوله تعالى: (( استَغفِر لَهُم أَو لاَ تَستَغفِر لَهُم إِن تَستَغفِر لَهُم سَبعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغفِرَ اللَّهُ لَهُم )) (التوبة:80)، وهذا نهي. وقد وقع استغفار رسول الله للمنافقين؛ قال ابن عمر: ((لمّا توفّي عبد الله بن أبي بن سلول، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله(صلّى الله عليه وسلّم) ليصلّي عليه, فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله(صلّى الله عليه وسلّم)، فقال: يا رسول الله, أتصلّي عليه وقد نهاك الله أن تصلّي عليه؟ فقال رسول الله(صلّى الله عليه وسلّم): (إنّما خيّرني الله تعالى فقال: (( استَغفِر لَهُم أَو لاَ تَستَغفِر لَهُم إِن تَستَغفِر لَهُم سَبعِينَ مَرَّةً )) ، وسأزيد على سبعين)، قال: إنّه منافق. فصلّى عليه رسول الله(صلّى الله عليه وسلّم): فأنزل الله عزّ وجلّ: (( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنهُم مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُم عَلَى قَبرِهِ )) (التوبة:84)، فترك الصلاة عليهم. وبحسب زعم شيخكم المفيد تكون هذه الآية شاهد على معصية رسول الله... والخيار لك. يقول المفيد: ((وأمّا قولك: إنّه قال: (( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )) ، فإنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله) قد أخبر أنّ الله معه، وعبّر عن نفسه بلفظ الجمع، كقوله تعالى: (( إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )) (الحجر:9)، وقد قيل أيضاً في هذا: إن أبا بكر, قال: ((يا رسول الله! حزني على أخيك عليّ بن أبي طالب ما كان منه)), فقال له النبيّ(صلّى الله عليه وآله): (( لاَ تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )) (التوبة:40) أي: معي ومع أخي عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) )). قوله: (( مَعَنَا )) يدلّ على معيّة الله سبحانه لرسوله وأبي بكر الصدّيق, وإلاّ كان قوله: (( ثَانِيَ اثنَينِ )) غثاء ولا معنى له، ولقول الرسول: (ما ظنّك باثنين الله ثالثهما)، والحديث الذي جاء به المفيد (موضوع) لا أصل له.. ثمّ إنّك بجعلك كلمة معنا تنصرف لمفرد، هو ترك للظاهر بلا دليل. يقول المفيد: ((وأمّا قولك: إنّ السكينة نزلت على أبي بكر, فإنّه ترك للظاهر؛ لأنّ الذي نزلت عليه السكينة هو الذي أيّده الله بالجنود، وكذا يشهد ظاهر القرآن في قوله: (( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَم تَرَوهَا )) (التوبة:40)، فإن كان أبو بكر هو صاحب السكينة فهو صاحب الجنود، وفي هذا إخراج للنبيّ(صلّى الله عليه وآله) من النبوّة.. على أنّ هذا الموضع لو كتمته عن صاحبك كان خيراً؛ لأنّ الله تعالى أنزل السكينة على النبيّ(صلّى الله عليه وآله) في موضعين كان معه قوم مؤمنون، فشركهم فيها, فقال في أحد الموضعين: (( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤمِنِينَ وَأَلزَمَهُم كَلِمَةَ التَّقوَى )) (الفتح:26)، وقال في الموضع الآخر: (( ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَم تَرَوهَا )) (التوبة:26)، ولما كان في هذا الموضع خصّه وحده بالسكينة, فقال: (( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ )) ، فلو كان معه مؤمن لشركه معه في السكينة كما شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين, فدلّ إخراجه من السكينة على خروجه من الإيمان))، وهذا بيت القصيد. إن قلنا: أنّ الله أنزل سكينته على رسوله، كان في هذا أقوى دليل على أنّ أبا بكر الصدّيق في مقام النفس عند رسول الله، قال تعالى: (( قَالَ اهبِطَا مِنهَا جَمِيعاً بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ )) (طه:123)، (أهبطا) للمثنى، والمراد ثلاثة، فكانت حواء وآدم نفساً واحدة لمعيّتها مع آدم. وتخصّص رسول الله بالسكينة لا يلزم منها خروج أبو بكر الصدّيق، وإلاّ أخرجنا جميع المؤمنين، مستدلّين بهذه الآية بعدم وجود مؤمن واحد في حادثة الهجرة، ولا حتّى عليّ بن أبي طالب نفسه... لأنّ كلمة السكينة جاءت وفيها إقران بين رسول الله والمؤمنين باستثناء هذه الآية.. وبحسب كلام مفيدكم نستنتج أنّه لا يوجد مؤمن واحد سوى رسول الله. ************************* انتهى بلفظه. أرجو الجواب حفظكم الله، وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين.


الاخ علي المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أوّلاً: استفادة جعل أبي بكر في كفّة الإيمان قبال كفّة الكفر، استناداً إلى قوله تعالى: (( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ إِذ أَخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا )) ، لا يمكن التعويل عليه بعد ورود الضمير العائد بصيغة المفرد دون التثنية صراحة في حقّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله)؛ فقد قال تعالى: (( تَنصُرُوهُ )) ، و (( نَصَرَهُ )) ، ولم يقل: (تنصروهما)، أو: (نصرهما)، وقال: (( أَخرَجَهُ )) ، ولم يقل: (أخرجهما)، أي: إنّ الكفّار أخرجوا النبيّ(صلّى الله عليه وآله) فقط، ولم يخرجوا أبا بكر. ويبقى قوله تعالى: (( ثَانِيَ اثنَينِ )) دالاً على بيان العدد لا أكثر.. وإن أبيت إلاّ ما تدّعي من الآية، فما هو قولك في عليّ(عليه السلام) الذي بقى في مكّة نائماً في فراش النبيّ(صلّى الله عليه وآله)؟ وما قولك في المهاجرين والمسلمين في المدينة؟ فالآية لا تدلّ على ما ادّعيت أصلاً!! بل هو تحذلق لم يقل به أحد من المفسّرين، خاصّة أنّها ذكرت الذين كفروا صراحة، ولم تذكر بأنّ الاثنين مؤمنين، وخرج النبيّ(صلّى الله عليه وآله) بالإيمان قطعاً، فما الدلالة على إيمان أبي بكر؟ إذ الآية ناظرة إلى موقف الكفّار من النبيّ(صلّى الله عليه وآله) فقط، وأنّه هو المُخرَج، ولم يقصدوا أبا بكر بالإخراج، فما ذكر من العدد هو وصف للحال فقط!! وكذلك هو حال الحديث الذي ذكره السائل - بغضّ النظر عن سنده وصحّته؛ فإنّا لا نقبله - إذ لا دلالة فيه على إيمان أبي بكر صراحة سوى الإشارة إلى العدد من أنّهما اثنان.. وأمّا أن الله ثالثهما؛ فهو نظير قوله تعالى: (( مَا يَكُونُ مِن نَجوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُم وَلاَ خَمسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُم )) (المجادلة:7)، إذا كان المراد: المعيّة العامّة، وهي بمعنى: أنّ الله عالم بحالنا، وأمّا إذا كان المراد من الحديث معنى ما جاء في الآية: (( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )) (التوبة:40) المحمول على المعية الخاصّة - على قول - وهي بمعنى: النصرة أو الحفظ، فإنّها لرسول الله(صلّى الله عليه وآله) بالأصالة، وما شملت أبا بكر إلاّ لأنّه كان في ذلك الظرف مع رسول الله(صلّى الله عليه وآله)؛ فإنّ النصرة كانت خاصّة برسول الله(صلّى الله عليه وآله) بنص الآية: (( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ... )) ، وأمّا الحفظ، فإنّ حفظ أبي بكر لازم لحفظ النبيّ(صلّى الله عليه وآله) الذي هو الغرض الأساس من الهجرة والاختفاء في الغار، فما هي فضيلة أبي بكر هنا؟ وإن أبيت، فإنّ الحديث المدّعى لا يدلّ إلاّ على إسلام أبي بكر الظاهري؛ لأنّ الله مع من أسلم مع رسول الله(صلّى الله عليه وآله) مقابل الكفّار. أمّا ((إنّ الله سبحانه وصف الكثرة ونسبها إلى الكفر، أو اتّباع الهوى، وقد علمنا أنّه وصف القلّة ونسبها إلى الإيمان)).. فهذا الكلام أجنبيّ عن المقام؛ إذ ليس في الآية ذكر للقلّة أو الكثرة، وإنّما ذكر للعدد. ثمّ إنّه لا يمكن اعتبار مطلق القلّة أو الكثرة مناطاً للإيمان أو الكفر، بل ورد في القرآن الكريم أنّ الذم اللاحق بالكثرة إنّما هو من جهة الصفات التي اتّصفوا بها، ككراهة الحقّ، أو عدم العلم، كما في قوله تعالى: (( وَأَكثَرُهُم لِلحَقِّ كَارِهُونَ )) (المؤمنون:70)، وقوله تعالى: (( وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لاَ يَعلَمُونَ )) (الأنعام:37)، ومدح القلّة من جهة الصفات كذلك، كالاتّصاف بالشكر والإيمان بالأنبياء، كما في قوله تعالى: (( وَقَلِيلٌ مِن عِبَادِيَ الشَّكُورُ )) (سبأ:13)، و (( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ )) (هود:40).. فالمدار في الواقع هو على الصفات لا على العدد بمجرّده؛ إذ ليس كلّ قلّة من الناس هي مؤمنة جزماً، أو كلّ كثرة كافرة، فهذا ما لا يقول به عقل أو نقل.. فلو رجعت إلى الآية فإنّها تذكر العدد فقط ولم تلحقه بصفة، مع أنّ انفراد الضمير بخصوص النبيّ(صلّى الله عليه وآله) قرينة على حال أبي بكر!! ثانياً: بعد أن أوضح المفيد أنّ الاجتماع بحدّ ذاته لا يدلّ على حقيقة الشخص من الإيمان وعدمه، بل يكون المرجع في معرفة ذلك إن لم يكن نص فيه إلى مواقف الشخص المعني من الشريعة الإلهية, وهذه المواقف من الشخص المعني خاصّة بعد وفاة رسول الله(صلّى الله عليه وآله) تدلّ على النفاق. ويمكن الاطّلاع بشكل تام على حال أبي بكر وبيان صفته وما آلت إليه أُموره من مخالفة النبيّ(صلّى الله عليه وآله) في: أ - تخلّيه عن سرية أُسامة، وقد قال النبيّ(صلّى الله عليه وآله): (لعن الله من تخلّف عن جيش أُسامة) (1) . ب - غصبه إرث الزهراء(عليها السلام)، في حادثة معروفة يتغافل عن التحقيق فيها أهل الحديث والتأريخ؛ لأنّها تكشف عن مثالب القوم بشكل جلي، إذ يمكن أن يوجّه في هذه الحادثة سؤالاً واحداً فقط، هو: متى كان الخبر الواحد المفيد للظنّ ناسخاً للقرآن القطعي السند والظاهر الدلالة، حتّى يستدلّ بحديث: (إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث)، ليعارض به آيات المواريث العامّة، ومواريث الأنبياء خاصّة، الواردة في القرآن؟! ج - تصدّيه للخلافة وهو ليس أهلاً لها، بصريح قوله: ((ولّيت عليكم ولست بخيركم)) (2) ، وقد كان يطلب الهداية من المسلمين وهو زعيمهم بقوله: ((إنّ لي شيطاناً يعتريني... فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوّموني)) (3) مع إنّ الله سبحانه وتعالى يقول بآية واضحة: (( هَل أُنَبِّئُكُم عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ )) (الشعراء:221-222). وليس بعد حادثة اغتصاب الخلافة من أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) شيء، والتي كشف النقاب عن بعض تفاصيلها المؤلمة ابن قتيبة في كتابه (الإمامة والسياسية) (4) ، فليرجع إليها من شاء. وأمّا إجتماع أهل البيت(عليهم السلام) مع النبيّ(صلّى الله عليه وآله) ووصف وجودهم تحت الكساء - إن كان السائل يعني ذلك - فهو بيان للمراد أهل البيت في آية التطهير، ويشهد لهذا: حديث عائشة الوارد في صحيح مسلم بشأن الحادثة (5) ، وفيه تنصيص بفضلهم.. وأين هذا ممّا تدّعي؟! ثالثاً: لا نعرف وجه الإتيان بآية: (( يَومَ يَجمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ )) ، والاستدلال بها على فضيلة اجتماع أبي بكر مع النبيّ(صلّى الله عليه وآله) في الغار!! ثمّ التساؤل عن صفة هذا الاجتماع.. هل هو للدنيا أم للآخرة؟! إذ شتّان ما بين الاثنين، فالآية الأُولى توضّح بأنّ الله سبحانه يجمع الرسل، ولا يجتمع مع الرسل، وهو يجمعهم للحساب، كما أنّه لا يوجد إشكال مطلقاً في اتّصاف الله سبحانه ورسله بالحقّ، كما هو الإشكال الدائر في حقّ أبي بكر واجتماعه في الغار مع النبيّ(صلّى الله عليه وآله)؛ فإنّنا نجزم بأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله) هو نبيّ الحقّ، وقد صرّح الحقّ سبحانه بنصرته بقوله تعالى: (( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ )) (التوبة:40). ولكن الإشكال في شخصية أبي بكر ومواقفه - التي ذكرنا جزءاً يسيراً منها قبل أسطر - ومدى الاستفادة من وجوده في تلك الواقعة (واقعة الغار) للدلالة على إيمانه، أو حسن طاعته لله ولرسوله(صلّى الله عليه وآله)، وأنّه هل يمكن أن نصف اجتماع أبي بكر في الغار مع النبيّ(صلّى الله عليه وآله) أنّه للدنيا أو للآخرة؟ فهذا ما لا يمكن تحصيله من ظاهر الآية فقط، فلا بدّ من العودة إلى حال الرجل ومواقفه في الإسلام، للوصول بعد البحث الموضوعي في مفردات حياته إلى قول يبرئ الذمّة في حقّه. ويمكن القول: أنّ الاجتماع في الغار كان من جهة النبيّ(صلّى الله عليه وآله) اضطراراً بعد أن لاقى أبا بكر في الطريق فأخذه معه، ومن جهة أبي بكر كان طمعاً في الدنيا، ولا يلزم من اجتماع شخصين في مكان أن تكون نيتهما وأغراضهما واحدة. رابعاً: هناك فرق بين أصحاب الحسين(عليه السلام) وصحبة أبي بكر للرسول(صلّى الله عليه وآله) في الغار، لأنّ أصحاب الحسين(عليه السلام) أثبتوا موقفهم مع الحسين(عليه السلام) في نهضته حتّى النهاية، وقد شهدت لهم دماؤهم بفضل صحبتهم، وصحبة أبي بكر ما زالت موضع أخذ ورد، ممّا يكشف عن وجود كلام في مصداقيتها وعدم وضوح هذه المصداقية، وما جرى بعد وفاة النبيّ(صلّى الله عليه وآله) كشف الكثير من ضعف المصداقية لهذه الصحبة. وأمّا الاستدلال بصحبة موسى والخضر(عليهما السلام)، فقد جاءت الآيات واضحة في ثناء الله سبحانه وتعالى عليهما، ولا يقدح في شأنهما أو في شأن موسى(عليه السلام) ما بدر منه في تلك الحادثة بعد ثناء الله عليه في أكثر من موضع وموضع، فهنا الأدلّة واضحة في تقييم الأشخاص، ولا تقع المقارنة بين هذه الحوادث وحادثة صحبة أبي بكر للنبيّ(صلّى الله عليه وآله) في الغار. وملخّص الكلام: أن لا دلالة للصحبة بحدّ ذاتها في كلّ الموارد المذكورة من: أصحاب الحسين(عليه السلام)، وصحبة موسى للخضر(عليهما السلام)، وصحبة أبي بكر للنبيّ(صلّى الله عليه وآله)! وإنّما الدلالة لحقيقة الصاحب؛ فإنّ فضل أصحاب الحسين(عليه السلام) في استشهادهم وصدقهم للصحبة, وفضل صحبة موسى للخضر هي في صحبة نبيّ لولي من أولياء الله علّمه الله الغيب, أمّا صحبة أبي بكر للنبيّ(صلّى الله عليه وآله)، فإنّ قيمتها تظهر من غصبه حقّ فاطمة(عليها السلام) مثلاً، فهل حفظ حقّ الصحبة؟!! خامساً: إنّ الآية التي أردت النقض بها على كلام المفيد، وهي: (( وَتُخفِي فِي نَفسِكَ مَا اللَّهُ مُبدِيهِ وَتَخشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخشَاهُ )) ، لو عرفت تفسيرها الصحيح، تجدها بعيدة عن موضوع النهي؛ فإنّ الله كان قد أخبر رسوله(صلّى الله عليه وآله) سابقاً بعدد نسائه وأسمائهنّ، وكان من بينهنّ زينب بنت جحش، وهي لا زالت على ذمّة زيد، فأخفى رسول الله(صلّى الله عليه وآله) علمه بأنّ زينب ستكون زوجته في المستقبل خشية من كلام المنافقين، فنزلت الآية إشفاقاً على النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، وأنّه لا خوف من المنافقين، فأين هذا من النهي؟! نعم، على ما فسّرها أهل السُنّة قد يرد ما ذكرته، ولكنّا لا نلتزم بما فسّروه، ونلتزم بعصمة النبيّ(صلّى الله عليه وآله) المطلقة. وكذلك الآية الثانية التي ذكرتها وهي: (( استَغفِر لَهُم أَو لاَ تَستَغفِر لَهُم إِن تَستَغفِر لَهُم سَبعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغفِرَ اللَّهُ لَهُم )) ، فهي أيضاً لا يتم بها النقض على تفسيرها الصحيح عندنا، وبيان ذلك بنقاط.. وسيأتي لاحقاً ما يلزم تفسيرها عندكم. أ - فإنّ سياق الآيات يدلّ على أنّها نزلت في غزوة تبوك وهي كانت في سنة ثمان، أي: قبل موت عبد الله بن أُبي بن سلول سنة تسع، فليس للآية ربط بمسألة موت ابن سلول. ب - ثمّ إنّ الآية تبيّن عدم فائدة استغفار النبيّ(صلّى الله عليه وآله) للمنافقين في حصول المغفرة لهم من الله سبحانه، وأنّه لا يغفر لهم أبداً، حتّى لو استغفر لهم الرسول(صلّى الله عليه وآله)، أمّا نفي فائدة أُخرى اجتماعية دنيوية تترتّب على فعل النبيّ(صلّى الله عليه وآله) الخارجي، وهو الاستغفار لو حدث، فهذا شيء آخر، وكذا على ما فسّرها أهل السُنّة من خلال الرواية التي ذكرتها بخصوص فعل عمر؛ فإنّه سيكون في الآية تخيير وليس نهي، وسيأتي الكلام عن الرواية لاحقاً. ج - إنّ النهي ورد في الآية (84) من التوبة: (( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنهُم مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُم عَلَى قَبرِهِ إِنَّهُم كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ )) ، وهي أيضاً كما يظهر من سياق الآيات نازلة في غزوة تبوك سنة ثمان، ولا علاقة لها بموت ابن سلول، وإنّا نفهم - والله العالم - من سياق الآيات: أنّ آية الاستغفار (80 التوبة)، والآيات التي بعدها، إلى آية النهي عن الصلاة (التوبة 84)، نازلة في الذين تخلّفوا عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله) في غزوة تبوك، وأنّ الله يخبره أنّ الله لا يغفر لهم أبداً حتّى لو استغفر لهم الرسول، وأنّه إذا مات أحدهم لا تصلّ عليه ولا تقم على قبره، ثمّ إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله) أعلم بمواقع مصاديق الآيات، فإن فعل في واقعة معيّنة (فرضاً) ولمصلحة هو يعرفها، يكون فعله(صلّى الله عليه وآله) تخصيصاً لعمومها، نلتزم به ولا نعترض عليه؛ لأنّه هو المشرّع، و (( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى )) (النجم:3)، وهذا تنزّلاً على أنّ النهي في الآية يشمل عبد الله بن أُبي بن سلول، وهو أوّل الكلام.. فلاحظ! د - إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله) لم يستغفر لابن سلول؛ فعن الصادق(عليه السلام)، قال: (لمّا مات عبد الله بن أُبي بن سلول، حضر النبيّ(صلّى الله عليه وآله) جنازته، فقال عمر: يا رسول الله! ألم ينهك الله أن تقوم على قبره؟! فسكت، فقال: ألم ينهك الله أن تقوم على قبره؟! فقال له: ويلك، وما يدريك ما قلت؟! إنّي قلت: اللّهمّ أُحش جوفه ناراً، واملأ قبره ناراً، واصله ناراً. قال أبو عبد الله الصادق(عليه السلام): فأبدى من رسول الله(صلّى الله عليه وآله) ما كان يكره) (6) !! هـ - فظهر أنّ ما أوردته من الرواية عن ابن عمر باطلة؛ فإنّ فيها: أنّ عمر قال لرسول الله(صلّى الله عليه وآله): ((أتصلّي عليه وقد نهاك الله أن تصلّي عليه...))، ثمّ لمّا صلّى عليه رسول الله(صلّى الله عليه وآله) نزلت: (( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنهُم مَاتَ أَبَداً... )) ، فمن أين جاء عمر بالنهي وهو بعد لم ينزل على رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، حيث أنّه نزل بعد قول عمر حسب الرواية المزعومة؟!! ثمّ إنّ فيها إثبات المعصية لرسول الله(صلّى الله عليه وآله) - والعياذ بالله - وهو على تفسيركم لهذه الآيات ثابت - أستغفر الله -. مع ملاحظة ما في هذه الرواية من فظاظة عمر، وعدم احترامه لرسول الله(صلّى الله عليه وآله)، واعتراضه عليه، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهو مذكور أيضاً في الرواية من طريقنا التي مضت. و - نقول: نحن نعجب من هواك وعصبيتك بعدما كشفا عن جهلك!! فإنّك أثبت المعصية لرسول الله(صلّى الله عليه وآله) في سبيل دفاعك عن أبي بكر، ولم تذكر تفسيراً مقنعاً للآية والرواية التي أوردتها تنزّه فيها النبيّ(صلّى الله عليه وآله) عن المعصية!! بل إنّك أكّدتها - نعوذ بالله -. ومع ذلك فما قلته مؤيّد لنا؛ لأنّك تقرّ أنّ النهي الوارد في الآية نهي عن معصية، ونختلف نعك في زعمك أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله) فعلها - نعوذ بالله -. ونحن نقول أيضاً: أنّ النهي في: (( لاَ تَحزَن )) أيضاً نهي عن معصية، فما الفرق؟ نعم، الفرق بيننا: أنّا لا نثبت ذلك لرسول الله(صلّى الله عليه وآله)، كما عرفت من تفسيرنا للآية، ولأنّا نلتزم بعصمة الرسول المطلقة بأدلّة يقينية، فنأوّل كلّ ما خالف دليل العقل. وإن اعترضت وقلت: إنّي لا أثبت أنّ النهي في (( لاَ تُصَلِّ )) نهي عن معصية؛ لأنّ له لازم باطل، وهو إثبات المعصية لرسول الله(صلّى الله عليه وآله)، وأنّك لم تفهم كلامي، وقلبته.. ولعلّ هذا مرادك فعلاً. فنقول: 1- إنّ قولك هذا خلاف ما فسّره العامّة من الآية، وما استدلّوا به أيضاً بهذه الآية. 2- ثمّ إنّ قولك هذا يردّه قول عمر نفسه حسب روايتكم! وإلاّ لماذا نهى النبيّ(صلّى الله عليه وآله) إذا لم يكن المراد بالنهي النهي عن معصية، وإذا لم يفهم العرب منه ذلك، وعمر عربي كما هو مشهور!! ز - قد ذكر المؤرخون أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله) إنّما صلّى على هذا الرجل لغرض سياسي؛ لأنّه كان رئيس قومه وزعيمهم، وأراد النبيّ(صلّى الله عليه وآله) بفعله هذا أن يستميلهم للإسلام، وقد تحقّق ما أراده رسول الله(صلّى الله عليه وآله)؛ فإنّه بفعله الظاهري، وهو قيامه عليه، استمال قومه, وما قاله حقيقة هو الدعاء عليه بالنار. ولكن أنّى لهذا أن يدركه عمر، فكان يرى لنفسه حقّ الاعتراض!! والله المستعان على ذلك. وعليه، يظهر أنّ هذه الآية الثانية لا تصلح للمعارضة، بل ربّما تصلح للتأييد بأنّ النهي يرد على المعصية حسب ما فسّرتموه أنتم. ثمّ إنّك تعترض علينا بتفسيركم أنتم للقرآن، وبما تروونه أيضاً، وتريد أن تجعله نقضاً علينا.. ومن الواضح أنّ من قواعد المناظرة أن تأتي بنقض يكون من المتّفق عليه، أو يقبله ويسلّمه المنقوض عليه، فأنت بهذه المعارضة دلّلت على جهلك بقواعد المناظرة والجدل. وأخيراً لا بدّ هنا من أن نضيف شيئاً للفائدة والتوضيح: قال العلاّمة السيّد جعفر مرتضى العاملي: ((ويقول المفيد وغيره: إنّ حزن أبي بكر إن كان طاعة لله، فالنبيّ(صلّى الله عليه وآله) لا ينهى عن الطاعة، فلم يبق إلاّ أنّه معصية (7) . وأجاب الحلبي وغيره: بأنّ الله خاطب نبيّه بقوله: (( وَلا يَحزُنكَ قَولُهُم )) (يونس:65)، فنهي الله لنبيّه لم يكن إلاّ تأنيساً وتبشيراً له، وكذلك نهي النبيّ لأبي بكر (8) . ونحن نرى أنّ جواب الحلبي هذا في غير محلّه! وذلك: لأنّ حزن أبي بكر، وشكّه في نصر الله، الذي يشير إليه قوله(صلّى الله عليه وآله) له: (( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )) (التوبة:40) كان ممّا لا يجمل ولا يحسن؛ إذ كان عليه أن يثق بنصر الله سبحانه وتعالى لنبيّه(صلّى الله عليه وآله)، بعدما رأى المعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، الدالّة على أنّ الله تعالى سوف ينجي نبيّه من كيد المشركين. وعليه، فلا يمكن أن تكون الآية واردة في مقام مدحه وتقريظه، ولا بدّ من حمل النهي على ما هو ظاهر فيه، ولا يصرف عن ظاهره إلاّ بقرينة. بل ما ذكرناه يكون قرينة على تعيّن هذا الظاهر. ولا يقاس حزن أبي بكر بحزن النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، والمشار إليه بقوله تعالى: (( وَلا يَحزُنكَ قَولُهُم )) ، وغيرها؛ لأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله) إنّما كان يحزن من أجل ما يراه من العوائق أمام دعوته، والموانع التي تعترض طريق انتشار وانتصار دينه، لما يراه من استكبار قومه، ومقامهم على الكفر والطغيان. فالنهي له(صلّى الله عليه وآله) في الآية المتقدّمة، ولموسى(عليه السلام) في آية أُخرى، ليس نهي تحريم، وإنّما هو تأنيس وتبشير بالنصر السريع لدينه، وللتنبيه على عدم الاعتناء بقولهم، وعدم استحقاقهم للحزن والأسف. فحزن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) هنا يدلّ على عمق إيمانه، وفنائه في ذات الله تعالى، وهو لا يقاس بحزن من يحزن من أجل نفسه، ومن أجل نفسه فقط. والآيات صريحة فيما نقول: فنجد آية تقول: إنّه(صلّى الله عليه وآله) كان يحزن لمسارعة قومه في الكفر: (( وَلاَ يَحزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفرِ )) (آل عمران:176)، و (( وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحزُنكَ كُفرُهُ )) (لقمان:23) )، وأُخرى تقول: إنّه يحزن لما بدا له من تكذيبهم إياه: (( قَد نَعلَمُ إِنَّهُ لَيَحزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُم لاَ يُكَذِّبُونَكَ )) (الأنعام:33) )، وثالثة تقول: إنّه كان يحزن لاتّخاذهم آلهة من دون الله: (( فَلاَ يَحزُنكَ قَولُهُم إِنَّا نَعلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعلِنُونَ )) (يس:76). وهكذا سائر الآيات، كما لا يخفى على من لاحظها. فالآيات على حدّ قوله تعالى: (( فَلاَ تَذهَب نَفسُكَ عَلَيهِم حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصنَعُونَ )) (فاطر:8)، فهو حزن حسن منه(صلّى الله عليه وآله)، وهو يدلّ على كمال صفاته، وسجاحة أخلاقه. صلوات الله عليه وآله الطاهرين. أضف إلى كلّ ما تقدّم: إنّنا لو لم نعرف واقع حزن أبي بكر، فإنّنا لا يمكن أن نقيسه على حزن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) المعصوم، بل علينا أن نأخذ بظاهر النهي، وهو التحريم، ولا يعدل عن ظاهره إلاّ بدليل)) (9) . سادساً: وأمّا قوله تعالى حكاية عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله): (( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )) ، فإنّنا نجزم بأنّ الله سبحانه مع نبيّه(صلّى الله عليه وآله) مؤيّداً ومسدّداً وحافظاً، وحفظ الله لنبيّه(صلّى الله عليه وآله) فيه مصالح كثيرة يتوقّف عليها أمر البلاد والعباد، ولا نرى وجهاً ليكون الله سبحانه مع أبي بكر بالمستوى الذي يكون فيه مع النبيّ(صلّى الله عليه وآله) لوجود الفارق بين المنزلتين. فالمعية هي للنبيّ(صلّى الله عليه وآله) بالأصالة، ومجيئها بصيغة الجمع وجه بلاغي تكرّر في موارد كثيرة من القرآن الكريم. ثمّ إنّ القول بأنّ الله سبحانه كان مع أبي بكر بالمستوى الذي كان فيه مع نبيّه(صلّى الله عليه وآله) مؤيّداً وحافظاً ومسدّداً لا يمكن المصير إليه؛ لموانع خارجية! ولعلّ الشهادة التي شهد بها البخاري بأنّ فاطمة(عليها السلام) ماتت وهي واجدة - أي غاضبة - على أبي بكر (10) ، وما رواه الحاكم في (المستدرك) وصحّحه عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله): بأنّ الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها (11) ، يمنعنا من أن نقول: إنّ الله سبحانه - وهو المحيط بعباده ابتداءً وانتهاءً - كان مع أبي بكر. إذ كيف يكون الله سبحانه مع شخص سيكون في علمه محلاًّ لغضبه وعدم رضاه؟! اللّهمّ إلاّ أن نقول - إن أردنا المعية للاثنين معاً -: أنّها معية علمية لا معية تأييد وتسديد.. لكن هذا مخالف لسياق الآية؛ فالمعية معية حفظ وتأييد وتسديد، وهي مختصة بالنبيّ(صلّى الله عليه وآله)، وإن وردت بلسان الجمع. أو على أكثر التقادير: أنّها جاءت من أجل رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، وإنّما شملت أبي بكر لوجوده مع النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، فهي مثل قوله تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فِيهِم )) (الأنفال:33)؛ فقد جاءت: (( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )) على سبيل التعريف والتنبيه لأبي بكر ليذهب حزنه وخوفه ويذكّره بأنّ الله سوف يحفظهم وينجّيهم، وأنّه لا داعي لخوفه، وأنّ أبا بكر سوف ينجو مقدّمة لنجاة النبيّ(صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّه لازم للواقع الخارجي، فهو كان مع النبيّ(صلّى الله عليه وآله). وأمّا أنّه وردت رواية بأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله) أراد بلفظ (معنا): هو والإمام عليّ(عليه السلام) البائت على فراشه، فلا ضير ولا إشكال في ذلك من حيث المضمون؛ لموقع عليّ(عليه السلام) من الحقّ، وورود الحديث الصحيح: (عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ) (12) . سابعاً: قوله تعالى: (( قَالَ اهبِطَا مِنهَا جَمِيعاً بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ )) (طه:123)، يراد منه الاثنينية، أي: آدم وحواء (13) ، بقرينة الآيات السابقة لها، أو - كما ذهب إليه بعض المفسّرين -: جنس بني آدم المتمثّل بآدم وحواء، قبال جنس بني الجانّ المتمثل بالشيطان(لعنه الله) (14) ، بقرينة قوله تعالى بعده: (( فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى )) (البقرة:38).. وإلاّ فقد وردت الآيات الكريمة بصيغة الجمع لبيان حادثة الهبوط هذه إلى الأرض كما في قوله تعالى: (( وَقُلنَا اهبِطُوا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ )) (البقرة:36), و (( قُلنَا اهبِطُوا مِنهَا جَمِيعاً )) (البقرة:38). وأمّا القول بأنّ المراد بالمثنّى: آدم وإبليس، فهو ضعيف، ولم يقبله أكثر المفسّرين وإن قاله مقاتل (15) .. ولو سلّمنا، فلا دلالة على دخول حوّاء فيه بالمساواة لآدم حتّى تكون كنفسه، وإنّما على أقصى الاحتمال دخولها بالتبعية، كما يدخل فيه ذرّية آدم وأعوان إبليس؛ لدليل خارج وليس من دلالة اللفظ. أمّا جعل أبي بكر بمثابة نفس رسول الله(صلّى الله عليه وآله) ليكون مشمولاً بالسكينة الواردة في الآية، فهو خلاف الظاهر؛ فالضمير للمفرد لا للمثنى، ولا توجد قرينة من الداخل - أي: داخل الآية - أو خارجها، للمصير إلى هذا المعنى، كما هو الحال الذي ذهب إليه كثير من المفسّرين عند عدّهم أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) بمنزلة نفس النبيّ(صلّى الله عليه وآله) في آية المباهلة، للاقتصار في خروج النبيّ(صلّى الله عليه وآله) للمباهلة على فاطمة والحسنين الذين كانوا يمثّلون موقع نسائه وأبنائه، ولم يكن لعليّ(عليه السلام) - وقد خرج معه - إلاّ موقع نفسه المقدّسة، فالقرينة الداخلية: (( نَدعُ.. وَأَنفُسَنَا )) (آل عمران:61) تشير إلى دعوة شخص بمنزلة النفس، لا دعوة الإنسان لنفسه ذاتها؛ إذ لا معنى له، والقرينة الخارجية هي: خروج الإمام عليّ(عليه السلام) في المباهلة مع النبيّ(صلّى الله عليه وآله) وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، الدالّ بكلّ وضوح على أنّ منزلته هي منزلة نفس النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، لعدم صلاحية الموقعين الآخرين له في الآية. هذا إضافة إلى أنّ الضمير للجمع في (( أَنفُسَنَا )) يصحّ فيه دخول عليّ(عليه السلام)، عكس ما جاء في: (( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ )) ، فالضمير في (عليه) للمفرد، وهو بقرينة الضمائر المتقدّمة والمتأخّرة عليه عائد إلى الرسول(صلّى الله عليه وآله). ثمّ إنّا لم نفهم كلامك الأخير من أنّ تخصيص رسول الله(صلّى الله عليه وآله) بالسكينة يلزم منه إخراج جميع المؤمنين؛ لأنّه: 1- هذا نص في اختصاص السكينة بالرسول(صلّى الله عليه وآله)؛ لمقام ضمير المفرد، وليس عام حتّى يرد عليه التخصيص، فالنص خاص برسول الله(صلّى الله عليه وآله) ابتداءً، وليس عام وخصص برسول الله(صلّى الله عليه وآله)، وأبو بكر لم يكن داخلاً حتّى يخرج بالتخصيص. 2- نعم، نحن نخصّص السكينة هنا بالرسول(صلّى الله عليه وآله) فقط، ولا تشمل جميع المؤمنين؛ إذ ليس شرطاً أن تنزل السكينة دائماً على جميع المؤمنين، وفي كلّ المواقع. 3- إنّ صريح القرآن ورد بأنّ السكينة نزلت على رسول الله(صلّى الله عليه وآله) والمؤمنين معه في ظروف زمانية ومكانية محدّدة، وأنّها هنا نزلت في هذا الظرف الزماني والمكاني على رسول الله(صلّى الله عليه وآله) وحده فقط وفقط، فصريح الآية أخرج أبا بكر، ومن هنا يأتي السؤال بلماذا؟! 4- ثمّ لا نعلم ما هي الملازمة بين نزول السكينة والإيمان، أو عدم نزول السكينة وعدم الإيمان؟! إذ لا يوجد أحد من المسلمين، من علمائهم وعوامّهم، اشترط لا بدّية نزول السكينة على المؤمنين، أو أنّها يجب أن تنزل عليهم في كلّ وقت وإلاّ فهم ليسوا مؤمنين، مع العلم أنّ السكينة هي تأييد إضافي من الله تعالى ينزل على الرسول(صلّى الله عليه وآله)، أو على غيره من المؤمنين معه. نعم، هناك ملازمة بين عدم الإيمان وعدم نزول السكينة من جهة عدم الإيمان؛ فغير المؤمن لا تنزل عليه السكينة ولا عكس. والمفيد يستدلّ بهذا الشكل: كلّما ذكر القرآن نزول السكينة في موضع على رسول الله(صلّى الله عليه وآله) وكان المؤمنون معه، نزلت عليهم أيضاً، إلاّ في هذا الموضع؛ فقد ذكر القرآن نزولها على رسول الله(صلّى الله عليه وآله) وحده مع وجود أبو بكر معه، فدلّ على خروج أبو بكر من تلك الكلّية، ولا دلالة فيها على خروج علي بن أبي طالب؛ لأنّه في هذا الموضع والظرف - أي في الغار - لم يكن مع رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، بل كان أبا بكر هو الموجود معه؛ فلاحظ! ودمتم في رعاية الله

2