السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
من الواضح ان المفردات اللغوية هي وحدات البناء اللغوي، وان للالفاظ دلالات وضعية على المعاني المراد التعريف بها، وان من الظواهر المالوفة في لغة العرب ظاهرة الاشتراك في المعنى، وهو مايسمى اصطلاحا ب (الاشتراك) اي استعمال اللفظ في اكثر من معنى. كما نجد في اللغة العربية استعمال لفظين لمعنى واحد ويسمى(بالترادف)، كالغيم والسحاب، والعقل والنهى، والريب والشك، والبارئ والخالق.والاعتماد على المرادف اللغوي هو منهج اساسي من المناهج المتبعة في تفسيرمفردات القرآن الغريبة، ومن الامثلة العملية على وجود الترادف، وتفسيره بالمرادف، هو تفسير ابق ب (هرب)،وتفسير تفثهم ب (وسخهم)، وتفسير إجاج ب(شديد الملوحة)، وتفسير لاريب فيه ب(لاشك فيه).
وهكذا فسرت الفاظ القرآن المفردة ذات الدلالة الغريبة على القارئ والسامع بمفردة لغوية اخرى مالوفة المعنى عنده.
ولهذا الغرض اءلفت تفاسير: (مفردات غريب اءلفاظ القرآن) لبيان معانيها ودلالاتها، كمفردات الراغب الاصفهاني، وغريب القرآن للسجستاني، وغريب القرآن لابي عبيدة، وغريب القرآن لابن قتيبة وغيرها كثير.
وفي الحديث عن تفسير المفردة القرآنية بمفردة اخرى مرادفة لها ينبغي دراسة وتحليل محتوى اللفظ، وتحديد معناه الذي حمله الواضع اياها. وبالتحديد ينبغي ان تدرس هذه الالفاظ المترادفة، هل هي متكافئة في معناها بشكل كامل كما تتكافا قطع النقود من فئة واحدة؟ او كما تتكافا قطع الغيار المتعددة في اداء العمل في الماكنة الواحدة، بحيث يتحقق تمام الغرض القرآني عند استعمال اي من المفردات او لا؟
لكي يتضح لنا ذلك فلنصغ الى الراغب الاصفهاني احد اعلام مفسري مفردات القرآن،ومن اوائل المؤلفين فيه، ليحدثنا عن تفسير المفردة القرآنية بمفردة اخرى مرادفة لها.
قال(في مقدمة كتابه (المفردات في غريب القرآن):
«واتبع هذا الكتاب ان شاء اللّه تعالى ونسا في الاجل، بكتاب ينبئ عن تحقيق الالفاظ المترادفة على المعنى الواحد، وما بينها من الفروق الغامضة، فبذلك يعرف اختصاص كل خبر بلفظ من الالفاظ المترادفة دون غيره من اخواته، نحو ذكره القلب مرة، والفؤادمرة والصدر مرة. ونحو ذكره تعالى في عقب قصة: (ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون)وفي اءخرى: (لقوم يتفكرون) وفي اءخرى: (لقوم يعلمون) وفي اخرى:
(لقوم يفقهون) وفي اءخرى: (لاولي الابصار) وفي اءخرى: (لذي حجر) وفي اخرى:(لاولي النهى) ونحو ذلك مما يعده من لايحق الحق ويبطل الباطل، انه باب واحد،فيقدر انه اذا فسر الحمدللّه، بقوله الشكر للّه، ولا ريب فيه، بلا شك فيه فقد فسر القرآن،ووفاه التبيان، جعل اللّه لنا التوفيق رائدا، والتقوى سائقا، ونفعنا بما اولانا، وجعله لنامن معاون تحصيل الزاد المامور به في قوله تعالى: (وتزودوا فان خير الزادالتقوى)».
وبذا يوضح الراغب احد ائمة التفسير اللغوي ان المترادفات في اللغة غير متساوية في المعنى تمام التساوي، وان هناك فارقا في المعنى بين مرادف ومرادف آخر زائدا على مرادفه، فالمترادفان بينهما اشتراك في المعنى اضافة الى معنى اضافي، غير ان المرادف يقوم بدور الوسيط في ايضاح مرادفه، وليس هو المؤدي تمام المعنى والاداء المساوي من غير فرق بينهما، ولقد طبق الراغب هذه النظرية تطبيقا عمليا على عمله التفسيري في كتابه: (المفردات في غريب القرآن) فلم يكتف بايراد المرادف كمفسر، بل اورده مع الفارق الاضافي من معنى مستبطن في اللفظ المستعمل قرآنيا، نعرف بعضا منهالايضاح هذه النظرية في التفسير اللغوي، فمثلا فسر كلمة (الريب) بقوله: (الريب ان تتوهم امرا ما فينكشف عما تتوهمه) وفسر كلمة (الشك) بقوله: (الشك: اعتدال النقيضين عند الانسان وتساويهما) وبذا يتضح الفارق بين الشك والريب في المعنى،في حين لم يفرق كثير من المفسرين بينهما، كما لم يفرق كثير من اصحاب القواميس بينهما.
وفسر (الامة) بقوله: (كل جماعة يجمعهم امر ما، اما دين واحد، او زمان واحد، اومكان واحد). ولذا فكلمة امة لا تفسر بكلمة جماعة مجردة من اضافة الامر الجامع.
وهكذا فان كلمة (جماعة) لا تساوي كلمة (امة)، بشكل كامل. وفي تفسيره (للخشوع)(بالضراعة)، وضح الفارق في المعنى بين المترادفين بقوله: (الخشوع: الضراعة،واكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح، والضراعة اكثر ما تستعمل في مايوجد في القلب، ولذلك قيل فيما روي: اذا ضرع القلب خشعت الجوارح، وفسر(السغب) بقوله: (هو الجوع مع التعب، وقد قيل في العطش مع التعب).
بينما فسر السغب في قواميس اللغة بالجوع مجردا من حالة التعب. وهكذا فتفسيرالسغب بالجوع مجردا، لا يؤدي الغرض القرآني من استعمال كلمة السغب، ولم يستعمل كلمة جوع، لانها لا تعبر عن تمام المراد، وهو وصف الحالة التي تسيطرعلى الناس في ذلك اليوم (جوع ونصب)، او (جوع يخالطه عطش وتعب) او كل هذه الحالات.
وفسر الاشفاق مفرقا بينه وبين مرادفه، الخوف، بقوله: (والاشفاق عناية مختلطة بخوف، لان المشفق يحب المشفق عليه، ويخاف ما يلحقه.
قال: (وهم من الساعة مشفقون) فاذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه اظهر، واذا عدي بفي فمعنى العناية فيه اظهر. قال: (انا كنا قبل في اهلنا مشفقين).
وفسر الهداية بقوله: (الهداية: دلالة بلطف ... المزید ثم قال: ان قيل كيف جعلت الهداية دلالة بلطف، وقد قال اللّه تعالى: (فاهدوهم الى صراط الجحيم) ويهديه الى عذاب السعير.قيل: ذلك استعمل فيه استعمال اللفظ على التهكم مبالغة في المعنى، كقوله: فبشرهم بعذاب اليم.
وبهذا التفسير نفهم الفارق بين تفسير من يفسر الهداية بانها: دلالة بلطف، وبين من يفسرها بالدلالة كمرادف لها.
فالتفسير الاول يوضح مراد القرآن المودع في هذه الكلمة كاملا، ليوضح للناس ان اللّه سبحانه دلهم على الطريق بلطف، بينما لا يوضح التفسير الثاني عنصر اللطف في الدلالة، لذا فهو ليس تفسيرا تاما لمراد القرآن الكريم من استعمال لفظ الهداية دون مرادفها.