السلام عليكم
لماذا تخلدت معركة عاشوراء من بين جميع المعارك السابقة والحالية، التي قتل فيها آلاف الرجال وسبيت فيها النساء؟
ولم تخلد معارك الرسول والامام علي عليهما السلام
وعليكم السلام ورحمة اللّٰه وبركاته
أهلاً بكم في تطبيقكم المجيب
الكل مخلد ويُذكر في الكتب والمراجع، وتُبحث في محلها وتحلل فيها الأحداث وتبين الحقائق وتؤخذ منها العبر والدروس.
وربما سؤالكم يكون بهذه الصيغة: لماذا التأكيد على معركة الطف؟
والاجابة - بصورة مختصرة - تكون بالنقاط التالية:
١) بعث الله تعالى نبيه محمداً (صلى الله عليه وآله) لهداية الناس وارشادهم إلى طريق الحق والسعادة في الدنيا والآخرة، ولقد حدّد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) أركان الهداية بأمرين لا ثالث لهما وهما: (كتاب الله، وعترته أهل بيته).
وهذا مما اتفق عليه المسلمون في الحديث الصحيح بل المتواتر عند الجميع الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا أيّها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي).
لكن أغلب الأمة ـ مع الأسف ـ تركت أهل البيت ولم تتمسك بهم، وبذلك فقد فارقت ركناً أساسياً من ركني الهداية، الأمر الذي أدى إلى ظهور الانحراف في المجتمع بصورة تدريجية، فصارت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي هي من أهم الواجبات الدينية حبراً على ورق، من دون أن يجرأ أحد على تطبيقها أو الحديث عنها، فوصل الأمر إلى أن يعتلي منصة الحكم ويتربع على عرش الدولة أمثال يزيد بن معاوية، الشارب للخمر، والمتجاهر بالمعاصي والكبائر من الذنوب، حتى أن الله تعالى بتر عمره ولم يحكم إلا ثلاث سنين، ففي الأولى قتل الإمام الحسين (عليه السلام)، وفي الثانية هجم على المدينة المنورة وقتل أكثر من سبعين صحابياً وسبعمائة تابعي واستباح مدينة النبي (صلى اللّٰه عليه وآله) ثلاثة أيام وانتهك الاعراض في وقعة (الحرة)، وفي الثالثة حاصر الكعبة ورماها بالمنجنيق فهدمها.
٢) إنّ الحسين (عليه السلام) عندما رأى أنّ معاوية بن أبي سفيان نصّب ولده يزيد خليفة على المسلمين قام بثورته العظيمة ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحرك ضمير الأمة؛ ليعيد شجرة الإسلام غضة طرية، يسري في عروقها تعاليم النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، فنراه ينادي حين خروجه إلى كربلاء: (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ... المزید).
فأراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يرفع بدمه ودم أولاده وأخوته وأصحابه علماً للهداية، ومناراً لكل من ينشد الاصلاح ويرفض الفساد والظلم عبر الأجيال.
٣) من الواضح لكل من يتأمل قليلاً، أن تعظيم الحوادث الماضية واحترامها من الأمور التي دأبت عليها جميع الأمم على وجه الأرض، سواء أكانت تلك الحوادث مرتبطة بأشخاص كان لهم دور في التقدم العلمي للمجتمع كالعلماء والمخترعين، أم كانت متعلقة بأشخاص كان لهم دور في انقاذ مجتمعاتهم سياسياً واجتماعياً؛ فإعادة ذكرهم إنّما هو من باب العرفان بالجميل لهذه الشخصيات، وعرفان الجميل من الأمور الفطرية التي أوجدها الله تعالى في النفس البشرية، فكل واحد منا يحترم من أحسن إليه وخدمه.
كما يمكننا أن نقول: إنّ الحوادث العظيمة التي حدثت في تأريخ أي مجتمع لها آثار لا يمكن أن تُنكر لمستقبل ذلك المجتمع، فتجديد الذكرى لهذه الحوادث هو في واقعه اعادة قراءة لتلك الحوادث كي ينتفع الناس بها، بل إنّ محاكاة تلك الحادثة له من البركات أضعاف ما يكون لنفس الحادثة حين وقوعها.
ولها دورٌ أساسيٌ في تحديد طريق الهداية للناس، وتمييز الحق من الباطل، لذا فإنّ في إحيائها بركات لا تحصى على مجتمعنا في هذا العصر.
٤) تميزت معركة الطف بأمور لا وجود لمثلها بباقي الحروب التي خاضها النبي (صلى اللّٰه عليه وآله) أو أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا شيء لا يحتاج كثير تفصيل أو تفكر، بل المتأمل بأدنى درجة يجد ذلك واضحاً جلياً، فقد تميزت من نواحٍ عدة، والتي منها:
أ) الأفراد:
فالقائد هو ولي الله في أرضه وإمام مفترض الطاعة وحجة الله على العباد، مع أهل بيته من النساء والأطفال.
أما جيشه فهو الخلص من المؤمنين العارفين، حيث قال (سلام اللّٰه عليه): «أمّا بَعْدُ، فَإنّي لا أعْلَمُ أصْحاباً أوْفَى وَلا خَيْراً مِنْ أصْحابي، وَلا أهْلَ بَيْتٍ أبَرَّ ولا أوْصَلَ مِنْ أهْلِ بَيْتِي، فَجَزاكُمْ اللهُ عَنِّي خَيْراً....».
وهذا بخلاف باقي المعارك التي كانت تحوي في جيشها المؤمنين وغيرهم كالمنافق والمنتفع ومن في قلبه مرض وغير ذلك.
ب) عدم التكافؤ:
تعلمون أن معسكر سيد الشهداء (صلوات اللّٰه عليه) في أحسن أحواله لم يتعدَ المئة حسب التتبع التأريخي، في مقابل جيش تعدَّى الألوف، وفي خضم ذلك نرى الثبات والعقيدة التي قلَّ نظيرها والتسامي بروح الإيمان تسابقاً لنيل الشهادة مسطرين بذلك لوحة لم ترسم قبل ذلك.
ج) وحشية العدو:
تدركون جيداً أن طرف المعركة هو إمام معصوم وبيت النبوة وخُلص الأصحاب، فلا شبيه لهم على الأرض حينما وقعت المعركة، ولكن العدو لم يدخر قسوة ووحشية، فلم ينجُ حتى الطفل الرضيع والأيتام والأرامل من النساء، ولم يكتفِ بذلك بل مَثَّل بالأجساد الطاهرة أيما تمثيل وقطع الرؤوس وحملها على أسنة الرماح وحرق الخيام وسلب النساء والخدر والشتم واظهار الشماتة والفرح والسرور بذلك، وسباهم بأبشع مما تُسبى نساء الروم والديلم.
وهذا لم يحدث نظيره في معارك النبي (صلى اللّٰه عليه وآله) ولا معارك أمير المؤمنين (عليه السلام).
د) نلمس بالوجدان أن معركة الطف ايقظت ضمير الأمة بعد ما عمها السبات والخنوع والاستسلام، وأصبحت سراجاً يُستضاء به ضد الظلم والطغيان والانحراف، ولولاها لطُمس الإسلام وأصبحت شريعة بني أمية هي السائدة حتى قال يزيد (عليه اللعنة):
ليت أشياخي ببدر شهدوا ***** جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرم من ساداتكم ***** وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحا ***** ثم قالوا يا يزيد لا تسل
لست من خندف إن لم أنتقم ***** من بنى أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا ***** خبر جاء ولا وحى نزل
هـ) الجانب الغيبي:
الذي يقرأ روايات أهل البيت (عليهم السلام) يجد حالة فطرية تدفع في تخليد واقعة الطف، حيث جاء: عَنِ اِبْنِ سِنَانٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: "نَظَرَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ إِلَى اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ هُوَ مُقْبِلٌ فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ وَ قَالَ إِنَّ لِقَتْلِ اَلْحُسَيْنِ حَرَارَةً فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لاَ تَبْرُدُ أَبَداً".
إلى غير ذلك مما يطول شرحه وتفصيله.
ودمتم موفقين