عدنان شرف الدين - استراليا
منذ 4 سنوات

حول تشيع ابن العلقمي

سمعت مؤخّراً - كما سمع الجميع - كلاماً لأحد الخطباء في السعودية يهاجم فيه الشيعة، وينال من أحد مراجعنا الكبار حفظهم الله جميعاً.. وليس هذا بالأمر الجديد. ولكنّي سمعت منه شيئاً عن شخص يدعى ابن العلقمي, والذي - بحسب القائل - كان وزيراً لأحد الخلفاء العبّاسيين، وكان قد أخفى تشيّعه تقيّة.. إلاّ أنّ هذا الوزير الشيعي خان الخليفة والأُمّة، وتعاون مع هولاكو، ممّا أدّى إلى مقتل الآلاف من أهل السُنّة والجماعة على يد هولاكو، بحسب زعمه. لقد بحثت عن هذا الموضوع، ولكنّي لم أجد مصدراً يستحقّ الثقة فاعتمد عليه، فكلّ ما وجدت بعض المؤلّفات للإخوان السُنّة، والتي تشير إلى تورّط نصير الدين الطوسي في نفس الخيانة المزعومة. أرجو منكم توضيحاً لهذه المسألة مع الإشارة إلى أية مصادر يمكن التعويل عليها.


الأخ عدنان المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابن العلقمي، هو: أبو طالب محمّد بن أحمد بن علي مؤيّد الدين الوزير, من مشاهير الوزراء والعلماء والفضلاء الكفوئين, وهو أسدي الأصل, وعرف بـ(ابن العلقمي) لأنّ أحد أجداده حفر نهر العلقمي المشهور. تفرّق المؤرّخون في ابن العلقمي فريقين: الأوّل، وأكثرهم من الشاميين المتعصّبين يقول: لمّا كان ابن العلقمي شيعياً رافضياً وأظهر مذهب التشيع في بغداد، حدثت بينه وبين الدواتدار - وهو من المقرّبين إلى الخليفة العبّاسي - جفوة, وكان الدواتدار هذا مغالياً في مذهبه السُنّي, وكان نجل الحاكم العبّاسي الملقّب: (أبا بكر) يتعاطف مع الدواتدار, وجرّ العداء بين ابن العلقمي والدواتدار إلى حرب ودماء في بغداد, ولمّا كان الخليفة العبّاسي لا يدعم ابن العلقمي وزيره، وكان يتعاطف مع خصمه, لذلك أرسل ابن العلقمي شخصاً إلى هولاكو يحرّضه على غزو بغداد, فأبدى تواطؤاً معه، وخان الخليفة. أمّا الفريق الثاني، وهم من ثقاة المؤرّخين المعاصرين للحدث، فيرون: أنّ ابن العلقمي بريءٌ من كافة التهم الملصقة به، ولا صحّة لتواطؤه مع هولاكو. يقول ابن الطقطقي (ت709هـ) في (الفخري): ((كان المستعصم رجلاً خيّراً متديّناً، ليّن الجانب، سهل العريكة، عفيف اللسان، حمل كتاب اللّه تعالى، وكتب خطاً مليحاً، وكان سهل الأخلاق، وكان خفيف الوطأة، إلاّ أنّه كان مستضعف الرأي، ضعيف البطش، قليل الخبرة بأُمور المملكة، مطموعاً فيه، غير مهيب في النفوس، ولا مطّلع على حقائق الأُمور، وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني والتفرّج على المساخرة، وفي بعض الأوقات يجلس بخزانة الكتب جلوساً ليس فيه كبير فائدة، وكان أصحابه مستولين عليه، وكلّهم جهّال من أراذل العوام، إلاّ وزيره مؤيّد الدين محمّد ابن العلقمي؛ فإنّه كان من أعيان الناس، وعقلاء الرجال، وكان مكفوف اليد، مردود القول، يترقّب العزل والقبض صباح مساء... إلى أن قال: وفي أواخر أيامه قويت الأراجيف بوصول عسكر المغول صحبة السلطان هولاكو، فلم يحرّك ذلك منه عزماً، ولا نبّه منه همّة، ولا أحدث عنده هَمّاً، وكان كلّما سمع عن السلطان من الاحتياط والاستعداد شيء، ظهر من الخليفة نقيضه من التفرط والإهمال، ولم يكن يتصوّر حقيقة الحال في ذلك، ولا يعرف هذه الدولة، يسّر الله إحسانها وأعلى شأنها، حقّ المعرفة. وكان وزيره مؤيّد الدين ابن العلقمي يعرف حقيقة الحال في ذلك ويكاتبه بالتحذير والتنبيه ويشير عليه بالتيقّظ والاحتياط والاستعداد، وهو لا يزداد إلاّ غفولاً، وكان خواصّه يوهمونه أنّه ليس في هذا كبير خطر ولا هناك محذور، وأنّ الوزير إنّما يعظّم هذا لينفق سوقه، ولتبرز إليه الأموال ليجنّد بها العساكر فيقتطع منها لنفسه...)). وقال في وزارة مؤيّد الدين محمّد بن أحمد ابن العلقمي: ((وكان مؤيّد الدين الوزير عفيفاً عن أموال الديوان وأموال الرعية، متنزّهاً مترفّعاً. قيل: إنّ بدر الدين صاحب الموصل أهدى إليه هدية، تشتمل على كتب وثياب ولطائف قيمتها عشرة آلاف دينار، فلمّا وصلت إلى الوزير حملها إلى خدمة الخليفة، وقال: إنّ صاحب الموصل قد أهدى لي هذا واستحييت منه أن أردّه إليه، وقد حملته وأنا أسأل قبوله، فقبل. ثمّ إنّه أهدى إلى بدر الدين عوض هديته شيئاً من لطائف بغداد قيمته اثنا عشر ألف دينار، والتمس منه ألاّ يهدي إليه شيئاً بعد ذلك. كان خواصّ الخليفة جميعهم يكرهونه ويحسدونه, وكان الخليفة يعتقد فيه ويحبّه, فأكثروا عليه عنده, فكفّ يده عن أكثر الأُمور. ونسبه الناس إلى أنّه خامر (1) ، وليس ذلك بصحيح, ومن أقوى الأدلّة على عدم مخامرته: سلامته في هذه الدولة؛ فإنّ السلطان هولاكو لمّا فتح بغداد وقتل الخليفة سلّم البلد إلى الوزير وأحسن إليه وحكّمه, فلو كان قد خامر على الخليفة لَما وقع الوثوق إليه. حدّثني كمال الدين أحمد الضحّاك - وهو ابن أُخت الوزير مؤيّد الدين ابن العلقمي - قال: لمّا نزل السلطان هولاكو على بغداد أرسل يطلب أن يخرج الوزير إليه, قال: فبعث الخليفة، فطلب الوزير، فحضر عنده وأنا معه, فقال له الخليفة: قد أنفذ السلطان يطلبك، وينبغي أن تخرج إليه. فجزع الوزير من ذلك، وقال: يا مولانا! إذا خرجت فمن يدبّر البلد؟ ومن يتولّى المهام؟ فقال له الخليفة: لا بدّ أن تخرج. قال: فقال السمع والطاعة. ثمّ مضى إلى داره وتهيّأ للخروج, ثمّ خرج، فلمّا حضر بين يدي السلطان وسمع كلامه وقع بموقع الاستحسان, وكان الذي تولّى تربيته في الحضرة السلطانية الوزير السعيد نصير الدين محمّد الطوسي(قدّس الله روحه)، فلمّا فتحت بغداد سُلّمت إليه وإلى علي بهادر الشحنة، فمكث الوزير شهوراً، ثمّ مرض ومات - رحمه الله - في جمادي الأُولى سنة ستّ وخمسين وستّمائة...)) (2) . وهناك كلمة لسماحة الشيخ محمّد مهدي الآصفي، كتبها في ترجمة المحقّق الحلّي(ره)، كمقدّمة لكتاب (النهاية ونكتها)، ننقل لك فقرات منها نجدها وافية في إيضاح وجهة نظرنا؛ قال ضمن عنوان: (مؤيّد الدين ابن العلقمي): ((أمّا كيف حدث هذا الحريق الهائل في مركز العالم الإسلامي، وكيف تمزّقت هذه الدولة الكبرى، وتقطّعت أوصالاً على يد المغول؟! فهو فصل آخر من فصول مأساة المسلمين في التاريخ. أمّا الذين لا يريدون أن يجهدوا أنفسهم من المؤرّخين في أسباب هذه النكبة الكبرى التي أحلّت بالمسلمين، ولا يريدون أن يدخلوا إلى عمق هذا الجرح النازف في تاريخ الإسلام.. فالجواب عندهم جاهز لا يحوجهم إلى تفكير.. فقد تعوّد هؤلاء أن يلتمسوا لكلّ نكبة تحلّ بالمسلمين سبباً في شيعة أهل البيت! ولا يطول هذه المرّة وقوفهم عند هذه القضية؛ فهذا مؤيّد الدين ابن العلقمي الذي استوزره المستعصم العبّاسي آخر خلفاء بني العبّاس، معروف بالتشيّع، فلِمَ لا يكون هو الذي يتحمّل إثم هذه النكبة! ثمّ لا تسأل عن الدليل! فإنّ المؤلّفين يتناقلون إسناد هذه الجريمة إلى ابن العلقمي جيلاً من بعد جيل، دون أن يذكروا لذلك دليلاً معقولاً! ثمّ أغرب من ذلك كلّه!! أن لا يذكروا ابن العلقمي إلاّ بصفته المتميّزة: (شيعي رافضي). ومن العجب! أنّ التاريخ يحفل بذكر الخيانة والإجرام في صفوف السُنّة والشيعة, والتاريخ يذكر ذلك كلّه أو بعضه, فإذا كانت الخيانة والجريمة من السُنّة، اقتصروا على ذكر اسمه وهويته الشخصية, وإذا كانت الخيانة أو الجريمة من الشيعة، لم يسندوها إليه بصفته الشخصية، وإنّما يصرّون إلى جانب ذلك على ذكر انتمائه المذهبي.. ومن مآسي التاريخ، أنّ المؤرّخين يتناسون كلّما مرّوا بهذه النكبة التي حلّت بالمسلمين الأسباب الحقيقية والعميقة لهذه المأساة، ويشغلهم أمر إلصاق هذه التهمة بابن العلقمي والشيعة عن الأسباب الحقيقية التي أنهكت خلافة آل عبّاس، ونخرت في عرشهم وسلطانهم وأضعفتهم، واستقدمت إليهم التتار من أقصى الشرق ليغزوهم في عقر دورهم. وأمّا ابن العلقمي فقد كان من أكثر الناس حرصاً على كفّ شرّ التتار، وعدوانهم عن بغداد عاصمة الخلافة العثمانية.. يقول ابن العبري، المتوفّى سنة 685هـ، وهو ممّن عاش وعاصر هذه النكبة، في كتابه (تاريخ مختصر الدول): لمّا فتح هولاكو تلك القلاع - قلاع الإسماعيلية - أرسل رسولاً آخر إلى الخليفة وعاتبه على إهماله تسيير النجدة, فشاوروا الوزير - ابن العلقمي - في ما يجب أن يفعلوه, فقال: لا وجه غير إرضاء هذا الملك الجبّار، ببذل الأموال والهدايا والتحف له ولخواصّه. وعندما أخذوا في تجهيز ما يسيّرونه من الجواهر والمرصعات، والثياب والذهب والفضّة، والمماليك والجواري، والخيل والبغال والجمال، قال الدويدار الصغير وأصحابه: إنّ الوزير إنّما يدبّر شأن نفسه مع التاتار، وهو يروم تسليمنا إليهم، فلا نمكّنه من ذلك. فبطّل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة، واقتصر على شيء نزر لا قدر له, فغضب هولاكو، وقال: لا بدّ من مجيئه هو بنفسه، أو يسيّر أحد ثلاثة نفر: إمّا الوزير, وإمّا الدويدار, وإمّا سليمان شاه. فقدم الخليفة إليهم بالمضي فلم يركنوا إلى قوله.. فسيّر غيرهم، مثل: ابن الجوزي، وابن محي الدين، فلم يجديا عنه (3) . ويقول صاحب كتاب (جامع التواريخ): إنّ الخليفة عندما استشار وزيره ابن العلقمي، قال له: ينبغي أن تدفعه ببذل المال؛ لأنّ الخزائن والدفائن مجمع لوقاية عزّة العرض وسلامة النفس, فيجب إعداد ألف حمل من النفائس، وألفاً من نجائب الإبل، وألفاً من الجياد العربية المجهّزة بالآلات والمعدات, وينبغي إرسال التحف والهدايا في صحبة الرسل، مع تقديم الاعتذار إلى هولاكو، وجعل الخطبة والسكّة باسمه.. ومال الخليفة إلى قبول هذا الرأي، ولكن مجاهد الدين أيبك، وكان يلقّب بالدويدار الصغير، الذي كان يضمر العداوة والبغضاء للوزير ابن العلقمي، استمال بعض الأمراء، وبعثوا إلى الخليفة برسالة يقولون فيها: إنّ الوزير إنّما رأى هذا الرأي مدفوعاً في ذلك بمصلحته الخاصّة)) (4) . والخلاصة: إنّ مؤيّد الدين ابن العلقمي مختلف فيه, اتّهمه بعد سنوات من كان بعيداً عن بغداد متعصّب عليه، ونزّهه من كان معاصراً للأحداث في بغداد. والمرجّح عندنا: أنّه بريء ممّا نسبه البعض إليه, وذلك بسبب تشيّعه، وكثرة حسّاده، وتزامن عهده مع سقوط الدولة العبّاسية، وإنّ من اتّهموه لم يكن لديهم دليل، وكانوا متأخّرين زماناً عنه، خاصّة ابن تيمية، مع أنّ معاصروه، كابن الطقطقي، وابن العبري، وابن الفوطي (5) لم يذكروا شيئاً من ذلك. ودمتم في رعاية الله

1