الكربلائي ( 56 سنة ) - العراق
منذ 3 سنوات

تفسير الاية (وإذا قال الله ياعيسى ابن مريم …)

تفسير قول الله تعالى : وَ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ


إن المراد من قوله تعالى: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم، أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " " إذ " ظرف متعلق بمحذوف يدل عليه المقام، والمراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها: " قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " وقول عيسى عليه السلام فيها " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم ". وقد عبرت الآية عن مريم بالأمومة فقيل: " اتخذوني وأمي إلهين " دون ان يقال: " اتخذوني ومريم إلهين " للدلالة على عمدة حجتهم في الألوهية وهو ولادته منها بغير أب، فالبنوة والأمومة الكذائيتين هما الأصل في ذلك فالتعبير به وبأمه أدل وأبلغ من التعبير بعيسى ومريم. و " دون " كلمة تستعمل بحسب المآل في معنى الغير، قال الراغب: يقال للقاصر عن الشئ " دون " قال بعضهم: هو مقلوب من الدنو، والأدون الدنى، وقوله تعالى: " لا تتخذوا بطانة من دونكم " أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة، وقيل: في القرابة، وقوله: " ويغفر ما دون ذلك " أي ما كان أقل من ذلك، وقيل: ما سوى ذلك، والمعنيان متلازمان، وقوله: " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " أي غير الله، انتهى. وقد استعمل لفظ " من دون الله " كثيرا في القرآن في معنى الاشراك دون الاستقلال بمعنى أن المراد من اتخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتخذ غير الله شريكا لله سبحانه في الوهيته لا أن يتخذ غير الله إلها وتنفى ألوهية الله سبحانه فإن ذلك من لغو القول الذي لا يرجع إلى محصل فإن الذي أثبته حينئذ يكون هو الاله سبحانه وينفى غيره، ويعود النزاع إلى بعض الأوصاف التي أثبتها فمثلا لو قال قائل: " إن الاله هو المسيح ونفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الاله تعالى وتوصيفه بصفات المسيح البشرية، ولو قال قائل: إن الأصنام أو أرباب الأصنام آلهة ونفى الله تعالى وتقدس فإنه يقول بأن للعالم إلها فقد أثبت الله سبحانه لكنه نعته بنعت الكثرة والتعدد فقد جعل لله شركاء، أو يقول كما يقوله النصارى: إن الله ثالث ثلاثة أي واحد هو ثلاث وثلاث هو واحد. ومن قال: إن مبدأ العالم هو الدهر أو الطبيعة ونفى أن يكون للعالم إله تعالى عن ذلك فقد أثبت للعالم صانعا وهو الله عز اسمه لكنه نعته بنعوت القصور والنقص والامكان. ومن نفى أن يكون لهذا النظام العجيب مبدأ أصلا ونفى العلية والتأثير على الرغم من صريح ما تقضى به فطرته فقد أثبت عالما موجودا ثابتا لا يقبل النفي والانعدام من رأس أي هو واجب الثبوت وحافظ ثبوته ووجوده إما نفسه وليس لطرو الزوال والتغير إلى أجزائه، وإما غيره فهو الله تبارك وتعالى، وله نعوت كماله. فتبين أن الله سبحانه لا يقبل النفي أصلا إلا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول. والملاك في ذلك كله أن الانسان إنما يثبت الاله تعالى من جهة الحاجة العامة في العالم إلى من يقيم أود وجوده ويدبر أمر نظامه ثم يثبت خصوصيات وجوده فما أثبته من شئ لسد هذه الخلة ورفع تلك الحاجة فهو الله سبحانه ثم إذا أثبت إلها غيره أو أثبت كثرة فإما أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته والحد في أسمائه، أو يثبت له شريكا أو شركاء تعالى عن ذلك، وأما نفيه وإثبات غيره فلا معنى له. فظهر أن معنى قوله: " إلهين من دون الله " شريكين لله هما من غيره، وإن سلم أن الكلمة لا تؤدى معنى الشركة بوجه، قلنا: إن معناها لا يتعدى إتخاذ إلهين هما من سنخ غير الله سبحانه وأما كون ذلك مقارنا لنفى الوهيته تعالى أو إثباتها فهو مسكوت عنه لا يدل عليه لفظ وإنما يعلم من خارج، والنصارى لا ينفون الوهيته تعالى مع اتخاذهم المسيح وامه إلهين من دون الله سبحانه. قوله تعالى: " قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " إلى آخر الآية هذه الآية والتي تتلوها جواب المسيح عيسى بن مريم عليه السلام عما سئل عنه وقد أتى عليه السلام فيه بأدب عجيب: فبدأ بتسبيحه تعالى لما فاجأه أن سمع ذكر مالا يليق نسبته إلى ساحة الجلال والعظمة وهو اتخاذ الناس إلهين من دون الله شريكين له سبحانه فمن أدب العبودية أن يسبح العبد ربه إذا سمع ما لا ينبغي أن يسمع فيه تعالى أو ما يخطر بالبال تصور ذلك، وعليه جرى التأديب الإلهي في كلامه كقوله: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه " (الأنبياء: 26) وقوله: " ويجعلون لله البنات سبحانه " (النحل: 57). ثم عاد إلى نفى ما استفهم عن انتسابه إليه، وهو أن يكون قد قال للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله، ولم ينفه بنفسه بل بنفي سببه مبالغة في التنزيه فلو قال: " لم أقل ذلك أو لم أفعل لكان فيه إيماء إلى إمكان وقوعه منه لكنه لم يفعل، لكن إذا نفاه بنفي سببه فقال: " ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " كان ذلك نفيا لما يتوقف عليه ذلك القول، وهو أن يكون له أن يقول ذلك حقا فنفى هذا الحق نفى ما يتفرع عليه بنحو أبلغ نظير ما إذ قال المولى لعبده: لم فعلت ما لم آمرك أن تفعله؟ فإن أجاب العبد بقوله: " لم أفعل " كان نفيا لما هو في مظنة الوقوع، وإن ثم أشار بقوله: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " ليكون تنزيها لعلمه تعالى عن مخالطة الجهل إياه، وهو وإن كان ثناء أيضا في نفسه لكنه غير مقصود لان المقام ليس بمقام الثناء بل مقام التبري عن انتساب ما نسب إليه. فقوله عليه السلام: " تعلم ما في نفسي " توضيح لنفوذ العلم الذي ذكره في قوله:" إن كنت قلته فقد علمته " وبيان أن علمه تعالى بأعمالنا وهو الملك الحق يومئذ ليس من قبيل علم الملوك منا بأحوال رعيته بارتفاع أخبار المملكة إليه ليعلم بشئ ويجهل بشئ، ويستحضر حال بعض ويغفل عن حال بعض، بل هو سبحانه لطيف خبير أما قوله: " إنك أنت علام الغيوب " ففيه بيان العلة لقوله: " تعلم ما في نفسي " " الخ "، وفيه استيفاء حق البيان من جهة أخرى وهو رفع توهم أن حكم العلم في قوله: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك " مقصور بما بينه وبين ربه لا يطرد في كل شئ فبين بقوله: " إنك أنت علام الغيوب " أن العلم التام بجميع الغيوب منحصر فيه فما كان عند شئ من الأشياء وهو غيب عن غيره فهو معلوم لله سبحانه وهو محيط به.

1