( 45 سنة ) - العراق
منذ 3 سنوات

التوازن بين الخوف والرجاء

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . نقرأ في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الله رؤوف رحيم بعباده، وأنّه يغفر الذنوب بتوبة عبده توبةً نصوحاً، ومن جهة أخرى نقرأ أيضاً أنّه يعذّب بعض الناس على ذنب بسيط مدة من الزمن، فكيف نوفق بين غفران الله للذنوب بمجرد توبة عبده وبين عذابه لمجرد معصية بسيطة عشرات السنين كإن تكن مثلاً خروج كلمة بحق أحد خطأً أو ترك فرض صلاة سهواً، فبعد قراءة هذه المواقف حصل عندي يأس فكيف يمكننا التوفيق بين ذلك؟


وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته لا بدّ أن يعيش الإنسان التوازن في حياته، فمن جهة يخاف من الله وعذابه، ومن جهة يرجو رحمة الله تعالى، فيعيش بين الخوف والرجاء، فالخوف من سخط الله تعالى يمنعه من الوقوع في المحرّمات، ورجاء رحمة الله ورضاه يدفعه إلى أداء الواجبات والمستحبات وترك المكروهات؛ كي ينال الأجر العظيم والقربات الإلهية . وأحبّ أن أوضح شيئاً لجنابكم الكريم بخصوص الذنوب: الذنوب قد تكون ناتجة عن التقصير مع الله تعالى، وأخرى تكون ناتجة عن التقصير مع الناس، فما كان مع الله تعالى كالتقصير في أداء بعض الواجبات كالصلاة والصيام والحج وبعد ذلك انتبه لنفسه وأصلح مافاته من هذه الواجبات وتاب إلى ربه ممّا صدر منه، وطلب المغفرة من الله تعالى فإنّ الله تعالى يغفرها له وهو القائل (عزّ وجلّ): {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى}.(طه: آية٨٢)، بل أكثر من ذلك فإنّ الذنوب مهما تكن كثيرة ووصلت إلى حدِّ الإسراف من الإنسان، فإنّ الله تعالى يغفرها لقوله تعالى: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.(الزمر: آية٥٣). والجميل في الآية الشريفة أنّها تنهى عن القنوط والياس من الرحمة وتبشّر بغفران الذنوب، فإنّ الله تعالى يغفرها وهو الغفور الرحيم، وهذا المعنى أكّدت عليه الروايات الشريفة، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار".(الكليني، الكافي: ج٢، ص٢٨٨)، فالإنسان مادام يستغفر ويتوب ممَّا صدر منه من الذنوب فالله تعالى يغفرها له وتشمله الرحمة الإلهية وهو القائل (عزّ وجلّ): { وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ}.( الأعراف: آية١٥٦). أمّا الذنوب مع الناس والتجاوز على حقوق الآخرين كمَن ساء خُلقه مع أبيه أو أمّه أو إخوته أو سرق شيئاً من الآخرين أو اعتدى عليه، ففي مثل هذا اللون من الذنوب لا تُغفر بمجرد الاستغفار والتوبة، بل لا بدّ على الإنسان من أن يُصلح ما أفسده بينه وبين الناس وإرجاع حقوق الناس، وأن يطلب منهم السماح والعفو، فإذا فعل ذلك واستغفر وتاب إلى الله تعالى فالله تعالى يغفر ذنبه ويعفو عنه وهناك روايات كثيرة أكّدت على حفظ حقوق الناس وعدم الاعتداء عليهم، منها: ما ورد في تفسير الإمام العسكري(عليه السلام )فقد قال: "قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) في قوله تعالى: {اتّقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} يا معاشر شيعتنا، اتّقوا الله واحذروا أن تكونوا لتلك النار حطباً وإن لم تكونوا بالله كافرين، فتوقوها بتوقي ظلم إخوانكم المؤمنين، وإنّه ليس من مؤمن ظلم أخاه المؤمن المشارك له في موالاتنا إلّا ثقّل الله في تلك النار سلاسله وأغلاله، ولن يكفه منها إلّا شفاعتنا، ولم نشفع إلى الله تعالى إلّا بعد أن نشفع له في أخيه المؤمن فإن عفا شفعنا، وإلّا طال في النار مكثه"(المجلسي،بحار الأنوار:ج٧٢،ص٣١٦)، وهذه الرواية تؤكّد على أنّ عفو صاحب الحق شيء لا يمكن أن يُتساهل فيه، فلابدّ من الانتباه إلى مراعاة حقوق الناس وعدم التورط فيها. فإذا اتّضح كل هذا فإنّ الله تعالى كما هو أرحم الراحمين، فالله تعالى شديد العقاب، ولكن كلٌّ في موطنه ومحله وورد في دعاء الافتتاح: "وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ وَالنَّقِمَةِ، وَأَعْظَمُ المُتَجَبِّرِينَ فِي مَوْضِعِ الكِبْرِياءِ وَالعَظَمَةِ" . فالله تعالى لا يمكن أن يظلم أحداً فهو القائل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ } (النساء:آية٤٠) فما ورد من الآيات والروايات التي تحذّر وتنذر الإنسان بالعذاب وبعضها شديد اللهجة حتى يكون الإنسان على حذر وخوف من أن يقدم على معصية، وفي الوقت نفسه يكون راجياً لرحمة الله. ودمتم موفقين.

2