حارث فهمي الساكني - ايسلندا
منذ 4 سنوات

سرايا النبي ص و الاختفاء في الغار

أوّل ما يجب أن نعلمه أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله) قد اعتمد أُسلوب السرّية التامّة في أمر هجرته تلك الليلة، خاصّة بعدما أمر بهجرة جميع المسلمين إلى المدينة، وأبقى عليّاً(عليه السلام)؛ لأنّه وصيّه، والقائم مقامه في تأدية حقوق وأمانات الناس المودعة عنده، لذا فإنّ أحداً لم يكن عالماً بخروج النبيّ(صلّى الله عليه وآله) في تلك الليلة سوى أهل بيته المقرّبين، عليّ وفاطمة(عليهما السلام)، وأُمّ هاني بنت أبي طالب(عليه السلام). إنّ هذه السرّية تتناقض مع الرواية المنقولة، والتي تقول: بأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله) قد خرج من بيت أبي بكر نهاراً! (تاريخ الطبري ج2 ص100). وهناك سؤال منطقي آخر، هو: كيف يتوجّه النبيّ(صلّى الله عليه وآله) إلى بيت أبي بكر الذي كان يحوي المشركين؟! ألا يفترض به أن لا يتوجّه إلى ذلك البيت بالذات، حتّى لا يكشفه أحد من هؤلاء المشركين؟ جاء في كتاب (البداية والنهاية)، لابن كثير الأُموي، عن ابن جرير الطبري ما يؤيّد هجرة رسول الله(صلّى الله عليه وآله) إلى غار ثور وحده، فخاف ابن كثير من هذه الرواية الصحيحة الدالّة على بطلان صحبة أبي بكر، فارتجف قائلاً: ((وهذا غريب جدّاً، وخلاف المشهور من أنّهما خرجا معاً))! (البداية والنهاية ج3 ص219، السيرة النبوية، لابن كثير أيضاً ج2 ص236). الظاهر أنّ الماكرين قد قاموا بتصحيف وتزوير كبيرين، ليوافق اسم (أبي بكر) اسم (ابن بكر)؛ فقد غيّروا اسم أبي بكر الحقيقي(عتيق)، وجعلوه (عبد الله) ليوافق اسم (عبد الله) بن أُريقط بن بكر. (مختصر تاريخ دمشق، لابن عساكر ج13 ص35)، وبهذا بقي التغيير بين (ابن بكر)، و(أبي بكر)، وهو سهل وبسيط؛ لأنّ الكتابة في السابق لم تكن منقوطة، لذا فإنّ اسم أبي بكر وكذلك ابن بكر يكتبان بالطريقة نفسها. إنّ الروايات التي تذكر هجرة أبي بكر مع خاتم الأنبياء(صلّى الله عليه وآله) هي روايات إسرائيلية؛ لأنّها تشتمل على بعض التفاصيل الواضح اتّصالها باليهود وتراثهم! من تلك القضايا: أنّ حمامة قد جاءت وباضت بيضة أمام الغار، وأنّ عنكبوتاً قد جاء ونسج خيوطه على فتحة الغار، الأمر الذي جعل المشركين يتوهّمون عدم وجود أحد فيه. وهذا الأمر مناقض للعقل وللصحيح من الروايات؛ لأنّ غار ثور مثلما تشاهدونه هو غار صغير لا تتعدّى مساحته مترين مربعين فقط، فمن غير الممكن أن يحجب أي شيء الرؤية إلى داخله، فلو وقف أي شخص أمام فتحة الغار لشاهد كلّ ما فيه بشكل واضح جدّاً؛ لأنّه غار صغير. ويضاف إلى ذلك: أنّ هناك فتحة أُخرى جانبية في الغار، الأمر الذي يجعل الضوء ينفذ ويضيء الغار بأكمله ممّا يسهل الرؤية. لذا فلا معنى لخيوط عنكبوت ولبيضة حمامة، فالرؤية واضحة تماماً. والحقيقة أنّهم قد جاؤوا برواية العنكبوت من سيرة النبيّ داود(عليه السلام) في كتب اليهود، حيث نسج العنكبوت خيوطه على غار داود(عليه السلام) عندما لاحقه جالوت بغرض قتله. (تفسير القرطبي ج13 ص346). فكيف تفسّرون لنا هذا الكلام مع العلم أنّنا نسمع أنّ أبا بكر كان معه في الغار...


الأخ حارث المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نشكركم على المتابعة والبحث والتدقيق والتحقيق؛ إذ أنّ مدرسة الخلفاء والحكّام فيها كثير من المتناقضات والمتهافتات والعجائب والغرائب، ومنها ما موجود في قصّة الغار والهجرة؛ ففيها تناقضات عديدة، حاولت أنت الإشارة إلى بعضها، وإن كان ما ذكرته يحتاج إلى تدقيق وتصحيح. ومع ذلك، فمن تناقضاتهم: ما ورد في البخاري من أنّ أبا بكر كان يصلّي في المدينة في قباء خلف سالم مولى أبي حذيفة، هو وعمر وآخرون، ولم يكن رسول الله(صلّى الله عليه وآله) قد هاجر بعد.. فقد روى البخاري: عن ابن عمر، قال: لمّا قدم المهاجرون الأوّلون العصبة - موضع بقباء - قبل مقدم رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، كان يؤمّهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآناً (1) .. ثمّ روى البخاري نفسه: عن ابن عمر أيضاً، قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين الأوّلين وأصحاب النبيّ(صلّى الله عليه وآله) في مسجد قباء، فيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو سلمة، وزيد، وعامر بن ربيعة (2) . فلا ندري كيف كان أبو بكر في الغار، وفي نفس الوقت في قباء في المدينة على بعد (400كم) يصلّي خلف سالم؟!! كما أنّه قد ثبت من روايتهم: أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله) قد هاجر وحده ليلاً دون علم أبي بكر، بحيث أنّ أبا بكر ذهب إلى بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، بعد أن خرج إلى هجرته، وهو يقول: يا نبيّ الله! وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) قد نام في فراش النبيّ(صلّى الله عليه وآله) ولم يعلم بذلك أبو بكر، فأجابه عليّ(عليه السلام): أنا عليّ ولست رسول الله، إن شئت أن تطلب رسول الله(صلّى الله عليه وآله) فالحقه عند بئر ميمون.. كما روى ذلك الحاكم في مستدركه وصحّحه (3) ، ووافقه الذهبي (4) ، وقال الألباني: ((وهو كما قالا)) (5) . وأخرجه الهيثمي في (مجمع الزوائد)، وقال: ((رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار، ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلج الفزاري، وهو ثقة وفيه لين (6) . والرواية عن ابن عبّاس في حديث طويل جامع في مناقبه(عليه السلام)، كما قال الهيثمي...(وفيه): ثمّ نام مكانه، وكان المشركون يرمون رسول الله(صلّى الله عليه وآله) فجاء أبو بكر وعليّ نائم، قال: وأبو بكر يحسب أنّه نبيّ الله(صلّى الله عليه وآله)، فقال: يا نبيّ الله! فقال له عليّ: إنّ نبيّ الله قد انطلق نحو بئر ميمونة، فأدركه. فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار، قال: وجعل عليّ يُرمى بالحجارة كما كان يرمى رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، وهو يتضوّر، قد لفَّ رأسه في الثوب لا يخرجه حتّى أصبح، ثمّ كشف رأسه، فقالوا: إنّك للئيم، كان صاحبك نرميه لا يتضوّر، وأنت تتضوّر، وقد استنكرنا ذلك. وهذا الحديث رواه أحمد في (مسنده) (7) ، والنسائي في (السنن الكبرى) (8) ، وفي (الخصائص) (9) . فلو كان خروجه في النهار، لما نام في فراشه أمير المؤمنين(عليه السلام)! ولو كان أبو بكر يعلم بالهجرة، أو أنّه(صلّى الله عليه وآله) هاجر من بيته، لما جاء إلى بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله)! وكيف نكذّب رواية صحيحة وحادثة متواترة، وهي نوم أمير المؤمنين(عليه السلام) في فراشه(صلّى الله عليه وآله)، وخروجه(صلّى الله عليه وآله) ليلاً وحده بعد أن رمى التراب في وجوههم ووضعه على رؤوسهم، ثمّ لحقه أبو بكر، فلا ندري ما هو وجه الغرابة عند ابن كثير (10) ؟! ثمّ ما هو التعارض أصلاً بين الروايتين حتّى يشتط ابن كثير هكذا ويدّعي الغرابة وخلاف المشهور، مع إمكان الجمع بينهما؟ من أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله) هاجر لوحده في المرحلة الأُولى، ثمّ جاء أبو بكر يطلبه في داره، فوجد عليّاً(عليه السلام) نائماً مكانه ليوهم الكفّار بوجود رسول الله(صلّى الله عليه وآله) نائماً في بيته ليشغلهم حتّى يبتعد، ثمّ حينما يزوره أبو بكر يؤكّد وجود النبيّ(صلّى الله عليه وآله) في البيت، فيبقى مشركو قريش حينئذٍ في انتظار الوقت المناسب للانقضاض على رسول الله(صلّى الله عليه وآله) كما كانوا يريدون فعل ذلك في ذلك اليوم.. ولمّا دخل أبو بكر يطلب رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، أخبره أمير المؤمنين بأنّ رسول الله قد غادر بعيداً، فالتحق به عند بئر ميمون، ولمّا التحق أبو بكر بالنبيّ(صلّى الله عليه وآله) غيّر رسول الله(صلّى الله عليه وآله) مكانه، فانتقل إلى الغار في تلك الليلة من دون أن يشعر بهما أحد.. ولولا ذكاء رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، ووحي الله وتسديده له في كيفية التعامل مع الأحداث والأشخاص، لانكشف أمر النبيّ(صلّى الله عليه وآله). فيمكن بحسب رواياتهم هذه أن يجمعوا بينها دون أدنى تعارض، فلا ندري لماذا استغرب ابن كثير رواية سبق النبيّ(صلّى الله عليه وآله) لأبي بكر بالهجرة دون إعلامه، وادّعى مخالفتها للمشهور؟! إلاّ لأنّه تلميذ ابن تيمية، ولأنّ هذه الرواية تخدش في أبي بكر، وتقلّل من أهميته المتوقّعة والمزعومة! ويرد أيضاً على بعض رواياتهم التي تدّعي فضلاً لآل أبي بكر، من أنّ ابنه عبد الله بن أبي بكر كان يأتيهم بالأخبار والأنباء، وأنّ أسماء صنعت لهم الطعام، وسُمّيت عند ذلك بـ(ذات النطاقين) (11) ، أنّه: أين كان عنهم ابنه الآخر الكافر عبد الرحمن، الذي كان اسمه عبد العزّى (12) ، والذي خرج مع المشركين في بدر وأُحد وطلب البراز، فأراد أبو بكر أن يخرج له، فمنعه رسول الله(صلّى الله عليه وآله) وقال له: (متّعنا بنفسك) (13) . وقد رووا عن أسماء، أنّها قالت: ((مكثنا ثلاث ليال لا ندري أين توجّه رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، حتّى أقبل رجل من الجنّ من أسفل مكّة يغنّي بأبيات من الشعر غناء العرب...)) (14) . وأمّا ما ذكرته في مسألة العنكبوت، فإنّها مذكورة كثيراً في كلمات أصحابنا، ولم نر بحسب اطّلاعنا من أنكر ذلك، أو شكّك فيه. ونتمنّى من جنابكم أن تبحثوا هذه المسألة وتحقّوا الحقّ فيها إن أمكنكم، فهو أفضل من الحكم على مثل هذه الأُمور بسرعة، أو تسرّع، فيتورّط الإنسان، أو يندم، أو يُحرج على الأقل، وهو في غنىً عن ذلك كلّه. ودمتم في رعاية الله

1