السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ننقل لكم في المقام بعضًا مما ذكرة الشيخ السبحاني عن هذا الموضوع في كتاب الالهيات:
1 - ما هو الدين؟ وما واقعه؟
2 - ما هو دوره في حياة الإنسان؟
الدين هو ثورة فكرية تقود الإنسان إلى الكمال والترقي في جميع المجالات. وما هذه المجالات إلا أبعاده الأربعة:
أ - تقويم الأفكار والعقائد وتهذيبها عن الأوهام والخرافات.
ب - تنميه الأصول الأخلاقية.
ج - تحسين العلاقات الاجتماعية.
د - إلغاء الفوارق العنصرية والقومية.
ويصل الإنسان إلى هذه المآرب الأربعة في ظل الإيمان بالله الذي لا ينفك عن الاحساس بالمسؤولية، وإليك توضيحها:
أما في المجال الأول، أعني إصلاح الأفكار والعقيدة فنقول: لا يتمكن الإنسان المفكر من العيش بلا عقيدة، حتى أولئك الذين يضفون على منهجهم طابع الالحاد، ويرفعون عقيرتهم بشعار اللا دينية، لا يتمكنون من العيش بلا عقيدة في تفسير الكون والحياة. وإليك نظرية الدين لواقع الكون والحياة.
إن الدين يفسر واقع الكون وجميع الأنظمة المادية بأنها إبداع موجود عال قام بخلق المادة وتصويرها وتحديدها بقوانين وحدود، وقد أخضعه لنظام دقيق، فالجاعل غير المجعول، والمعطي غير الآخذ.
كما أنه يفسر الحياة الإنسانية بأنها لم تظهر على صفحة الكون عبثا ولم
يخلق الإنسان سدى، بل لتكونه في هذا الكوكب غاية عليا يصل إليها في ظل تعاليم الأنبياء والهداة المبعوثين من جانب الخالق إلى هداية مخلوقه.
هذا هو تفسير الدين لواقع الكون سر الحياة، غير أن المادي يحاول تفسير الكون بشكل مغاير، وهو يقول:
إن المادة الأولى قديمة بالذات وهي التي قامت فأعطت لنفسها نظما، وأنه لا غاية لها، ولا للإنسان القاطن فيها.
وبعبارة أخرى، إن للكون في نظرية الإنسان الإلهي بداية ونهاية، فإن نشوءه من الله سبحانه، كما أن نهايته باسم المعاد إلى الله تعالى.
غير أن الكون في نظرية الإنسان المادي فاقد للبداية والنهاية، بمعنى أنه لا يتمكن من ترسيم بدايته، وأنه كيف تحقق وتكون ووجد؟ بل كلما سألته يجيبك: ب " لا أدري ". كما أنه لا يتمكن من تفسير نهايته وغايته، ولو سألته عن ذلك لأجابك ب " لا أعلم ". فهذا العالم عند الفيلسوف المادي أشبه بكتاب مخطوط مخروم قد سقطت من أوله وآخره أوراق مما أدخله في إطار الابهام، فلا يقف الإنسان على بدئه ولا على ختامه فالفيلسوف المادي جاهل ببدء العالم وختامه وليس له هنا جواب سوى " لا أدري ".
وبعبارة ثالثة: لم تزل الأسئلة الثلاثة التالية عالقة بذهن الإنسان منذ أن عرف يمينه من يساره، وهي:
1 - إنه من أين؟
2 - وإلى أين؟
3 - ولماذا خلق؟.
وهذه الأسئلة الثلاثة يجيب عنها الفيلسوف الإلهي بأجوبة رصينة تتضح
من خلال هذه الرسالة، وإجمالها أن البداية من الله، وأن نهاية المطاف هي الله سبحانه * (إنا لله وإنا إليه راجعون) *، وإن الغاية هي التخلق بالقيم والمثل الأخلاقية والاتصاف بأسمائه وصفاته سبحانه. غير أن المادي يكل عند الإجابة عن هذه الأسئلة ولا يأتي بشئ مقنع.
وعلى هذا الأساس قلنا إن للدين دورا في تصحيح الأفكار والعقائد.
ومن خلال المقارنة بين الفكر الإلهي والمنهج المادي في الإجابة على الأسئلة الثلاثة يعلم الإنسان أن التكامل الفكري، إنما يتحقق في ظل الدين، لأنه يكشف آفاقا وسيعة أمام عقليته وتفكيره، في حين أن المادي يملأ الذهن بالجهل والإبهام، بل يقوده إلى الخرافات. إذ كيف يمكن للمادة أن تمنح نفسها نظما؟ وهل يمكن أن تتحد العلة والمعلول، والفاعل والمفعول، والجاعل والمجعول؟.
هذا ما يتعلق بدور الدين في مجال إصلاح الفكر والعقيدة.
وأما في المجال الثاني، وهو ما يتعلق بتنمية الدين للأصول السامية للأخلاق فنقول: إن العقائد الدينية تعد رصيدا للأصول الأخلاقية إذ التقيد بالقيم ورعايتها لا ينفك عن مصاعب وآلام يصعب على الإنسان تحملها إلا بعامل روحي يسهلها ويزيل صعوبتها له، وهذا كالتضحية في سبيل الحق والعدل ورعاية الأمانة ومساعدة المستضعفين. فهذه بعض الأصول الأخلاقية التي لا تنكر صحتها، غير أن تجسيدها في المجتمع يستتبع آلاما وصعوبات، كما يستتبع الحرمان من بعض اللذائذ، فما هو ضمان تحقق هذه الأصول؟.
إن الاعتقاد بالله سبحانه وإن في إجراء كل أصل من الأصول الأخلاقية أجرا كبيرا يصل إليه الإنسان في الحياة الأخروية، خير عامل لتحبيذ الإنسان وتشويقه على إجرائها والتلبس بها في حياته الدنيوية، ولولا ذاك الاعتقاد ولأصبحت الأخلاق نصائح وعظات جافة لا ضمان لإجرائها
وفي هذا الصدد يقول ويل ديوارانت المؤرخ المعاصر: " لولا الدين لتجلت الأخلاق وكأنها أشبه بالمبادلات الاقتصادية، ولصارت الغاية منها الفوز بالنجاح الدنيوي، بحيث لو كان النجاح والفوز مضادا للقيم لتمايل عنها، لكون الغاية في جانب اللاقيم، وإنما هي العقيدة الدينية التي تترك الاحساس بالمسؤولية في روح الإنسان " .
وأما في المجال الثالث، وهو ما يتعلق بتوطيده العلاقات الاجتماعية، فنذكر فيه ما ذكرنا في دعمه الأخلاق السامية. فإن العقيدة الدينية تساند الأصول الاجتماعية لأنها تصبح عند الإنسان المتدين تكاليف لازمة، ويكون الإنسان بنفسه مقودا إلى العمل والإجراء.
غير أن تلك الأصول بين غير المتدينين لا تراعى إلا بالقوى المادية القاهرة. وعندئذ لا تتمتع الأصول الاجتماعية بأي ضمان تنفيذي وهذا مشهود لمن لاحظ حياة الأمم المادية غير الملتزمة بمبدأ أو معاد.
وأما المجال الرابع، أعني إلغاءه الفوارق العنصرية والقومية المفروضة على عاتق المستضعفين بالقوة والسلطة والإغراء والجهل وتشويه الحقائق.
فنقول: إن الدين يعتبر البشر كلهم مخلوقين لمبدأ واحد، فالكل بالنسبة إليه حسب الذات والجوهر كأسنان المشط، ولا يري أي معنى للتمييز والتفريق وترفيع بعض وتخفيض بعض آخر، كما لا يرى معنى لوجود أناس أتخمهم الشبع وآخرين أهلكهم الجوع والحرمان.
فهذه هي المجالات الأربعة التي للدين فيها دور وتأثير واضح، أفيصح
بعد الوقوف على هذه التأثيرات المعجبة أن نهمل البحث عنه، ونجعله في زاوية النسيان؟
غير أن هنا نكتة نلفت نظر القارئ إليها، وهي أنه ليست كل عقيدة تتسم باسم الدين قادرة على خلق هذه الآثار وإبداعها، وإنما تقدر عليها كل عقيدة دينية تقوم على أساس العقل، وتكون واصلة إلينا عن طريق الأنبياء الصادقين، ففي مثل تلك العقيدة نجد الحركة والحياة، وفي غير هذه الصورة يصبح الدين عقائد خرافية تتجلى بصورة الرهبانية والميول السلبية إلى غير ذلك من الآثار السيئة التي نلمسها في العقائد الدينية التي لا تمت إلى الوحي ورجال الدين الحقيقي بصلة.
فالمفكر الغربي إذ يتهم الدين بأنه عامل التخلف والانحطاط، ومضاد للتقدم والرقي، فهو يهدف إلى أمثال هذه العقائد الدينية.
وهناك نكتة أخرى وهي: إن الدين الحقيقي يلغي الفوارق السلبية التي لا تمت إلى أساس منطقي بصلة، وأما المميزات الإيجابية التي لا تنفك عن أفراد البشر فهي غير ملغاة أبدا، فكما أن أصابع اليد الواحدة تختلف كل واحدة منها عن الأخرى، كذلك أفراد البشر يتفاوتون من حيث العقل والفكر والحركة والنشاط.
فالفوارق التي تنشأ من نفس طبيعة الإنسان غير قابلة للحذف والتغيير، وما يرفضه الدين ويحذفه عن مجال الحياة هو الامتيازات النابعة من القوة والسلطة.
إلى هنا تعرفنا على الجوانب الحقيقية للدين.
(الإلهيات - الشيخ جعفر السبحاني - الصفحة ٦ )
بتصرف يسير.